عندما نرصد أفكار الكاتب الكبير نجيب محفوظ نجد أنها لا تخلو من وقفة متعمقة من أجل الحرية وضرورة تحقيقها خاصة أنها باتت ملحة عند جيل جديد من الشباب، وقد آن له أن يتحرر من الكثير من المفاهيم السياسية الخاطئة، وهذا ما يثيره نجيب محفوظ في كتابه «حول الشباب والحرية» فيخاطب عقول الشباب، ويشخص مشاكلهم.. وإن هناك ثلاث دعوات تحاصر عقول الشباب: أولها دعاة التغريب، وتأثير المستشرقين السلبي علي حضارتنا الأصيلة. وثانيها: الدعوة إلي الماركسية الثورية، فالماركسية هدم لا بناء، وثالثها: دعوة السلف الصالح والتوجه إلي إغلاق النوافذ مما أدي إلي التطرف والمجاهدة بالعنف والدم. أما الرابعة وهي الدعوة الوسط.. أي الاعتدال بين اتخاذ طريق وسط معتدل يأخذ من التراث أبقاه وأنفعه، ومن الحضارة الجديدة ما يمكن استنباته في أرضها «سلمية.. سلمية». ولكن يمكن الجزم أن سائر الاتجاهات تستهدف تحقيق العدل أو العدالة بين مختلف القوي.. وان كان قد تحفظ بقدر ما خاصة وقد افتتحت سمات هذه الصالة في بنية المجتمع، مما أهدر الجانب الأخلاقي وهذا ما أبداه «نجيب محفوظ» في روايته «اللص والكلاب» فانها تثير قضايا ما بعد الثورة وهنا تتهيأ القيم الأخلاقية التي كانت سائدة داخل الإنسان وظهور سلوكيات أخري تحل محل ما تعارف عليه من القيم الإيجابية وحتي صار بطل الرواية «سعيد عمران» الذي سبب الكثير من الضجر مجرد لص من أجل أن يقتات وهروباً من الفقر والحرمان.. وهذا أيضاً مما يجعلنا نري الأمر وكأنه صراع بين الطبقات. وهذا معلم.. بل قاعدة ارتكز عليها التوجه الشيوعي- الذي تبخر حقبة الاتحاد السوفيتي- وعلي أن الفقر يؤدي إلي حتمية الصراع الدموي بين الطبقات، لكن الأمر في رواية «اللص والكلاب» يختلف إلي حد ما فالقضية متداولة من عصر إلي عصر ليس بسبب الفقر لكن لقصور الإصلاح الاقتصادي والتقاعس عن تحقيق العدالة الاجتماعية بطرق أكثر نبلا وبأساليب علمية أكثر تقدماً، وبغير ذلك تظهر أنماط شخصيات منها «رءوف علوان» الطالب الذي برر لخادمه ان السرقة من أجل سد الجوع لها المبرر الجوهري هو استمراره في الحياة، ولقد وعي الخادم «سعيد عمران». وهكذا يعترف «سعيد»: «ما حياته «يقصد السرقة ثم السجن» إلا امتداد لأفكار هذا الرجل «يقصد رءوف علوان» إذن فنحن إزاء رواية ذات تداعيات تترجم ذات الواقع من عصر إلي عصر، وان ديمومة الفساد تؤدي إلي صيرورة نضال الإنسان من أجل القيم.. الشرق.. الحق.. والوقوف ضد الشر سعياً لتحقيق الخير». مأساة «السمان» وخريف «ميرامار» وتتماهي لغة السياسة في قصص وروايات نجيب محفوظ حتي في أحرج الظروف.. فيلجأ إلي التعبير غير المباشر.. أي يتعامل مع الإبداع علي مستوي الرمز، لضرورة عدم الصراع المباشر بسبب آرائه السياسية، كذلك استعرض رؤيته السياسية من خلال «الثلاثية» بدءاً من عام 1999 وحتي الحرب العالمية الثامنة، مبرزاً موقف الوفد من الصراع ثم مجيئه إلي الحكم بدعم الإنجليز. كما جعل نجيب محفوظ من رواية «السمان والخريف» مجالاً خصباً ليصب رؤيته عن مرحلة قيام الثورة الصدمة لبعض من كانوا يتصورن أنهم علي صواب وأنهم برغم جهود مخلصة.. أصبحوا منبوذين.. هكذا كان يعبر «عيس الدباغ».. الوفدي مدير مكتب الوزير، الذي يقف مذهولاً إزاء الأحداث المريعة بدءاً من حريق القاهرة إلي محاصرة الجيش للملك، ثم الانقلاب في 23 يوليو، وبدأ «عيسي» يفقد كل شيء بما في ذلك فقد نفسه. وفي موضوع آخر نتابع: «وبعد الصمت يعاود عبدالقوي: الحارة كل لا يتجزأ وليس من العسير أن أعرف ما ينقصها ومايضرها، أما أهلها فأفراد لا حق لهم وتتعدد مشكلاتهم بتعدد أهوائهم. وفي موضع آخر من كتابات نجيب محفوظ وخاصة قصته القصيرة الحوارية «التركة» يصور السلطة - بعد التأميم وبعد اختبار القوي أومن الأقوي في تطبيق السياسة علي الشعب، نجد في هذه القصة وقد أصبحت الحارة مسرحاً للأفكار المطلقة.. والقوي الباطشة المطلقة، ففي الحارة يمكن أن يكون فيها ولي الله.. ويعود الابن بحرز من باحث عن تركة الولي الصالح ليجد أكداساً من الكتب تمثل الإرث المعنوي أو الروحي.. وأموالاً تشغله عن الموروث الديني وبينما هو في غمرة الانشغال بالمادة يقتحمه- ممثل السلطة- رجل يدعي أنه من الشرطة، ويدور الصراع وينتهي بالقبض علي الابن وفتاته ويثبتهما بالقيد.. ثم ينهب الأموال والكتب أيضاً. لقد استولت السلطة - تعبيراً عن سياسة ذلك الزمان- علي كل شيء: «التراث الروحي، المادي، الحلم.. والكل في نظرها مجرد حالات فردية لا وزن لها.. وتصبح مصدراً للتسلط والإرهاب».