جاء في صحيح مسلم أن بعض المسلمين قالوا: يا رسول الله ألا تدعو علي الكفار؟ فقال عليه السلام: إن الله بعثني رحمة ولم يبعثني لعّانًا". تذكرت هذا الحديث النبوي الشريف مرتين .. أولاهما وأنا أتابع التصريحات " الشعبوية " المتصاعدة مع التماع نجم التيارات الدينية بعد فوزهم بانتخابات مجلسي الشعب والشوري ، وكلها تصب في مجري مقاطعة أمريكا والاستعداد للحرب ضدا علي إسرائيل دون إجراء حسابات دقيقة للنتائج المنتظرة . أما الثانية فلقد حملها إلي ذهني ما جري منذ فترة وأنا أتصفح علي الفيسبوك (هايدبارك عصر العولمة) آلاف التعليقات المطالبة ليس فقط بطرد السفير الإسرائيلي من مصر، بل وبإزالة إسرائيل ذاتها من الوجود. ولقد لفت نظري يومها قول شاب (معاتبًا المجلس العسكري) إن أربعين مليون شاب مستعدون للموت مقابل تخليص الأمة العربية والإسلامية من إسرائيل تلك، مردفًا صيحته باستنزال اللعنات علي كل من لا يستجيب فورًا لندائه! حوار مع الشباب ودفعًا مني للتهمة الشائعة بأننا نحن المثقفين "العجائز" لا نكلف أنفسنا عناء الحوار مع الشباب، فلقد بادرت بالاشتباك مع تلك الأطروحات صابرًا علي ما فيها من "شعبوية" قبلناها في عقدي الخمسينيات والستينيات الماضية وكانت نتيجتها هزيمة واحتلالاً ودمارًا وتراجعًا مشينًا عن برامج التنمية البشرية المطروحة آنذاك. قلت لمحاوري إنه لمن العبث - في ظل التوازنات الدولية والإقليمية والمحلية الراهنة تكرار الدعوة لإزالة الكيان الصهيوني الذي طالما استدرجنا لحروب استنفدت طاقاتنا وأهدرت مواردنا، ولولا انتصارنا عليه مرةً في أكتوبر المجيد لظلت أرضنا محتلة ولبقيت نفوسنا رهينة أبدية لمشاعر الهوان. ولكن كم كلَّفنا ذلك النصر سياسىًّا بغض النظر عن تكلفته والاقتصادية والاجتماعية الرهيبة؟ كلفنا الاعتراف بالعدو صديقًا ما أدي إلي تفكك المنظومة العربية الواهنة أصلاً، فضلا عن استنزاف موارد البلاد في إعادة إعمار مدن القنال وغيرها، بجانب إعادة هيكلة الواقع الطبقي لصالح الانفتاحيين والكومبرادور وكلاء، ومقابل هذا الاندياح في عالم الرأسمالية العالمية المتوحشة جاء العصف بالمكاسب المحدودة التي ظفرت بها الطبقات الشعبية قبل حزيران الأسود، وقد أدي هذا كله إلي تدهور الصناعة المحلية، والتراجع النسبي للمنتج الزراعي (ومصر بلد فلاحي بالأساس) حتي إن الناتج المحلي للفرد في مصر عام 2010 لم يتعد 6300 دولار مقابل 33000 دولار لناتج الفرد في إسرائيل. ومن نافلة القول أنه في حالة إعلان دولة عربية الحرب علي إسرائيل فإن موارد الولاياتالمتحدة تغدو تحت تصرفها دون تحفظ، وعليه فإننا لو استحضرنا قول المؤرخ البريطاني المعاصر بول كيندي "إن انتصار أو انكسار الدول في الحرب متعلق بقاعدتها الإنتاجية قبل قدرة جيوشها علي خوض المعارك في ميادين القتال" لتوقعنا نتيجة جد سلبية لإعلاننا الحرب علي إسرائيل في الظروف الحالية غير المواتية، بما تنذر به من خسار وشرور لا يرضاها عاقل لبلاده. فإذا انتقلنا إلي الأزمة السياسية الناشئة عن عمليتي تفجيرات إيلات في 18 أغسطس العام الماضي وقتل وإصابة جنودنا الستة في طابا برد فعل العدو، فلا غرو أن يتم التعامل معها بمنطق من يدرك طبيعة إدارة الأزمات للوصول بصاحبها إلي تحقيق أفضل النتائج الممكنة. وأول ما ينبغي عمله في هذا الصدد هو قراءة الموقف في جانبيه لا من جانب واحد. وهنا تأتي أهمية القاعدة الشرعية القائلة: ناقل الكفر ليس كافرًا بالضرورة. والمغزي أنك بحاجة إلي فهم عدوك.. ماذا يقول؟ وكيف يفكر؟ وأية حجج يستخدمها دفاعًا عن نفسه؟ وهل بإمكانك تفنيد تلك الحجج للمراقب المحايد؟ وغير ذلك كثير عبر مسيرة الصراع ذاته. وتبعًا لهذه القاعدة الشرعية - قلت لمحاوري علي الفيسبوك - سآتيك بالجواب علي سؤالك الأول ذي الصيغة الزاعقة: كيف تقتل إسرائيل جنودنا وتقول لن أعتذر؟! والجواب: إسرائيل "تزعم" أنها لم تخطئ، ومن ثم فليس فلا مجال للاعتذار. إذن فسؤالك تحت الانفعال بصيغته تلك يوحي بأن إسرائيل قالت متغطرسةً: "أنا من حقي قتل جنودكم وليس علي أن أعتذر؟ " بينما واقع الحال ليس كذلك بالطبع. أما عن سؤالك الثاني فأنا متفق معك تمامًا في أن أمريكا منحازة لإسرائيل 100% وانطلاقًا من هذه الحقيقة تأتي الإجابة عن السؤال الثالث "أين جيشنا الأبي؟" وإجابتي: جيشنا يا فتاي العزيز هو الدرع السابغة علي صدر الوطن، التي تحول دون استشهاد 40 مليون مقاتل شجاع حسب قولك بسبب أزمة يمكن اجتيازها بالطرق السياسية والدبلوماسية دون التفريط في حق الشهداء الأبرار. وهو ما يعمل عليه الآن المجلس العسكري بوصفه الممثل الشرعي لسيادة الدولة والمسؤول وحده بحكم الإعلان الدستوري عن اتخاذ قرار الحرب. بعيدًا عن الفيسبوك في هذا السياق اتخذ المشير طنطاوي قرارًا بإنشاء ميليشيات من شباب بدو سيناء (بين 8 آلاف إلي 10 آلاف فرد) تحت إشراف الجيش المصري، تكون مهمتها مواجهة أية عمليات تجري علي الحدود المصرية- الإسرائيلية، تفاديا لتكرار أحداث طابا يوم 18 أغسطس. وسيقدم الجيش للمتطوعين في هذه المليشيات رواتب مجزية تكفيهم شر الاعتماد علي ما كانوا يحصلون عليه من المشاركة في عمليات التجارة غير المشروعة عبر الأنفاق, ولسوف يقوم الجيش المصري بإمدادهم بأسلحة حديثة ويدربهم عليها. وقد وافق شيخا قبيلتىْ "السواركة" و"التياها" علي تقديم رجال من قبيلتيها يؤمّنون الحدود ضد الهجمات الإرهابية وتهريب الأسلحة والمخدرات علي أي من جانبي الحدود، وذلك بعد أن توافرت معلومات استخباراتية تؤكد أن جماعة "الجهاد الإسلامي" الفلسطينية المدعومة من إيران تستعد لعمليات فدائية علي الحدود المصرية الإسرائيلية. ويمضي هذا الإجراء بجانب اعتزام مصر تدمير أنفاق التهريب من سيناء لغزة. ومعروف أن هذه التجربة قد طبقت بنجاح في العراق عامي 2006 و2007 حين اعتمد الجيش الأميركي علي زعماء القبائل السنية في المنطقة الغربية، مما ساهم في تتبع زعيم القاعدة بالعراق مصعب الزرقاوي وقتله. إن الذين يضعون استراتيجية الأمن القومي المصري نصب أعينهم قد برهنوا بهذا الإبداع التكتيكي علي مقدرتهم في حماية الناس من انتشار الإرهاب المتقنع بالدين، وعىًا منهم بأن خطر الإرهاب الذي صار عالمىًّا ليس مما يمكن السكوت عليه فهو كالسرطان الذي يضرب الجسم من داخل، بينما خطر الأعداء الخارجيين ممكن درؤه سياسىًّا بالبقاء داخل الأسرة الدولية تفاعلاً مع قوانينها ومواثيقها، وعسكرىًّا بالحوار الإيجابي مع المصدر الرئيسي للتسليح دون إهمال التوسُّع في صناعة السلاح محليا (وهو ما نراه اليوم في عملية إنتاج الدبابة M,1.A,1 مثالاً لا حصرًا) فضلاً عن التدريب المستمر للقوات المسلحة ورفع كفاءتها القتالية بالأساليب العلمية الحديثة. بهذه الإستراتيجية السياسية والعسكرية يمكن للبلاد أن تخرج من النفق المظلم، وأن تبني المستقبل المنشود لأجيالنا القادمة، والتي نرجو لوجودها علي الفيسبوك أن يكون مشمولاً بالعقل الناضج لا بالشعبوية الغوغائية المهلكة.