نجحت حركة دمقرطة الفن، أي جعله ديمقراطيا، منذ بدأ الاحتفاء برسوم الأطفال وفن السذج، والبدائيين ومع ظهور الدادية، وفن البوب وحتي الفن المفاهيمي، الذي يكتفي فيه الفنان بطرح الفكرة، وترك مهمة التنفيذ التقنية لمساعديه أو الاستعانة بالمواد السابقة التجهيز، ثم مع فن الأرض الذي تستهويه العملقة باعتبارها من أهم خصائصه، إذ تحت مسمي ملتقي السلام قام الفنان البلجيكي «جان فرام» عام 1980 باستهلاك عشرات الأطنان من اللون الأزرق في طلاء بضع صخور علي أرض سيناء، ولعلنا نذكر مرور موكب الرأس الأجوف العملاق الذي تم إحضاره إلي معهد جوته من ألمانيا في صورة احتفالية مبالغ فيها. هذا إلي جوار ما لم نشهده مباشرة من إنجازات الفنان البلغاري المعروف «كريستو» الذي قام بتغطية مبني الريخستاج عام 1995 بمئات الأمتار من القماش، حتي يبدو في هيئة غير مألوفة، ثم هناك المحاكاة الحديثة لأشكال رمزية لمسوخ خرافية مما صنعته حضارات هنود أمريكا، وذلك برص آلاف الأحجار إلي جوار بعضها علي امتدادات هائلة الاتساع من الأرض حتي يمكن رؤية أشكالها من مرتفعات شاهقة. رغم الجهود والتكلفة العالية التي يستلزمها إخراج هذه الأعمال إلا أن كل ذلك يبدو غير قادر علي إضفاء أي قدر من شرعية الأصالة الإبداعية عليها، لعل أبلغ ما يمكن توجيهه إلي مثل هذا الميل إلي المبالغة في الضخامة إنما هي تلك العبارة التي صاغها إزفالد شبنجلر في عشرينات القرن الماضي في قوله «أحد عوارض أزمة انحطاط القوي الإبداعية تتجلي في الدعوة إلي التحرر من الشكل والتناسب والبدء في تذوق كل ما هو عملاق وما هذا إلا تعبير عن تصنع العظمة نظرا لغيابها، لكن عبر كل تجارب ومخرجات ما بعد الحداثة تظل هناك فجوة غير ممتلئة وعطشا لا يرتوي لاستكمال لغة الشكل رغم ادعاء تجاوزها أو الوثب فوقها لتخطيها بدلاً من تقصي كل أبعادها واستكمال بنيتها. إذا أعدنا النظر فيما كتب عن اللغة الفنية من خط ولون.. الخ، لا نجد إلا انطباعات ذاتية وعمليات وصف تحليلي لكل منها منفردا دون صياغة لأي مراتب تقييمية أو نظريات منهجية، فإذا رغبنا اليوم في إقامة نسق تشكيلي محكم الروابط، يجب البدء بتلمس أبسط وقائع الشكل أو علي الأصح ما قبل التشكل، أي أن نبدأ بالوسط النقي المتجانس الذي يدعي مسطح اللوحة الأبيض الخالي من أي تباين، هذا فقط هو ما يمكن اتخاذه كنقطة بدء دائمة وأساسية لأي تحليل منضبط لإتمام تطوير مفهومنا عن التصوير. ما الذي يمكننا رؤيته في ذلك السطح المتجانس تجانسا مطلقا، حيث الغياب الكلي لأي اختلاف أو تباين؟ الجواب ببساطة هو غياب فعلي لإمكانية رؤية أو تحديد، ومن تعذر الملاحظة، إلي انعدام حقيقي لطبيعة الرؤية، كما تتحقق علي المسطح الأسود المتجانس التام النقاء فانعدام القدرة علي تمييز الاختلافات هو أيضا من خصائص الظلام الدامس، وهكذا يتماثل كل من الأسود المطلق والأبيض المطلق أو الظلام الكلي والضوء الكلي في استبعاد إمكانية الرؤية الفعلية، تنبثق الخطوة الأولي للقدرة علي الرؤية الفعلية من التقاء هذين العنصرين في تصادم أو تداخل مباشر، فمجرد تواجد نقطة سوداء علي سطح أبيض أو العكس تتحقق معجزة الرؤية ويظهر الظهور ذاته. تتحقق الرؤية الفعلية إذن من وقوع ذلك الخلل الأولي في التجانس التام المفترض مسبقا، وكأنه ثقب يسمح للفرق باختراق التماثل الكلي المستعصي علي كل إدراك. هذه هي البداية الضرورية لتحقق إدراك الرؤية وإن لم تكن رؤية لشيء ما محدد المعالم لأن التنوع الدقيق لم يظهر بعد، إنها مجرد الانتباه إلي الفرق البصري والتعرف عليه، وذلك من خلال العبور بين النقيضين من النور إلي الظلام ومن الأبيض إلي الأسود. لكن بما أن هذه النقائض تتماثل متساوية في نقائها المطلق، فكل منها يلغي وجود الآخر المختلف، لتبقي لنا فقط حركة الانتقال التي هي صيرورة التنقل بين درجات لا متناهية بين الحدود القصوي للضوء والظلام والأبيض والأسود، وهكذا ينبثق أمام أعيننا كل درجات الظلال أو الرماديات التي يمكن تصورها دون تحديد لأشكال معينة.