لقد تعلمنا في دراستنا عن الإعلام أنه إفراز اجتماعي يهدف للتوعية والتنوير وتناقل الأخبار، وعلي الأقل يهدف لنشر المعلومات وتداولها لتفتحة أذهان الشعوب ومدها بكل ما هو ثمين ومفيد، لكن للأسف تحول الإعلام إلي سجال بين الفضائيات لجذب المشاهدين وإثارة المنتجين والمعلنين، كل هذا علي حساب المجتمع، وكأنهم ليسوا جزءاً منه!! معظمنا سمع في سنوات الدراسة عن جرير والفرزدق : هما شاعران ازدهرا في العصر الأموي بهجائهما لبعضهما شعراً، وكان هدفهما تسرية البلاط وتملق الحكام، وهنا تتجلي لنا الوسيلة والهدف لدي كليهما، أما عندما نتأمل حال الإعلام الآن فنحن نري الإعلاميين يتبارون في صنع الخلاف وخلق الجدل بين طرفين يمثلون شقي المجتمع ولهذا فنحن نري هنا الوسيلة لكن يبقي الهدف من وراء ذلك مجهولاً لدينا ، وربما علينا أن نطلق عليه بعد ذلك مجهولاً وليس إعلاماً، فمن يتملقون؟ وإلي ماذا يهدفون ؟ والجمهور المصري وإن أعجبه الأمر بدايةً فقد بدأ يمل في الحقيقة ويتمني لو ينقطع البث ولو يوماً واحداً لننعم ولو بالقليل من الراحة والهدوء من هذا السباق المحموم . إن " مسلم ومسيحي إيد واحدة " و"المواطنة وقبول الآخر " كلها شعارات التف حولها المصريون قبل الثورة وبعدها، لكننا بنظرة عميقة للواقع فنحن نعيشها يومياً ، في البيت والشارع وأماكن الدراسة والعمل، ولطالما لاحظنا ونحن صغار هذا المزيج الاجتماعي ، ولم نتساءل عنه قط، ربما لأننا اعتدنا رؤيته فهو مثل وجود الأب والأم في المنزل، أو اجتماع الهواء والماء في حياتنا ، وفقدان أحدهما هو أمر جلل بحق . لكن هذه العلاقة المتميزة بين قطبي الأمة المصرية بالطبع لم تخل من لحظات احتقان ، تتمثل في بعض الشائعات أو الأحداث المتطرفة أو بعض الخلافات الدينية ، لكنها لم تكن تثار إلا علي استحياء مع قلة وسائل الإعلام ، وحتي عندما كانت تثار وتصبح خلافاً بين الطرفين ، كانت السلطة تتدخل لتخرس الألسنة وتنهي الخلاف ، لكنها للأسف لم تجد له حلاً حقيقياً ، وتركته كالجرح ينزف ببطء ويزداد تلوثاً ، ورغم ذلك كنت تجد ألفة جديدة تعود وتتجلي في أوقات الأزمات والكوارث ، ووقتها تجد من يرفع الشعار " مسلم ومسيحي إيد واحدة» ومن يحمل الهلال مع الصليب وآخر يحمل قرآناً وإنجيلاً . ومع بداية الثورة وانفتاح الإعلام إلي أقصي مداه ، اختلف الأمر برمته ، وأصبح كل شيء مباحا علي الساحة ، وأصبحت كل قضية محل نقد وخلاف، ورغم أن الأمر بقدر ما هو إيجابي بقدر مما يستغل بأسوأ الصور، خاصة مع الوضع الجديد للأحزاب السياسية ذات المرجعية الدينية، فمعرفة سياساتهم ورؤيتهم المستقبلية انسحبت علي علاقة شقي الأمة المسلمين والمسيحيين وتركت العديد من التساؤلات عن المسئولية الدينية والإعلامية والتي تحتاج إلي إجابة من كل الأطراف. المواطنة هي الحل فبداية يري القس رفعت فكري راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف ، أن الفكر المسيحي بعد الثورة لم يتغير عن قبلها تجاه شركائهم في الوطن، لكنه يشير إلي أن مساحة التسامح تقلصت منذ بداية السبعينات خاصة بعد حكم السادات الذي فتح المجال للجماعات الدينية فظهرت لنا جماعات التكفير والهجرة وغيرها ممن يعبرون عن فكر متطرف يبتعد كل البعد عن المسلمين المعتدلين المستنيرين الذين يحترمون أسس المواطنة ويتعاملون بعدل وحكمة مع إخوتهم المسيحيين. ويري القس رفعت فكري أن الإعلام بصفه عامة غير قائم علي الموضوعية بل يعتمد علي تفجير القضايا وتضخيمها دون مراعاة الوطن،لأنه يهدف إلي حجم مشاهده أكبر وجذب كم إعلانات أكثر ، ويري هنا أنه لابد أن يكون الإعلام حيادياً سواء من جانب المعد أو مدير الحوار الذي لابد ألا يجعل من نفسه طرفاً أثناء الحوار ، كما يري أن هناك بعض الموضوعات التي من الممكن أن نتوقف عن مناقشتها خاصة إذا كانت ستثير الاحتقان أو تحدث الخلاف، ويجب ألا يظهر المتطرفون في الإعلام وكأنهم أبطال ، لأنهم ينشرون قيم الكراهية والتطرف . ويؤكد أنه علي الإعلام أن يقدم للمجتمع نماذج إيجابية وعلاقات إنسانية ليرسخ قيم التسامح ، كما يجب أن يهتم بأطراف المجتمع التي تجاهلها مثل النوبيين وأبناء سيناء ، فهم مصريون تماماً مثلنا . شركاء في الوطن ويتفق الشيخ الدكتور محمود عاشور وكيل الأزهر الشريف مع القس رفعت فكري في كون المسلمين والمسيحيين يعيشون معاً إخوة وأحبة وشركاء في وطن واحد ، قائلاً إن المسيحيين موجودون في مصر منذ أكثر من 1400 سنة ، وأن العلاقات بين الطرفين متميزة وجيدة، والدليل علي ذلك ما رأيناه من تواجد الطرفين في ميدان التحرير طوال 18 يوما متواصلا رأينا فيها المسيحية توضئ المسلم وكلاهما يصلي في الميدان، ولم يحدث أي احتقان أو مشاكل بينهم. ويؤمن عاشور بأن مصر مستهدفة، مؤكداً أنه لا يجب أن ننسي أن أحد عملاء الموساد أكد أنه استطاع اختراق الشعب المصري بالوقيعة بين المسلمين والمسيحيين واستغلال الفتنة الطائفية ، إلا أن الشيخ محمود عاشور وصف العلاقة بينهما بأن الوحدة الوطنية المصرية أقوي وحدة ورباط في العالم . وعن رأيه في الأحزاب السياسية الدينية التي ظهرت علي الساحة ، فقد أكد أنهم إذا فهموا الدين فهماً صحيحاً فسيعيشون إخوة معهم خاصة وأن القرآن الكريم يتضمن العديد من الآيات التي تحثنا علي الإحسان والبر بالمسيحيين ومنها بسم الله الرحمن الرحيم ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين)، (وإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) صدق الله العظيم. ويتساءل الشيخ عاشور: كيف لا نحسن إليهم وهم أخوال إبراهيم ابن الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم وقد تزوج منهم ماريا القبطية؟! وكيف لا نحسن إليهم ولنا أن نتزوج منهم؟! أما الإعلام فإن الإعلام في نظره أصبح كالسوق يمتلئ بالتجار والسماسرة والمرتزقة ، حيث اختلطت الأمور ولم يعد الجمهور يعرف الصواب من الخطأ ، وهو يرجع ذلك إلي تعدد القنوات الفضائية والصحف التي لم تعد لها مصداقية ، حتي أن الناس تقول " ده كلام جرايد " ، مطالباً ألا يشارك الإعلام في خلق محنة أو إسقاط دولة أو الإضرار بالمجتمع ، وأنه لابد أن يكون وسيلة للمعرفة والتنوير. المتطرفون يلمعون أما عن الإعلاميين أنفسهم فإن السيد نعيم نائب رئيس تحرير الجمهورية ، يري أن أول أسباب ما يحدث الآن هو أن النظام السابق لم يكن متعاطفاً قط مع الجماعات الدينية ولذلك كان لابد لهذا الجدل أن يحدث بمجرد أن تتاح لهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم ، خاصة أنهم لم يشاركوا في هذه الثورة إلا عندما شعروا باقترابها من تحقيق أهدافها . ويري أن الإعلام هو المتسبب في الاحتقان الواضح بين المسيحيين والمسلمين بعدما أتاح الفرصة لبعض المتطرفين بالظهور برغم أنهم مرتكبو جرائم قتل مثل قتلة السادات ، وهو ما يحدث قدرا كبيرا من اللغط في الشارع المصري ، ويؤكد أن الشعب المصري بطبعه متدين ويعرف دينه جيداً ويعرف علاقته بخالقه ولا يحتاج لمن يراقبه أو يعلمه دينه ، خاصة أن السياسيين الإسلاميين يفرضون بعض الآراء التي لا تتماشي مع الواقع الذي نعيشه بل ُتحدث انشقاقا داخل المجتمع . وهو يضرب المثل بصفحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ظهرت علي الفيس بوك منذ أيام ، واصفاً الأمر بالغريب عن المجتمع المصري ، فكيف يتم تنفيذه هنا وقد حاول الملك عبد الله بن عبد العزيز في السعودية التقليل من نفوذ هذه الهيئة في بلاده بعدما تضرر بسببها العديد من أبناء وطنه ، فما بالنا إذاً ونحن نختلف في التكوين كثيراً عن الشعب السعودي . و أكد نعيم أن الإعلام المصري خلق خلافاً واحتقانا بين المسلمين والمسيحيين وبين المسلمين أنفسهم باختلاف آرائهم وانتماءاتهم ، لكن الشعب المصري الآن أوعي من ذي قبل وكل الوجوه التي تظهر في الإعلام لا تمثل الشعب المصري الحقيقي ، واصفاً الإعلاميين بأنهم مجموعه من المرتزقة الذين يتاجرون بآلام الناس واحتياجاتهم ولا يهتمون بالوطن ولا يلقون بالاً للشعب بل يأبهون فقط لزيادة أرصدتهم في البنوك، متجاهلين من يطلقون عليهم حزب الكنبة الذي لا يدركون قيمته، وهو الذي سيحاسبهم في وقت ما. الردع أما الإعلامي أحمد يوسف فقد طالب في أحد برامجه علي النيل الثقافية بتقديم برنامج ديني مسيحي كمادة ثقافية تتحدث عن الأخلاقيات وتحكي عن السيد المسيح وصفاته ، فنتعرف أكثر عليه ونري مدي التقارب بين الدينين الإسلامي والمسيحي ، خاصة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال ان سيدنا عيسي عليه السلام أحب الرُّسل إلي قلبه دون الدخول في قضايا جدلية. ويؤكد يوسف أنه علي مدير الحوار في أي برنامج ألا يتفوه بأي كلمة تحيد عن الخير والحب والتسامح ، وأن من يفتي فتوي تتعلق بالمسلمين والمسيحيين لابد أن يكون من الأزهر حتي تعتبر فتوي رسمية ، وكفانا اجتهادات وآراء تتسبب لنا في مشاكل نحن أساساً في غني عنها . ويدعو أحمد يوسف إلي إنشاء هيئة تنظيمية للإعلام ، ترصد الأخطاء وتراقب الفضائيات، وتنبه وتنذر أكثر من مرة ، ثم يمكنها بعد ذلك اتخاذ التصرف الملائم بغلق أي قناة متعدية تضر بالمجتمع أخلاقياً أو دينياً .