يعتبر مهرجان كليرمو فيران بمسابقاته الثلاث واحدا من أهم مهرجانات السينما بالعالم، خاصة في مجال الأفلام القصيرة، ويعرض المهرجان حوالي 5000 فيلم سنويا (في هذا العام عرض 4500 فيلم) في عشرين برنامج عرض منها برامج المسابقات الثلاث الدولية والمحلية والديجيتال، ذلك حيث شارك بالمسابقة الدولية هذا العام 77 فيلما من جميع أنحاء العالم منها الفيلم المصري الجيد "الحساب" إخراج عمر خالد، وعرض المهرجان أفلامه في 15 دار عرض تتسع لعدد من المشاهدين يصل لحوالي خمسة آلاف مشاهد وبعدد خمسة عروض لكل منها يوميا، أي حوالي خمسة وعشرين ألف مشاهد يوميا، وتقريبا مائتي ألف مشاهد يطول أيام المهرجان، وتقدر مجموع جوائز المهرجان بمائة ألف يورو سنويا تقسم علي العديد من الجوائز التي ترعاها وتمنحها وزارة الثقافة متمثلة في بيوت الثقافة الفرنسية، وفي بلدية مدينة كليرموفيران، بالإضافة لعدد من الشركات الكبري المتخصصة في الإنتاج السينمائي وفي صناعة السينما والصناعات المتعلقة بها وبالإنتاج الثقافي كشركات فوجي وكوداك وقنال بلس وآدمي وفناك وغيرها. ابتكار وتقنيات في هذا العالم شاهد متابعو المهرجان عددا من أفضل الأفلام القصيرة علي مستوييي الابتكار والتقنيات وكذلك أفضلها من حيث الموضوعات الانسانية والاجتماعية الملحة التي تعالجها وقد تصدرت قضايا الهجرة غير الشرعية واختراق الخصوصية والظلم الواقع علي العمال والفقراء القضايا التي تناولتها الأفلام وتلك التي حصلت علي جوائز المهرجان. وقد حصل فيلم الاتوبيس الاخير من سولفانيا علي جائزة أفضل فيلم لمخرج شاب والفيلم من اخراج المخرجين مارتين سنوبيك وايفانا لوسكيفيل، الفيلم طريف في قصته المبتكرة حيث يدور حول ذئب مطارد من الصيادين ومصاب ينتظر الأتوبيس الأخير الذي يمر بالغابة ليقل الحيوانات حتي يهرب من الصيادين البشر، يستطيع الذئب اللحاق بأتوبيس الحيوانات الأخير وبعد ركوبه يبتعد عن باقي الحيوانات ويختبئ وراء الحقائب حتي لا يعثر عليه الصيادون اذا مروا لتفتيش الاتوبيس، يتوقف السائق لإقلال ذئبة مصابة يحميها صديقها الذئب لكن عند أول تفتيش للصيادين يضحي الذئب بصديقته من اجل سلامته وبعد موتها علي يد الصيادين، ووسط رعب الحيوانات التي في الأتوبيس يكتشفون صبيحة اليوم التالي أن الذئب قد قتل نفسه. الفيلم طريف بسبب أسلوب إخراجه حيث استبدل المخرجان الرسوم المتحركة بممثلين يرتدون فراء وأقنعة لوجوه حيوانات وقاما بالتصوير في الغابة وداخل اتوبيس مع استخدامهما لأصوات اقرب لدمدمات الحيوانات والفيلم يظهر هذا إذا رغبنا في قراءته بشكل رمزي كيف يمكن للبشر التحول لكائنات أقسي كثيرا من الحيوانات المفترسة وكيف يمكن أن يتحول المكسب المبني علي التضحية بالرفاق لأسباب لنهاية حياة أي منا، فحتي أقسي الحيوانات قد تقتل نفسها نتيجة شعورها بالذنب لما اقترفته في حق رفاقها، و بعيدا عما يمكن تأويل الفيلم عليه يبقي أن أهم مكوناته كفيلم درامي تجريبي قصير هو الطرافة والمغايرة ففضلا علي التحكم الكامل بتقنيات السينما هناك موهبة المخرجين والسيناريست في التعبير السينمائي عبر طرق مغايرة واستخدام الممثلين بدلا من الرسوم أو العرائس. * جائزة قناة بلس منحت لفيلم طريف هو الآخر، لكن طرافته لا تنبع من تقنيات الإخراج لكن من القصة الخيالية، الفيلم القصير للمخرج هيو اوليا من السويد مبني علي قصة لمسلسل أمريكي شهير يقوم فيه الموتي المفترسون بمهاجمة البشر والجديد في قصة الفيلم هو ما يطرحه المخرج من سؤال أخلاقي هو تري لو عثر احد العاملين في تحويل هؤلاء المفترسين لخدم للموسرين والدته المفترسة بينهم، ورغب في حمايتها فهاجمته وحولته لوحش تري هل يستحق بعد ذلك فرصة في الحياة؟ خاصة لو أنه فعل كل ما يستطيع ليحصل علي علاج مناسب ليستعيد إنسانيته؟ هل من حقه عند ذلك البقاء حيا؟ أم يجب التخلص منه حرصا علي حياة الآخرين وخوفا من أن يهاجم المزيد؟ وقد جاء تميز الفيلم من تمكن طاقمه الكامل من أدواته وما وجدته لجنة تحكيم قناة بلس من تساؤل إنساني وكذلك ما عبر عنه من تخوف من تحكم الأغنياء في المجتمع حيث يصرون علي الإبقاء علي أي نوعية من الاستعباد قد تؤذي المجتمع وبأي شكل وفقط من أجل مصالحهم الاقتصادية وهو ما يشير لأننا في عصرنا هذا مازلنا متخلفين حضاريا ونعاني استعبادا بشريا عاما يعود لأسباب يخلقها جشع الأثرياء. الجائزة الكبري أما الفيلم الذي حصل علي الجائزة الكبري للمهرجان فكان فيلم "المدعوة" وهو فيلم من كوريا الجنوبية درامي إنساني، للمخرج جاه ايان يون ويدور حول فتاة مشاكسة مراهقة يملؤها العنف والضيق تذهب لبيت زوجة والدها وهناك تقابل لأول مرة أبناءه منها حيث تجد الطفلين وحدهما فتبدأ في إزعاجهما بالسباب والتعدي علي البيت ومضايقة أكبرهما الذي يعتني بأخته التي لم تكمل أربع سنوات، ثم تتغير توجهاتها السلبية تجاهها بمجرد اختبائها والتلصص علي زيارة والدها القصيرة للطفلين واكتشافها أنهما لا ينالان أي مودة ولا عناية منه. يتميز الفيلم بالأداء التمثيلي الجيد للممثلين خاصة الأطفال وبتحكم المخرج التام من أدواته وإن كان لا يتميز بأي جديد في معالجة الموضوع. الفيلم الأمريكي"الولاياتالمتحدة" curfew من اخراج المخرج شون كريستان، هو الآخر تقاسمت بطولته طفلة وحيث ان اسناد البطولة لأطفال غالبا ما يشبه التميمة التي تؤدي لحصول اي فيلم علي جائزة الجمهور فقد حصل الفيلم الدرامي الانساني علي جائزة الجمهور. الفيلم يدور حول شاب مثقل بمهام عمله وحياته تطلب منه مهمة مزعجة جدا بينما يرجو لو ينال قليلا من الراحة حيث تتصل به جارة لا يعرفها وتطلب منه الذهاب لشقتها لرعاية أختها الطفلة ذات التسع سنوات والتي ستقضي الليل وحيدة لاضطرار الأخت الكبري للمبيت خارج البيت لظروف طارئة. الشاب يضطر للذهاب لشقة الجارة حيث يقضي ليلة متعبة دون نوم مع الطفلة الشقية ليلة تغير حياته كلها حيث يقرر في الصباح ترك عمله المزعج بكل متطلباته الثقيلة لعمل يمكنه معه الحصول علي بعض الراحة. وفضلا علي تعاطف الجماهير مع القصة والبطل الطفل "الطفلة" كان وراء منح جائزة الجمهور للفيلم اكتمال عناصره وجودته بشكل جاء به أقرب لفيلم طويل متقن. خاصة فيما يتعلق بعنصر التمثيل، وذلك فضلا علي الجانب الإنساني اللطيف المتمثل في العلاقة المتبادلة بين الطفلة والشاب المجهد بأعصابه التي لا تحتمل المزيد. فيلم "ذاكرة لفائف الخيط" للمخرج اولو ايكاف من النمسا حصل علي جائزة الانميشن "التحريك" والفيلم فيلم تحريك قائم علي تحريك لفائف من الخيط والقصة اللطيفة جدا والمبهرة للفيلم بما فيها من حس طفولي تدور حول مجموعة من لفائف الخيط محبوسة في صندوق غزل تحاول الانفلات من الخروج من الصندوق لتتحول لنسيج. وحصل فيلم المخرج السويسري رينالدو كولا "اعتراض ضد" علي جائزة لجنة التحكيم الخاصة والفيلم يدور في إطار أشبه بالإطار التسجيلي ليوميات مهاجر من نيجيريا بعد هجرته لسويسرا حيث لا يملك مالا ولا يملك تأشيرة إقامة ويبحث عن وسيلة للبقاء في بلد مهجره سويسرا عبر العمل أو عبر أي علاقة مع مواطنين من هذا البلد أو عبر مهاجرين شرعيين فيه ويحاول التكسب والحياة في سويسرا بأي شكل ولو عبر البقاء في ملجأ، لكنه سرعان ما يقبض عليه ويسجن في سجن حيث يضرب عن الطعام حتي الموت، الفيلم معالج بأسلوب احلال الكاميرا محل البطل حيث نشاهد كل ما يشاهده البطل دون ان نشاهد البطل نفسه لكننا نسمع صوته، نري الكاميرا هذا الأسلوب الذي يعطي إحساس الفيلم التسجيلي حيث يفترض أن نشاهد ما يحدث كأننا عين بطل الفيلم يمنح توترا للأحداث. يتميز الفيلم بإيقاعه التسجيلي وأسلوب تصويره الوثائقي الذي يسعي المخرج من خلاله للتأكيد علي الموضوع مفضلا اياه علي الأثر الدرامي ساعيا بذلك لتدعيم الأثر النفسي الناتج من صدمة المشاهد أثناء مشاهدته لوقائع تحدث في الحقيقة وقد كان لأسلوب المخرج التسجيلي هذا تأثير قوي كأداة نقية لتوصيل موضوع الفيلم الذي يدين ما يتعرض له مهاجر لم يؤذ أي شخص من إلقاء في السجن ومن معاملة مؤذية غير إنسانية لإجباره علي تناول الطعام علي غير إرادته والإصرار علي ترحيله مقيد بالسلاسل لبلاده مما يؤدي لموته في النهاية. وقد حصل الفيلم النرويجي "علي الجهة المقابلة من المحيط" علي جائزة الميدياتيك والفيلم يتميز بما يعالجه من جانب إنساني علاوة علي اكتمال عناصره من تصوير وإخراج وسيناريو وتمثيل ويدور حول رجل يشارف علي السبعين يكتشف إصابته بالسرطان ويفكر في توثيق علاقته بأخيه الذي يعيش في الولاياتالمتحدة لذا يعتزم زيارته لكنه يواجه صعوبات مالية لتحقيق ذلك كما يواجه بظروف أخيه التي لا تناسب هذه الزيارة مما يدفعه لنسيان الفكرة ومحاولة عيش أيامه الأخيرة والاستمتاع بها. الحساب بالمصري لقد شاركت مصر في برنامج المسابقة الدولية بالفيلم الجيد "الحساب" من إخراج المخرج المتميز عمر خالد الفيلم درامي جيد التمثيل ومكتمل العناصر يدور في إطار اجتماعي حول الفساد والاضطهاد والفقر والانحدار والإذلال، حيث كل فرد يظلم ويضرب ويضطهد الآخر علي شرط أن يكونوا أفقر منه وأكثر ضعفا منه، فالمدرس يضرب الطلبة والسائق مضطهد من الشرطي والذكور الفقراء يعتدون علي الجارة الأفقر والطفل يتلصص علي الكبار وحيث لا يفوز إلا الغني والقوي ومن في السلطة. يستعرض الفيلم يوما في القاهرة وسط المهمشين والفقراء حيث يبدأ المدرس يومه بقيادة التاكسي الذي يسوقه كأكل عيش وفيه تتعرض فتاة فقيرة للمعاكسة وبدلا من أن يقوم الضابط بضبط المعتدين عليها وعقابهم يعطي مخالفة للسائق ويترك المعتدين ويعتدي علي الفتاة، يعود المدرس بعد ذلك للمدرسة فيمد الأطفال علي أرجلهم وتعود الفتاة للبيت لتتعرض لتلصص أطفال الجيران وتهجم ذكورهم عليها. الجميع من الفقراء في فيلم "الحساب" اذن يحاول عقاب الآخرين رغم فقرهم ويحاول التعويض علي قهره بقهرهم وذلهم. الفيلم مكتمل الأدوات وجيد التمثيل ويتعرض لقضية مهمة هي العدالة، ويتساءل كيف؟ ومتي؟ وأين يجد المصريون العدالة؟ ومتي لا تعتبر السلطة نصف الشعب الذي يعيش تحت خط الفقر ومتي لا تعتبر عرضهم مباحا؟ ومتي يكف أفراد الطبقة الفقيرة عن ظلم بعضهم بعضا والانتقام من بعضهم بعضا لما يفعله فيهم أصحاب السلطة والأغنياء ومن يستغلونهم؟