تمضي ذكري ميلاد ورحيل أعلام الثقافة المصرية في صمت لا يشعر بها أحد، فيما عدا أسماء قليلة جدا ينحصر الاهتمام بها في عقد ندوة هنا، أو كتابة مقال هناك. وكفي الله المؤمنين شر القتال. ومحمود الخفيف «1909 1961» أحد هذه الأسماء الكبيرة التي غمرها النسيان رغم الأعمال المبدعة التي قدمها في مجال التاريخ والأدب والترجمة. ويعد كتابه الضخم عن «تولستوي» أنضج ما كتب عن هذا الكاتب العظيم ليس فقط في المكتبة العربية، وإنما في المكتبة الروسية أيضا. وفي الذكري الخمسين علي رحيل محمود الخفيف عقدت دار الكتب والوثائق القومية بباب الخلق ندوة عنه شارك فيها تلميذه في التعليم المدرسي طارق البشري ويوسف القعيد الذي تحدث عن كتاب «تولستوي» وابن شقيقه محمد الخفيف الذي لازم عمه في سنواته الأخيرة، وشهد مولد بعض قصائده. قدم الندوة أحمد زكريا الشلق وكان من المفروض أن يشترك في الندوة صلاح عيسي، كما أعلن في صحف الصباح، غير أن غلق ميدان التحرير بالمتظاهرين والمعتصمين من جميع جهاته حال دون وصوله في موعد الندوة. ومع الندوة قامت دار الكتب بطبع كتابين من كتب محمود الخفيف هما: «أحمد عرابي الزعيم المفتري عليه» و«من وراء المنظار». ورغم مرور ما يقرب أو يزيد علي ستين عاما علي صدور الطبعة الأولي من هذين الكتابين، فقد تمت الطبعة الجديدة بالتصوير، بلا مقدمات تعرف بالمؤلف وبكل كتاب، وهو نقص شديد كان ينبغي علي دار الكتب، بكل ما تملك من إمكانيات مادية وبشرية تداركه مراعاة لتقاليد نشر الطبعات التالية للكتب، التي يتعين أن يكتب لها مقدمة جديدة توفر للقارئ المعرفة الوافية بها، وبمضمونها وبالظروف التي صدرت فيها خاصة إذا كان قد مضي علي نشرها سنوات طويلة. ومحمود الخفيف قيمة كبيرة في تاريخنا الثقافي الحديث، جمع في حياته بين حرفة التدريس وحرفة الأدب، ولم يأخذ حقه من الدراسة والشهرة التي يستحقها بجدارة، نشر مقالاته وأبحاثه وأشعاره في عدد من المجلات مثل مجلة «الرسالة» لأحمد حسن الزيات التي جمع بعض مقالاتها في كتب ولايزال الكثير من مقالاته الأخري في هذه المجلة وغيرها مطويا يبحث عن ناشر يقدر قيمة هذا الإنتاج، وقيمة ما يمثله في تاريخنا الثقافي. من هذه المقالات أكثر من كتاب عن أعلام التراث الإنساني، نذكر منها مقالاته عن الشاعر الإنجليزي ميلتون مؤلف «الفردوس المفقود» أو عن ميرابو الذي دافع بفكره المدني عن الحرية، وحمي مجلس الشعب في بلاده من قرارات وبطش الملك بحق الفرنسيين وغيرهما. ويعد كتاب الخفيف عن «أحمد عرابي الزعيم المفتري عليه»، أنضج ما كتب في موضوعه لكثرة التصحيحات التي تضمنها عن عرابي الذي تنتفي لديه المطامع أو المنافع الشخصية وتلتقي أهدافه في ترقية الجيش مع مصالح الأمة، ويتفق الشعب مع العسكرية أي مع الثوار ضد الحكم المطلق. وكانت أبرز الشعارات التي رفعتها الثورة العرابية شعارات القومية والحياة النيابية والدستور وعرض الوقائع والأحداث التي غفلت عنها الكتابات المعاصرة عن هذه الثورة أو اقتصرت رؤيتها علي الجانب العسكري وحده، أو ملأت الخديو عباس حلمي بالنيل من عرابي، كما فعل الإمام الأكبر محمد عبده حين طلب منه الخديو أن يكتب شهادته عن عرابي أو عن «الحوادث العرابية» من بدايتها إلي نهايتها، فاستهلها بتقديم الامتنان للخديو لهذا الطلب، وهي شهادة غير أمينة، جعلت عرابي بعد عودته من المنفي يغلظ القول للإمام الأكبر ويصفه بأنه من صنائع الخديو. وكل من يطالع دفاع محمود الخفيف في كتابه عن هذا الفلاح الذي نزع في عابدين أغلال العبودية عن الأمة، وتحدث باسمها لكي يصون مصر من كل المخاطر التي تتهددها لن يملك إلا الاعتراف بموضوعية هذا الكاتب وتفوقه في كتابه علي كل المؤرخين المتخصصين الذين كتبوا عن عرابي والثورة العرابية. ولأن أعمال محمود الخفيف نشرت في البداية في الدوريات قبل أن يجمع ما جمع منها في كتب، فإنها تخلو من الهوامش والمراجع التي مكانها الكتب، إلا ما جاء منها في سياق النص في شكل إشارة عابرة لا غني عنه. وأكثر ما يلفت النظر في كتابات محمود الخفيف حسه المرهف بطباع الشخصية المصرية وعاداتها وأخلاقها وفطنتها التي تتعامل بها في حياتها اليومية، ومطالعة هذه الصور الواقعية التي تفيض بها كتبه ومقالاته، مثل مجالس السمر ولعب النرد في مقاهي المدينة ومنظرة القرية، تفصح عن أفكاره وأسلوبه الأدبي المحكم الذي يعكس وعي الخفيف بالفوارق الطبقية الحادة، وبالعيوب والمخازي الاجتماعية في القري والحضر التي يهدر فيها حق الفرد في الحياة الحرة الكريمة في مرحلة نفض غبار العصور الوسطي والتطلع إلي العصر الحديث الذي كتب فيه الخفيف مؤلفاته، وفيها يطالب الأمة أول ما يطالب بالتعليم، حتي يمكنها المطالبة بالحرية والعدل والديمقراطية ويكون لها الحق في إقامة دولة مدنية حديثة تعتز بنزعتها الدينية وروحها القومية ومبادئها الوضعية، ولا يتسع فيها الفرق الشاسع بين الشرق والغرب أو بين مصر والدول الحرة المتمدنة. ويبدو بوضوح أن محمود الخفيف كان متأثرا في إعلاء شأن التعليم بالثورة العرابية وثورة 1919، وبعرابي وسعد زغلول خاصة في الصراع ضد الحاكم الظالم والدول الاستعمارية والحكومة العثمانية في آن واحد، وفي التأكيد علي أن الدستور لن يوضع علي أساس سليم ما لم ينتشر التعليم في كل ربوع مصر دون أن يجور هذا الاهتمام بالتعليم علي الاهتمامات الأخري الواجبة الخاصة بالإدارة وكل ما يتصل بها مما لا معد عنه الصالح العام. ويري محمود الخفيف أن نشأة الصحافة في مصر في القرن التاسع عشر واتصال المصريين بالأجانب الذين كانوا يفدون بكثرة إلي مصر أتاح للوطن نشر المعرفة والاحاطة بأحوال العالم، فاستيقظت في هذا التاريخ المبكر من عهد إسماعيل المشاعر الوطنية وانتبهت العقول في ظل مجلس الشوري الذي أسس في 1866 وتوطدت سلطته الدستورية في 1879 وكان من شواهد النهضة المدنية التي تقودها العاصمة المصرية نقل المجمع العلمي المصري إلي القاهرة في 1880 . وأذكر من أفكار محمود الخفيف الثورية قوله إن الحاكم الذي يخفض جناحه للشعب يرتفع قدره، وإن الديمقراطية المقترنة بالحرية هي التي تعمل فيها الحكومة الخير للمحكومين ولصاحب الخطوة الأولي في السياسة والإصلاح والثورة الفضل الأكبر علي كل من يخلفه بعد ذلك، ولو كان من يخلفه أكثر جرأة منه وأفعل أثرا وغيرها من الأفكار المضيئة التي تتناثر في كتاباته الرفيعة.