نعم، كان لنا - نحن العرب والمسلمين - حضارة عالمية زاهرة استطاعت أوروبا استثمارها، فكان لها فضل إيقاظ العقل الغربي من سباته العميق، وإقامة حضارته، ونهضته وتقدمه. ونحن العرب والمسلمين نمتلك الامكانيات المادية الهائلة، ورءوس الأموال الضخمة بفعل الثروات الطبيعية التي أنعم الله بها علينا، ولدينا عشرات المؤسسات الجامعية والعلمية والبحثية، وعلي سبيل المثال يوجد بالوطن العربي وحده حوالي 175 جامعة بها حوالي 50 الف أستاذ، يتخرج فيها كل عام ما يزيد علي 700 الف من الجامعيين وتنفق الدول العربية علي تعليمها العالي حوالي 7 بلايين دولار سنويا، وبها ما يزيد علي ألف مؤسسة بحثية، يعمل بها حوالي 20 ألف باحث، وتؤكد البحوث والدراسات أن العالم العربي قد استثمر ما يزيد علي 2500 بليون دولار في المدة من 1980- 1997، ومع ذلك فإننا لانزال في عداد الدول المتخلفة في مجال العلم وتكنولوجيا العصر. كارثة حقيقية وهذا التخلف - وبكل المقاييس- كارثة حقيقية وليس مجرد أزمة، كما يحلو للبعض ان يصف هذه اللحظة في تاريخنا المعاصر، ولم لا ؟ والتخلف هنا يرتبط بالعلم الذي بات له الدور الحاسم في نهضة الأمم والشعوب، ولم تعد تقاس معايير القوة بامتلاك الجيوش الجرارة، او بامتلاك الثروات الضخمة، او ارتفاع عدد السكان، ولا بالتغني بالماضي المجيد والتليد، وإنما - وفقط - بامتلاك المعرفة، وهذا ما يعكسه وبوضوح تقدم دول كانت بالأمس القريب تعاني الفقر والأمراض الفتاكة، وها هي اليوم تصارع كبار دول الغرب، علميا وتكنولوجيا وتحرص علي انطلاق الحضارة من علي شواطئ الباسفيك، هناك في جنوب شرق آسيا، اليابان، والنمور الآسيوية، وأخيرا الصين ذات المليار ويزيد من السكان، كما تعكسه وبوضوح تلك الاستثمارات الهائلة التي تحققها التكتلات الاقتصادية الضخمة والعملاقة، وتلك الدول التي تولي العلم والتكنولوجيا الأولوية في سباق التقدم والمنافسة العلمية، أما نحن العرب والمسلمين فما زلنا نعاني التخلف العلمي والتكنولوجي، ونكتفي بقطف ثمار حضارة الآخرين وانجازاتها، أو قل نكتفي باستنشاق هواء هذه الحضارة من خلال الاستهلاك والاستيراد، ومن عجب ان هناك من يدّعي امتلاك التكنولوجيا من خلال استخدامها، التي لا نعرف عنها شيئا، بل نتعامل معها وكأنها فعل ساحر، ولم لا ؟ ونحن لا نعرف حتي إصلاح عطبها، ونكتفي بإلقائها وامتلاك غيرها، فالأموال جاهزة حاضرة، والعقول غائبة متخلفة، وتعشق الارتداد للماضي، وتنفر من التوجه للمستقبل، ترصد الملايين من أجل إقامة سوق عكاظ عصرية يتباري فيها الشعراء في وصف الخيل والغزلان، وترصد الجوائز الضخمة لأحسن شاعر، وأحسن رواية، لا لأفضل انتاج علمي أو لعالم فذ، فعشنا مع الوجدانات والعواطف هروبا من الواقع وما يفرضه العلم من عقول جادة وثقافة علمية داعمة له "نعم لدينا العلماء" ولكن الكثير في وجدانه وعقله بقايا ثقافة الخرافة، وغالبا - يقول نبيل علي - ما يملأون تخصصهم العلمي بأيديولوجياته وثقافتهم الخاصة، ويفسرون بها العالم من حولهم، إلي جانب الانغلاق في ثقافة أحادية الأبعاد، واختزال العالم في عدد محدود من المقولات والمسلمات، وهذا بعينه هو شبه العلم والسطحية العلمية، بل لانعدم وجود عالم - يقول زكي نجيب محمود - يخرج من معمله ليضرب الودع، ويقرأ الفنجان، لا لشيء إلا لأنه حفظ قواعد العلم، ولم يتمثلها في سلوكه وحياته، وفي موقف ساخر يقول كاتبنا الراحل انيس منصور : إن كثيرا من علمائنا يتعاملون بأخلاق المصطبة، وسلوكيات أبناء الريف الذين وصفهم عمرو بن العاص: إنهم يتواكلون . يبذرون الحب، وينتظرون الثمار من الرب، ولا يعملون علي تطوير التربة والبذور واستحداث الآلات، نعم عندنا الفلوس لكن ليس بالفلوس وإنما بالعقلية العلمية وحدها نستطيع اللحاق بعصر العلم وركب التقدم. ثقافة الإبداع ونضيف ان هذه العقلية لا تتحقق إلا في ثقافة علمية متطورة، ومن تربية وتعليم يعملان من خلال ثقافة الابداع، لا ثقافة الحفظ والاتباع، ومن خلال مدارس علمية حاضنة للباحثين الواعدين، والعمل العلمي الجماعي، والتنسيق والتعاون بين مختلف المؤسسات العلمية، وبينها وبين المؤسسات الانتاجية والخدمية، ورصد الأموال والانفاقات علي العلم والبحث العلمي، ومن قبل ومن بعد توفير المناخ والظروف الملائمة للابداع، وللعلماء الجادين، وهم كثرة لكن عوامل الطرد أشد ضغطا، مقابل عوامل الجذب له في بلاد تعرف قدرهم، وتوفر لهم كل الظروف لابداعهم وانتاجهم، لا حبا فيهم، وإنما كراهية لان يعودوا لبلادهم فيعملون علي نهضتها وتقدمها، وبالتالي تستمر لهم الهيمنة، والتبعية لنا، ونكتفي نحن في عصر العلم والتكنولوجيا بالصراعات والبحث عن المناصب والسلطات ومناقشة قضايا عفا عليها الزمن، وأكل عليها الدهر وشرب، والاهتمام بقضايا الحجاب، وإطالة أو تقصير الثياب، وكيفية الزواج باللجان وغيرها من أبعاد ومكونات ثقافة الخرافة التي باتت تسيطر علي كل ممارسات حياتنا اليومية والاجتماعية، وأمور الزواج والطلاق، حتي في اختيار الكلية الجامعية، أو العمل والوظيفة، ولا بأس من الاحتفاظ بحجاب في شنطة السفر، أو بين الكتب، منعا للحسد. ونعيد التساؤل : وهنا أتتساءلون بعد كل هذا : لماذا تخلف العرب والمسلمون؟!!