عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الفلاح الفصيح» بين فن المونولوج والأداء العالي
نشر في القاهرة يوم 28 - 02 - 2012

لقد ( شاهدنا) الفلاح مع زوجته وهو يحمّل حميره، ثم (شاهدناه) مع "الشحوتي" وهو موظف حكومي كبير سرق منه حميره وما عليها، ثم شاهدناه وهو يضربه ضربا مبرحا والفلاح المسكين يصرخ غير أننا لا نعثر في كلماته علي أثر لضعف أو استكانة. ثم (شاهدناه) و(سمعناه) يهدد باللجوء للرئيس "رنزي" رئيس المقاطعة التي تتبعها المزرعة التي سُرق فيها. كما عرفنا عن الرئيس رنزي قبل أن نراه، أنه عادل وحازم لأنه قضي علي قطاع الطرق في تلك الناحية وذلك عندما استمعنا إلي الفلاح وهو يقول: فهل أُسرق أنا في مزرعته؟ هكذا ظل المسكين يتوسل لعشرة أيام، ولكن الشحوتي ظل سادرا في غيه ورفض أن يعيد إليه حميره المحملة بكل الأشياء الغالية من منتجات وادي النطرون في ذلك الزمن البعيد. وهنا ينتقل النص إلي المشهد الثالث في تتابع درامي تحكمه الضرورة والحتم، لأنه من الضروري ومن المحتم أن يذهب لتقديم "عرضحالة" إلي الرئيس "رنزي" وهنا أعود إلي البردية : "ومضي ذلك الفلاح علي الطريق متجها جنوبا إلي "أهناس" ليرفع شكواه للرئيس رنزي ابن "ميرو" فرآه بينما كان خارجا من أبواب منزله في طريقه إلي مكتبه، فقال له الفلاح:أود أن تسمح لي أن أثير اهتمامك بموضوع معين، هذا إذا تفضلت بأن ترسل لي شخصا من رجالك تثق به لكي أخبره بالموضوع. يا لجمال المشهد وقوة تركيزه، المؤلف هنا يثبت أنه علي وعي بالأبعاد النفسية لأي مسئول كبير، كما أنه يضيف لشخصية الفلاح بعدا جديدا. الفلاح هنا علي وعي بأن وقت الرئيس "رنزي" ضيق. وهو كأي مسئول يضيق بأصحاب الحاجات والشكاوي، لذلك لا داعي لأن يصيح به:سيدي الرئيس، لقد سرقني أحد رجالك، بالتأكيد سيشعر المسئول بالغضب والضيق، وبالتالي لن يتعاطف معه بالقدر الكافي، هو فقط يريد توصيل رسالته بسرعة في إطار من الرقة والتهذيب، وهو بجملته هذه هو يقول: إنني أقدّر انشغالك، وأقدّر أن وقتك ضيق، لكن لدي أمر مهم أنا واثق أنه سيحظي باهتمامك، ارسل لي بشخص تثق به وأنا واثق أنه سينقل لك الموضوع بأمانة. مسرحي وليس أدبيا هذه الطريقة في الاقتراب من المسئول لابد أن تترك فيه أثرا طيبا وأن تثير اهتمامه. هذا المشهد يدعم تصورنا من أننا أمام نص فني مكتوب لعرض مسرحي وليس نصا أدبيا، يروي أو يقرأ. فلو كانت قصة أو حكاية تحكي أو رواية تروي لاكتفي المؤلف بالقول " وقابل الرئيس "رنزي" وأخبره بما حدث. ولكنك ( تشاهد) رنزي وهو خارج من منزله داخلا مكتبه و(نشاهد) الفلاح وهو يقترب منه في لطف ثم (نسمعه) وهو يلقي بجملته القصيرة المؤثرة. وهنا سأتوقف لحظات لأقول لك ان الأستاذ برستيد صاحب كتاب " مصر فجر الضمير" قال ان الفلاح قابل المسئول الكبير بينما كان خارجا من المعبد. وأنا أميل لتصديق ذلك، فعندما تقابل مسئولا كبيرا خارجا من جامع أو كنيسة أو معبد فأنت تضمن بذلك أن يكون في حالة صفاء عقلي وحالة سمو روحي تجعلانه أقرب إلي التعاطف والإنصاف، أو علي الأقل يحرص علي التظاهر بذلك.. أعود للنص. " عندها سمح الرئيس رنزي ابن ميرو لأحد أتباعه المخلصين بالذهاب إلي الفلاح الذي أخبره بكل ما حدث. وأمام كبار المسئولين ( المجلس المحلي أو مجلس المدينة) الذين كانوا حوله وجه الرئيس رنزي الاتهام للشحوتي نخت فقالوا له: في الغالب هذا فلاح من أتباعه، ذهب ليشكو للآخرين بدلا من أن يشكو له.. هو يتصرف علي هذا النحو، هذه هي الطريقة التي يعاقب بها الشحوتي أتباعه الذين يتخطونه ويذهبون للآخرين، هل ستعاقب الشحوتي لمجرد أنه استولي علي القليل من النطرون والملح..؟ أصدر أوامرك بأن يحصل علي قدر مساو لما أُخذ منه، عند ذلك يعطيها له الشحوتي علي الفور". لنتوقف قليلا عند هذا المشهد لنتعرف علي مصدر مهم من مصادر الضحك عند المصريين وهو الإحساس القوي بالمسئولية عند الفنان والذي نسميه الضمير. الفنان هنا يثبت أنه خبير لا يشق له غبار بالبيروقراطية، هو خبير بألاعيبها ومنطقها الذي يبدو في الظاهر صحيحا بينما هو في واقع الأمر زائف. هل تذكر البضائع التي حمّلها الفلاح علي حميره؟ لقد حرص النص علي ذكر أنواع كثيرة ومختلفة من منتجات الواحة بالإضافة إلي الأحجار الكريمة، كل ذلك تحول في منطق البيروقراطية إلي قليل من الملح والنطرون.. لا مشكلة هناك.. هذا فلاح متمرد، يذهب إلي تقديم شكواه للآخرين بدلا من تقديمها لولي أمره وهو الشحوتي، فعاقبه الأخير، وعلي العموم بسيطة.. ياخد شوية الملح بتوعه. سؤال: هل كان الفلاح موجودا في هذا المشهد؟ الإجابة: نعم.. بالرغم من أن النص لم يورد ذلك صراحة إلا أن الترجمة عند الأستاذين بريستيد وبادج تقول (وعندها لزم الرئيس رنزي الصمت، لم يتكلم مع الفلاح أو مع المسئولين) كان الفلاح إذن موجودا في المشهد ولك أن تتصور حالته وهو يستمع لهؤلاء الكبار يزورون ويزيفون الحقائق مدافعين عن زميلهم اللص، انظروا إليه وهو يفاجأ بأنه مجرد واحد من رعايا المسئول الحرامي، وأنه هو المخطئ لأنه تخطي رئيسه المباشر عند تقديم شكواه، وأنه لا داعي لهذه الضجة بسبب قليل من الملح والنطرون، انظر إلي تقاطيع وجهه وردود الفعل عليها ثم اضحك بشدة علي أعلي درجات شر البلية. العادل الحازم لكن لماذا سكت الرئيس رنزي عند هذا الحد؟ لماذا لم يأمر فورا بالتحقيق لمعرفة حقيقة ما حدث وهو المسئول العادل الحازم؟ الواقع أن هذا السؤال حيرني طويلا من الناحية الدرامية. فالاجتماعات الرسمية لا تنفض بهذه السرعة، ولماذا لم يتكلم المسئول؟ لماذا لم يتكلم الفلاح؟ ماذا حدث في هذا الاجتماع ودفع الرئيس رنزي إلي الصمت؟ أتصور أن رنزي كرجل دولة متمرس، اكتشف أنه قد وقع علي صيد فكري وسياسي ثمين، هذا الفلاح معارض رشيد للنظام، حكيم ومثقف ومهذب، كان ذلك واضحا من أول جملة قالها له في لقائهما الأول، هو إذن يصلح كمصدر مهم من مصادر قياس الرأي العام، من الأفضل أن يسكت، وأن يبقي الحال علي ما هو عليه، لكي يعرف المزيد وهو ما حدث فعلا بعد ذلك. غير أن المشهد يظل مع ذلك ليس متكاملا ولدي تصوران، الأول أن تكون هذه البردية خاصة بالممثل الذي يلعب دور الفلاح، لذلك حرص علي تسجيل حواره كاملا مكتفيا من حوار الآخرين بمجرد المفاتيح. التصور الثاني هو أن المشهد بطبيعة تركيبته يصلح للارتجال، تخيل ما سيقولونه من حوار في هذا المشهد الثري دراميا، هم بالقطع سيفتكون بالفلاح بقدر من الأكاذيب والتحامل يضحك لها طوب الأرض. أنا أقرب إلي التصور الثاني، فمن ناحية الصنعة، لابد أن يضحك المتفرجون بشدة في هذا المشهد لكي يحدث لهم "التطهير" المطلوب لاستيعاب المشهد القادم وهو مونولوج العرضحال الأول. العرض الفكاهي هنا داخل علي الجد ولابد من القضاء علي توتر المتفرج ومقاومته نهائيا في هذا المشهد لكي يتمكن من استيعاب الأفكار الثقيلة القادمة، هكذا تتسلل إلي أعماقه وروحه في نعومة وانسياب.. لنعد إلي النص العرضحال الأول من خونانبي إلي رنزي سيدي الرئيس، مولاي، يا أعظم العظماء، أيها المتصرف في كل ما هو كائن وكل ما لم يأت بعد إلي الوجود. عندما تبحر في بحر الحقيقة، وتسير فوق مياهها، ليحفظ الله شراعك من التمزق، ويجعل قاربك بعيدا عن الوحل. اللهم احفظ صاريك من أية كارثة، واحفظ دفتك سليمة فلا تنكسر أبدا. اللهم امنع تيارات النهر من أن تجرفك بعيدا عن طريقك وليحفظك الله من كوارث النهر، ويبعد عنك الخوف. السمكة الحذرة ستأتي إليك، وستمسك بالإوز الكبير لأنك أبو اليتيم، وزوج للأرملة وأخ لكل من ليس لها رجل، وأنت الغطاء الحامي لكل من لا أم له. أرجوك، اسمح لي أن أقيم من اسمك صرحا علي هذه الأرض أقوي من أي قانون، فأنت الحاكم المبرأ من شهوة السرقة، وأنت العظيم الذي لا يعرف الصغائر والذي يقضي علي الباطل ويحق الحق، وأنت من يأتي علي صيحة الشاكي. اهزم الشر، أنا أصيح من أعماقي فهل تسمعني..؟ نفذ القانون، أنت أيها الممدوح الذي يمدحه كل الممدوحين، ارفع عني غمتي التي تسحقني، قلبي يملؤه الحزن، نظرة يا سيدي، فأنا أعاني متاعب مريرة، أنصفني ففي الحقيقة، أنا عانيت خسارة كبري". هذا هو العرضحال الأول، لقد فشلت خطة الفلاح في الحصول علي حقه بالطريق الإداري، أبلغ المسئول غير أنه لم يحصل علي شيء فلم يعد أمامه غير أن يسلك طريق التوسل والعاطفة والاستعطاف والنفاق أيضا. لاشك أن أبناء جيلي من العجائز مازالوا يتذكرون هؤلاء الشحاذين المداحين الذين كانوا يستجدون عتد أبواب البيوت بإنشاد المديح الجميل علي نغمات الدفوف محولين الاستجداء إلي فن جميل يسعد أهل البيت ويملأ قلوبهم بالحنان والشفقة. هذا هو بالضبط ما فعله الفلاح، لجأ لهذه الطريقة الخالدة ( يا ابن الحلال.. إلهي ربنا يسعدك وينصرك علي مين يعاديك.. ربنا يكرمك ويوقف لك ولاد الحلال ويبعد عنك كذا وكذا) فهل ستنجح خطته الجديدة في الحصول علي حقه المسلوب؟ لنعد الآن لنص البردية. والآن قال الفلاح هذه الكلمات في عصر صاحب الجلالة ملك الجنوب والشمال " نب كارع" الذي كلماته هي الحق. فذهب الرئيس رنزي ابن ميرو إلي حضرة جلالته وقال له: مولاي.. لقد عثرت علي فلاح يعرف كيف يتكلم بحكمة وبلاغة تفوقان الوصف، لقد سرقت منه بضاعته بواسطة واحد من رجالي (؟) وجاء لكي يعرض شكواه، وهنا قال جلالته للرئيس رنزي: إذا كنت تحرص علي إرضائي فابقه هنا، ومهما يقول لك، فلا ترد عليه لكي يستدرج إلي الحديث المطول، ثم حوّل كلماته المنطوقة إلي كلمات مكتوبة وأحضرها لي لكي أتمكن من سماعها، وارسل إلي زوجته وأطفاله بما يقيم أودهم أثناء غيابه، أرسل واحدا من الفلاحين إلي أسرته ليحميها من أي احتياج وتأكد من حصول ذلك الفلاح الحكيم علي احتياجه من الطعام. دبّر هذا الأمر بحيث يصل إليه هذا الطعام كل يوم دون أن يعرف أنك أنت مصدره، هذا الطعام سيعطي لأصدقائه ويتولون هم إعطاءه له. عند ذلك أرسلوا للفلاح أربع فطائر وزلعتين من الجعة، أعطاهم الرئيس رنزي ابن ميرو لواحد من أصدقائه الذي أعطاهم بدوره للفلاح. وفي نفس الوقت أرسل الرئيس رنزي رسالة إلي محافظ وادي الملح يأمره فيها بأن يمد زوجة الفلاح باحتياجاتها من الطعام فأرسل لها ثلاثة أرادب من الحبوب. هذا المشهد يثبت أن هذه البردية هي أول نص في التاريخ يشير إلي الخدمة السرية وعلوم الأمن القومي، حيث نتعرف علي ما يسمي ب (تقارير الرأي العام) الملك هنا يريد أن يسمع بنفسه ما يقال من رعاياه. هو لا يريد الاستمتاع ببلاغة وحكمة الفلاح وإلا لأرسل في طلبه علي الفور ليستمتع بحديثه. هو يريد أن يعرف منه بلا مؤثرات خارجية رأيه في الطريقة التي تدار بها شئون المجتمع والقائمين عليه. كما نجد أيضا أول إشارة في التاريخ لما يسمي (عملية تمويل الهدف) مع بقائه جاهلا بمصدر هذا التمويل، فالهدف هنا ذو كبرياء ستمنعه حتما من قبول الطعام الذي أرسلته له السلطة بينما هي لا تقوم بحل مشكلته الحقيقية. وحتي إذا وجد أن الحصول علي هذا الطعام حق من حقوقه فقد يشعر بانكسار أمام سلطة الدولة يمنعه من ذكر الحقيقة كما يراها. الملك يريد أن يعرف ذلك لتمرسه الطويل بالسلطة وهو لا يريد أن ينشغل هذا المفكر عن الحقيقة بالبحث عن رزقه ورزق عياله، لذلك يحرص علي أن يوفر له الحد الأدني من وسائل العيش. وعندما يرسل الرئيس رنزي إلي حاكم وادي الملح، فمن المؤكد أن الأخير علي وعي بأن هذه العملية سرية وأنها من شئون الدولة العليا.. نعود الآن إلي نص البردية. العرضحال الثاني وجاء الفلاح ليعرض حاله للمرة الثانية فقال: " سيدي المحافظ، مولاي، يا أعظم العظماء وأغني الأغنياء. في الحقيقة إنك الأعظم والأغني بين الرجال، أنت دفة السموات، وأنت محور الأمن الثابت، وأنت الحبل الذي يربط ثُقالة كفتي الميزان. فيا دفة السموات، لا تتحرك في الاتجاه الخاطئ. ويا محور الأرض الثابت لا تتزحزح. ويا حبل الميزان لا ترتخ. هل ستسمح للأعيان بأن ينهبوا هذا الذي لا ظهرله.. وأن يسرقوا من لا حول له ولا قوة؟ تقول إنك تحتفظ في بيتك بتموينك وهو زلعة من الجعة وثلاث فطائر؟ بماذا أنت منشغل إذن إذا كنت لا تلبي حاجات البسطاء؟ هذا الذي يموت، تموت معه كل احتياجاته، لكن ألست أنت مخلوقا يتسم بالخلود؟ أليس أمرا بشعا أن تهتز الكفتان وأن يعطي مؤشر الميزان قراءة خاطئة؟ وأن يتحول حماة القانون إلي منتهكيه؟ انتبه.. الحق يتخذ مسارا سيئا بين يديك و ينتزع بعيدا عن مكانه الصحيح. كبار المسئولين يرتكبون
المظالم، وثمرة القرار تذهب إلي الجانب الخطأ، والمسئول عن كشف الزيف، يمارس هو نفسه الاحتيال. وهذا الذي يضخ هواء الحياة في الأنابيب، يربطها بالحبال فيسدها، والمسئول عن راحتنا يكتم أنفاسنا، والمسئول عن عدالة التوزيع يتحول هو نفسه إلي لص، والمكلف بإبعاد القمع عنا يعطي الأوامر ويضع المدينة كلها في المجرور، والمكلف بالقضاء علي الجريمة يرتكب الشرور. وهنا قال المحافظ رنزي ابن ميرو: ماذا تفضل.. أن تنجو بنفسك أو يلقي بك خادمي بعيدا؟ فقال الفلاح : والمحاسب الذي يحسب أكوام القمح يهتم بصالحه الخاص، وهذا الذي يقوم بالكيل للآخرين، يقوم بغشهم، والمسئول عن تنفيذ القانون، هو نفسه من يعطي الأوامر بالسرقة. من سيضع حدا لهذه الأفعال الشريرة إذا كان المكلف بالقضاء علي الغش هو نفسه من يمارس عمليات النصب؟ والشخص المفترض فيه أن يتعامل مع الآخرين بأمانة يمارس الاحتيال، والمسئول عن مساعدة الآخرين يعاملهم بطريقة شريرة، هل تجد لك مصلحة في كل ذلك؟ العلاج غير ناجح، فالمظالم هائلة الحجم.. قدّم الخير لكي يقدموه لك وذلك بتقديم الشكر لهم علي ما قدموه، واصدر أوامرك برد الفعل قبل أن يحدث الفعل نفسه، قبل أن تأتي اللحظة المدمرة فتقضي علي تكعيبة العنب وتفتك بالدواجن والإوز. لكن هل يستوي الأعمي والبصير؟ وهل القادر علي السمع يتساوي مع الأصم؟ وهل يستوي الدليل الماهر مع ذلك الذي يقود إلي التهلكة؟ إنك حقا قوي وجليل، ذراعك متينة وقلبك مبني علي اللصوصية. الرحمة مرّت بعيدا عنك ولم تعرف الطريق إلي قلبك. ما أغرب أن يتعاطف معك الرجل الذي أجهزت عليه، أنت تشبه رسول الإلهة التمساح.. احترس، أنت تتجاوز " سيدة الطواعين" إذا لم يكن هناك ما تقدمه لها، فلن يكون لديها ما تقدمه لك. الفرد الذي يملك شيئا، قادر علي إظهار الرحمة، أما الخارج علي القانون فهو الوحيد القادر علي ارتكاب العنف والسرقة. وهذا أمر واضح من عمل اللصوص الذين لا يملكون شيئا. وبالتالي لا يمكن أن نلومه عندما يخطئ. ولكن الخبز يملأ بيتك ولديك من الجعة الكثير، وأنت أغني من أي عامل. إن الرجل المكلف بالإمساك بالدفة إذا غفل عن مهمته، ضلت السفينة وسارت في الاتجاه الذي يحلو لها. فإذا كان الملك يجلس في قصره ويترك لك دفة الأمور، فهذا معناه أن كارثة ستحل بك. إن صاحب المظلمة يقف طويلا كالشحاذ والقاضي يتأخر كثيرا فيتساءل الناس: من هذا المسكين الواقف هناك؟ كف عن الأكاذيب.. احترم هؤلاء الكبار الذين يقفون حولك، الذين يتلقون العرضحالات منا.. والذين تعودوا أن يكذبوا علينا.. هذا أمر سهل جدا علي قلوبهم وضمائرهم.. آه يا أكثر الناس معرفة، هل تعرف الآن مشكلتي؟ أنت يا من تغني البشر عن كل الاحتياجات، نظرة يا سيدي.. لقد وصلت إلي طريق مسدود، أنت يامن نزحت كل المياه، هأنذا بغير قارب. أنت يا من ينقذ كل غريق وكل من تحطمت بهم السفن.. خلصني من ظروفي البائسة". الأداء العالي انتهي العرضحال الثاني وأسألك، هل صادفت من قبل مثل هذا الوصف الرائع للفساد؟ وإذا كنت أنت مسرحيا، أريدك أن تلاحظ الإيقاعات القوية والجمل القصيرة في هذا المونولوج الممتلئ بالصدق والعاطفة . أريدك أن تتخيل نفسك ممثلا علي المسرح وأنت تلقي بهذا المونولوج، تخيل مدي ما ستفعله في المتفرج من تأثير، تخيل ما يعطيه لك النص من مساحة للأداء العالي.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.