ما إن حقق فيلم "الفنان" للمخرج ميشيل هازانافيسيوس نجاحه الكبير بالفوز بخمس جوائز أوسكار في 26 فبراير الماضي، من بينها أحسن فيلم، متوجا اكتساحه موسم الجوائز الأمريكية، وكذلك جوائز "سيزار" الفرنسية و"بافتا" البريطانية، حتي شهدت الأوساط الإعلامية والفنية - في كل من فرنساوالولاياتالمتحدة - جدلا واسعا حول هوية الفيلم، وما إذا كان فرنسيا أم أمريكيا، حيث نسبه كل جانب إلي نفسه، وعدّد أسبابه ومبرراته.. الجانب الأمريكي اعتمد علي أن الفيلم تم تصويره في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، وبطاقم عمل أمريكي، وأنه يتحدث عن هوليوود العشرينات من القرن الماضي، وأن شركة أمريكية هي التي اشترت حقوق توزيعه وعرضه، وأنه لو كان أجنبيا لخاض مسابقة الأوسكار في فئة الأفلام الأجنبية.. ولعل ذلك ما دفع الموقع الإلكتروني الرسمي للفيلم في الولاياتالمتحدة إلي وصفه بأنه أول فيلم أمريكي للمخرج والسيناريست الفرنسي المعروف ميشيل هازانافيسيوس، علما بأن الأكاديمية الأمريكية لفنون وعلوم السينما، التي تمنح جوائز الأوسكار، تعاملت مع الفيلم علي أنه فرنسي، وكذلك كبريات الصحف والقنوات التليفزيونية الأمريكية. أما الجانب الفرنسي، فلم يقبل أي تشكيك في هوية الفيلم، معتمدا علي أن شئون كتابته وإخراجه وإنتاجه والتمثيل فيه قام عليها فرنسيون، إلي درجة أن كبار السياسيين استغلوا انتصار الفيلم لتحقيق مكاسب انتخابية قبل انتخابات الرئاسة المقرر إجراؤها الربيع المقبل.. فقد قال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في تصريحات إذاعية: "هذا نجاح هائل للسينما الفرنسية.. أعجبت للغاية بفيلم (الفنان) بالطبع"، ووصف أداء جان دوجاردان، بطل الفيلم الفائز بأوسكار أفضل ممثل، بأنه مبهر أما منافسه الاشتراكي فرانسوا هولوند، فقال علي موقعه الإلكتروني: "برافو لفريق عمل الفيلم بالكامل، وبرافو للسينما الفرنسية". تعليق طريف وكان لمجلة "لونوفال أوبسرفاتور" الفرنسية العريقة تعليق طريف علي الحدث، حيث قالت إن الفيلم فاز بخمس جوائز أوسكار لأن الأمريكيين اعتبروه أمريكيا، ولم يفطنوا إلي أنه فرنسي.. وأضافت أنه لم يدرج ضمن فئة الأفلام الأجنبية الناطقة بغير الإنجليزية لأنه صامت! وإلي جانب جائزتي أوسكار أفضل فيلم وممثل، حصد "الفنان" جوائز الإخراج وتصميم الأزياء والموسيقي التصويرية.. وساد شعور وطني بالفخر فرنسا كلها بعد هذه الانتصارات، وعمت البلاد الاحتفالات، وأعادت محطات التليفزيون مرارا وتكرارا الكلمة التي ألقاها الممثل الفرنسي دوجاردان لدي تسلمه الجائزة، وكتبت صحيفة "لوموند" العريقة في صفحتها الأولي، أسفل صورة دوجاردان وهو يرفع تمثال الأوسكار في انتشاء: "نصر فرنسي في هوليوود". وقال الممثل الفرنسي لاذاعة (آر.تي.إل): "أحسست كمن يأخذ حماما ساخنا ولا يريد أن يخرج منه. الضغط يتلاشي ويحل محله شعور ممتع للغاية". وفي الأسبوع الماضي نشرت مجلة "باري ماتش" الشهيرة لقاء مطولا مع الممثلة ألكسندرا لامي، زوجة دوجاردان - التي تنتظر عرض ثلاثة أفلام تشارك فيها - قالت فيه إن سلوك الفرنسيين اختلف منذ ترشيح زوجها لنيل الأوسكار. وأوضحت: "كانوا يشجعون جان.. كانوا يريدونه أن يفوز من أجلهم، من أجل فرنسا. نتصور وكأننا عدنا إلي عام 1998 خلال مباريات كأس العالم لكرة القدم حين فازت فرنسا بالكأس". وتحول دوجاردان، الذي فاز أيضا بجائزة أحسن ممثل عن نفس الدور بمهرجان "كان" في مايو الماضي، إلي بطل قومي في بلاده، باعتباره أول فرنسي علي الإطلاق يفوز بأوسكار أفضل ممثل، ورفعه الجمهور والنقاد إلي مصاف النجوم الفرنسيين الكبار من أمثال موريس شوفالييه وإيف مونتان، رغم أنه أبدي عشقه لكل ما هو أمريكي، وقلد بول نيومان وروبرت دي نيرو ورقص علي الطريقة الأمريكية خلال استضافته في "توك شو" المذيع الأمريكي الشهير جاي لينو.. وكان ذلك نفس سلوك المخرج هازانافيسيوس، الفرنسي من أصل ليتواني، الذي أهدي أوسكار أفضل مخرج للمخرج الأمريكي الكبير الراحل بيلي وايلدر ثلاث مرات، ولم يهده لسواه، كما أنه كان أصلا قد صنع فيلمه حبا في هوليوود العشرينات والسينما الأمريكية الكلاسيكية. اتهام قاس وفي إطار الصراع، وجهت الممثلة الأمريكية القديمة، كيم نوفاك، اتهاما قاسيا لفيلم "الفنان" وصناعه، حيث قالت إنهم "اغتصبوا" فيلم ألفريد هيتشكوك الشهير "دوار" (1958)، الذي شاركت في بطولته.. وأوضحت أن لودوفيتش بورس، مؤلف موسيقي "الفنان"، والحائز عنه علي جائزة الأوسكار، سرق لحنا رئيسيا قدمه نظيره المعروف برنارد هرمان في فيلم "دوار"، مشيرة إلي أن صناع "الفنان" سعوا للحصول علي مجد لا يستحقونه علي أكتاف هيتشكوك وهرمان، وقالت بالحرف الواحد: "عار عليهم"! وردا عليها، أصدر هازانافيسيوس بيانا قال فيه: "صنعنا فيلمنا كرسالة حب إلي السينما، واعتبرناه نتاجا لاحترامنا وإعجابنا بالأفلام علي مر التاريخ. كانت أعمال هيتشكوك، ولانج، وفورد، ولوبيتش، ومورنو، ووايلدر، مصدر إلهامنا. شخصيا، أحب برنارد هرمان وموسيقاه التي استخدمت في العديد من الأفلام، وسعيد للغاية بأنها موجودة في فيلمي. أحترم كيم نوفاك بشدة وأشعر بالأسف لأنها لا توافقني الرأي".. كما قال لقناة "سي. إن. إن" الأمريكية: "استخدمت موسيقي من فيلم آخر، لكن ذلك ليس ضد القانون. لقد طلبنا ذلك، وحصلنا علي الإذن، ودفعنا المقابل المادي. هناك أفلام كثيرة مليئة بموسيقي أفلام أخري، ولا أري في ذلك أي مشكلة". "الفنان"، الذي أعتبره شخصيا - وبلا جدال - فرنسيا لأن الأفلام الآن تنسب لمخرجيها، فيلم مستقل، ويعد إنتاجا صغيرا بمعايير السينما العالمية، حيث تكلف 15 مليون دولار فقط، ورغم ذلك حقق إيرادات عالمية بلغت 77 مليون دولار حتي 29 فبراير الماضي.. وكان قد حصل، قبيل حفل الأوسكار، علي أربع من جوائز الروح المستقلة الأمريكية التي تكرم الأفلام المستقلة التي تقل ميزانيتها عن 20 مليون دولار. الحنين إلي الماضي لم يبالغ هازانافيسيوس في وصف فيلمه، فهو بالفعل تحية إلي فن السينما الساحر، خاصة في بداياته.. صنع صامتا بالأبيض والأسود، ليفجر مشاعر الحنين العاطفية إلي الماضي الكلاسيكي الجميل، واعتمد علي الموسيقي والاستعراضات الراقصة ليحقق متعة نادرة لمشاهديه، وليصبح أول فيلم صامت يحصل علي أوسكار أفضل فيلم منذ عام 1927 . وهذا العام تحديدا هو الذي يعود إليه المخرج - وهو أيضا كاتب السيناريو - ليحكي قصة نجم سينمائي للأفلام الصامتة في هوليوود يصبح في نظر المنتجين السينمائيين بلا قيمة مع بداية ظهور الفيلم الناطق، ومع تدهور أحواله يضطر لبيع كل ما يملك ليستطيع أن يعيش، ثم يصيبه الإحباط الكامل فيحرق بيته، ويصبح علي وشك الموت. ويجد البطل الخلاص في الحب، حيث يبتسم الحظ لفتاة بدأت "كومبارس" معه في أحد أفلامه، وتتحول إلي نجمة شهيرة مع ظهور السينما الناطقة، لكنها لا تنسي مشاعر الحب والإعجاب التي تكنها له، فتمد له يد الوفاء والإخلاص وتعيده إلي فنه الذي أحبه، السينما، عن طريق إقناعه بأن يقدما سويا أفلاما راقصة.. عمل بسيط وشديد العمق والعذوبة في نفس الوقت، استطاع أن يتفوق علي أفلام هوليوود التي تكلفت مئات الملايين من الدولارات، ليثبت مجددا أن الفن العظيم يصنع بالأفكار الكبيرة والمشاعر الصادقة، وليس بالمال الوفير. ومن المقرر طرح الفيلم علي اسطوانات "دي. في. دي" في 24 أبريل المقبل.