عن رواية للمؤلفة كاوي هارت هيمنجز شارك الكسندر باين في كتابة سيناريو فيلم الأحفاد وأخرجه. وتأتي عودة الكسندر باين بقوة بعد غياب كعادته، كفنان مقل ومجود في أعماله. تأخذك المشاهد الأولي سريعا إلي عالم أسرة تبدو حميمة ومستقرة وسعيدة لا ينقصها سوي غياب الأب وانشغاله بعمله كمحام كبير لا يتوقف طموحه المهني عند حد، ولكنه يعود مجبرا وتحت ضغط الواجب والظروف بعد سقوط الزوجة مصابة بعنف إثر حادث. وكأنها وقفة لالتقاط الأنفاس والنظر إلي الحياة والأسرة بهدوء. ولكن هذا التوقف الإجباري والنظر من الوضع واقفا يكشف كل ما كان خافيا من زاوية عين الطائر أو من خلال حافلة أو طائرة تنهب الطريق والحياة سريعا، دون أن تتيح أي مساحات للتأمل أو حتي التعرف علي حقيقة الأشياء. باين صاحب أوسكار أحسن سيناريو من قبل عن فيلم طرق جانبية، يشيد بناء في غاية الدقة والإحكام. ويقبض علي موضوعه بقوة فلا تفلت منه لحظة ولاجملة خارج السياق. لقد أدرك أنه من خلال هذه الرواية الكنز، ومن خلال حكاية هذه الأسرة شديدة الخصوصية يمكنه أن يطرح رسالة في غاية الأهمية وبصوت في غاية الهدوء ليخاطب بها المجتمع الأمريكي بأسرة. بل يخاطب الإنسانية عموما للنظر للحياة من جديد..وللاهتمام بحق الاسرة وبهؤلاء الأحفاد الذين نزعم أننا نحبهم ونغدق عليهم العطاء ونبذل الوقت والجهد والمال من أجل إسعادهم. ولكننا في الحقيقة لا نقوم بواجبنا الأهم نحوهم وهو أن نتفهمهم ونقترب منهم ونتعامل مع واقعهم الجديد بفهم ووعي حتي يصبح بإمكاننا أن نعاونهم. جنة هاواي مسرح الأحداث المختار هو جزيرة هاواي كنموذج لجنة الله في الارض بكل ما تعكسه من صورة للحياة المخملية المثالية. ويضفي الالتزام بوحدة هذا المكان بالتحديد علي الفيلم بداية واقعا مكتملا ذا خصوصية، وذا جماليات وطبيعة ساحرة. أما التناول فهو استثنائي ومختلف. فكاميرة السينما لم اتنتقل إلي هناك لتعرض واقعا سياحيا أو أجواء شبابية مرحة منطلقة بين الشاطيء والبحر كما اعتادت السينما أن تقدمها، وإنما للتناول من منظور درامي يعتمد علي المفارقة بين هذه السمعة والواجهة البراقة للجزيرة وبين الواقع الأليم الذي سنعايشه مع هذه الأسرة. وهذا الإدراك الشديد لحالة الفيلم الدرامية المبنية علي التناقض هي محور البناء البصري وأساس تشكيل الإضاءة وتنويع المناظر بين خارجي وداخلي، بمقادير محسوبة بدقة لتحقيق التأثير المطلوب ووضع الخطوط أو الظلال تحت الجمل أو الصور الأهم في فصل واضح بين ما هو خبري وما هو درامي.. بين ما هو خارجي وسطحي.. وما هو داخلي وعميق ويتوغل من الجلد إلي عمق أعماق القلب والروح. الهروب عدوا في تلك اللحظات الفاصلة والفارقة في حياة الإنسان يتوقف نبض العالم وتضيق الحياة بالإنسان الفرد في مواجهة مصائبه. وفي أحد أروع مشاهد السينما يندفع البطل عدوا وقد تلقي صدمة عنيفة كفيلة بأن تسقط أي رجل ..إنها المقاومة والتشبث بالحياة والرغبة في مواجهة الموت والسكون بالجري والاندفاع..إنه بالتأكيد يعادل الهروب من الموت، فما قيمة الحياة حين تكتشف ان شريكتك فيها كانت تخونك. في اي شيء في هذا الوجود يمكن أن تثق وفي أي مستقبل سوف تفكر بعد ان عشت حياتك ترسم مستقبلا مشتركا مع هذه المرأة، دونا عن سائر نساء العالم.. إنها حالة من الذعر والخوف من شيء مجهول ..إنها حالة من الهروب من الذات والجلد والعالم والوعي ومن كل شيء ..فلتعدُ باقصي سرعتك وتطلق ساقيك للريح دون هدف أو هدي او امل في أي شيء.. مشهد من السينما الخالصة، يتضافر فيه الإخراج بزواياه ولقطاته مع أداء الممثل المعبر جورج كلوني ليذكرك بأروع روائع الفن الجميل وليعيد إليك الإيمان بقدرة السينما علي الابتكار والتعبير بوسائل لا يملكها أي فن آخر. لن تتوقف الآلام التي يعانيها بطلنا حين يستقر علي أرض الأجداد في الجزيرة. ولكنه سيكتشف أيضا حالة الانفصال والبعد بينه وبين ابنتيه..الصبية ذات العشر سنوات والشابة الجميلة التي ترتبط بعلاقة حب وتوشك أن تسفر عن ارتباط. وتتضاعف هموم البطل ومسئولياته باعتباره مفوضا من أسرته الكبيرة في مسألة بيع ميراث العائلة الذي يتلهف الجميع عليه لينالوا حصتهم منه. وبين محاولات التواصل مع فتياته ورحلة البحث عن عشيق زوجته وبين مفاوضات بيع الممتلكات تسير خيوط السيناريو ولكنها لا تنفصل بقدر ما تتشابك وتتلاقي وتتوحد. فالتوصل إلي سر العشيق يتم عبر الاقتراب من الفتيات.. وصفقة بيع الممتلكات تصطدم مع هذه الشخصية المقحمة علي الأسرة والمهددة لأمنها وسلامتها وتماسكها. ضعف وكبرياء وبقدر ما يبدو الإيقاع متمهلا، بقدر ما يتمكن الدرامي البارع من غرس بذوره وتنمية خيوطه وتوليف أفكاره دون أن تدري. ولتتصاعد الأحداث ويصل الصراع إلي مرحلة الغليان التي تسبق اتخاذ القرار. وعلي الرغم من جدية الموضوع ومأساويته إلا أنه لا جنوح للميلودراما. بل إن كلا من السيناريو والمونتاج وبناء المشهد السينمائي يتجنب كل اللحظات التي من شأنها إدخال المشاهد في مناطق موغلة في الألم. ولكن التأثير والتعاطف يكون أقوي لأنه يمنحك الفرصة لإكمال خيوط المواقف المؤلمة ومعايشة الشخصيات وهي تتجنب لحظات الضعف في كبرياء إنسانية شديدة الرقي. يلتزم المخرج بحركة كاميرا هادئة وانتقالات مقتصدة ولكنه يستطيع بصريا من خلال الربط والمونتاج ان يجعلك تعيش في هذه الدوائر التي يمر بها البطل والانتقال بين صفحات الفيلم الذي يلتزم ببناء ارسطي ليس علي مستوي وحدة المكان فقط لكن ربما في الزمان أيضا. فاحداث الفيلم التي تبدا بالسقوط أثناء رحلة بحرية صيفية منعزلة للأم تنتهي بمشهد دافئ وحميم للأسرة أمام التليفزيون. وبين البداية والنهاية نكون قد عشنا حياة كاملة بكل مراحلها وأجوائها. وكما تتبدل فصول السنة تتبدل احوال بطلنا. جاء ليرعي أسرته وزوجته المريضة ليكتشف أنها خائنة وليتنقل في رحلة كاملة بين جنون الفضول للبحث عن الحقيقة إلي اليقين بالخيانة إلي السعي للانتقام إلي الوصول لاكتشاف الحقيقة.. حقيقة الجريمة التي يرتكبها المرء حين ينشغل بصنع الثروة ويهمل أقرب الناس اليه ويحرمهم من حبه وحنانه واهتمامه. حضور مؤثر كعمل درامي كلاسيكي من الطراز الرفيع ستتعدد امامك المشاهد القوية المؤثرة التي يصعب أن تسقط من ذاكرتك ويستحيل الا تتوقف أمامها متأملا هذه القوة في البناء والتدفق في المشاعر والتوظيف البليغ للبناء الحركي وعناصر الديكور والإضاءة. وعلاوة علي هذا فانت بالطبع أمام مباراة في التمثيل المنضبط بقيادة مخرج متمكن. فإذا كان كلوني يصول ويجول وينتقل بين حالات ومواقف وأحداث فإن باتريشيا هستي في دور الزوجة المريضة والواقعة تحت إثر الغيبوبة في غرفة العناية المركزة تستطيع أن تفرض وجودها وتأثيرها ولو بلفتة او نظرة عين. أما شايلين وودلي الابنة الشابة فقد استطاعت أن تعبر عن التمرد والتمزق وعن المشاعر الباردة تجاه الأب التي تنمو في خط بياني طبقا لخطة أدائية مرسومة بعناية وبمنتهي الدقة. وهي بالتأكيد مشروع لنجمة مستقبل قادرة علي القيام بأدوار صعبة. والحقيقة أن براعة أداء الممثلين عموما بما فيهم من أدوا الأدوار القصيرة، تنبع أساسا من طرافتها وابتكاريتها وتكاملها في ذهن المؤلف ومنها شخصيات أولاد العم وأطرفهم بودجز بولعه بالحياة وعشقه للخمر. وكذلك الحما العصبي بصورة مفرطة مما أصابه من فقد ابنته. بل وحتي الصبية الجريئة المندفعة الفضولية. كما يتمكن السيناريو والضبط الحركي والإيقاعي للمشهد من الانتقال بمهارة من المأساة إلي الكوميديا. وتعد شخصية صديق الابنة الكبري هي الأكثر قدرة علي تخفيف حدة التوتر وصنع حالة من البهجة بفضل رسم الشخصية كنموذج لجيل خشن الطباع والأحاسيس. وهو في مواجهاته مع الأب وفي تصرفاته الفجة يثير الضحك بشدة. لكن حتي هذه الشخصية التي تبدو عنصر تخفيف كوميدي ينجح السيناريو في الاقتراب منها وكشف جوانبها الخفية. وكأن الكاتب بمهارته لا تستعصي عليه شخصية في كشف جوانبها الإنسانية وعناصر جمالها الكامنة. رحلة الألم يتميز الفيلم أيضا بحوار رشيق وخلفية موسيقية ممتعة تبرز المعني الدرامي بالتناقض معه وتتسق مع الصورة الجميلة للطبيعة الرائعة للجزيرة بشواطئها وبحرها وجذورها. وشريط الصوت عموما يتميز بمزيج مدهش للأصوات حيث تتضافر المؤثرات الصوتية مع الموسيقي التصويرية والحوار لتنسيق الأفكار ومنح المشاهد مزيدا من القدرة علي التعبير والتأثير. عبر هذه الرحلة الطويلة مع الألم والمعاناة يكتشف البطل جوانب جديدة من حقيقة الذات والآخرين. وهو من خلال هذه الخبرة الحياتية والطريقة الجديدة في التعامل مع الحياة بإيقاع يناسبها والسعي بجدية نحو فهم الأهل وتفهم افكارهم ودوافعهم..عبر كل هذا يمكنه ان يصل إلي اقصر درجات التسامح وأن يدرك أن عليه أن يبذل جهدا حقيقيا لتعويض تقصيره وغيابه عن الأهل الذين هم أغلي بكثير من الثروة التي يسعي الجميع إليها. إن الأحفاد هو أحد الأفلام التي تكشف عن خواءالحلم الأمريكي وما أصاب به العالم من طمع ومن جنون في التعامل مع الحياة والإنسان. فهل مازال بعض من الوقت يمكنه تعويض ما فات لرجل في منتصف العمر..بل ولأجيال من الأحفاد تعيش حياتها بحثا عن المتعة وهي قريبة جدا جدا قد نراها نحن في وجه فتاة جميلة رقيقة يافعة أو صبي تمتلئ عيناه بالحماسة والإقبال علي الحياة قتلهم رصاص الطغاة واختفوا في صفحات الزبالة ولم يبق من ذكراهم سوي صورة جميلة معبرة متشحة بالسواد.