جمع أحمد نوار(1945) بين الفن والعمل العام، والاكاديمية، فنان عرفته الأوساط الفنية وهو مازال طالبا بكلية الفنون الجميلة من خلال حصوله علي جائزة معرض أمجاد الثورة عن لوحة (السد العالي) في العام 1966، قبل أن يقدم في العام التالي أكبر مشروع تخرج عرفته كليته (قرابة 10 أمتار) مرسوم بالقلم الرصاص، علاوة علي أنه أكاديمي وأستاذ لأجيال، ومؤسس لأول كلية فنون في صعيد مصر (كلية فنون جميلة جامعة المنيا)، وإداري عندما قدم نفسه كرقم صعب في الحياة الثقافية، مسئول عن مركز الفنون التشكيلية، حيث قفز بهذه المؤسسة الرسمية المسئولة عن الفن التشكيلي في مصر إلي فضاء جديد، سواء حين تعاظم الكيان اداريا، ليصبح (قطاع)، أو من خلال طرح الفن التشكيلي كمكون أساسي في الثقافة، وكان قد اسند إليه رئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة، بعد مأساة حريق قصر ثقافة بني سويف. ينتمي "أحمد نوار".. إلي دلتا النيل، ذلك المثلث الريفي الحضري الذي تمتزج فيه ثقافات القطر كله، فيما اختزنت ذاكرته كل صور التحدي التي يواجهها أهل الريف يومياً مع الطبيعة، عندما شد "نوار" الرحال من عزبة يوسف في قرية الشين غربية.. إلي القاهرة قاصداً كلية الفنون الجميلة وقسم الجرافيك كان يراوده الأمل والحلم بواقع جديد.. كانت تبشر به مصر الناصرية الاشتراكية. يوم الحساب لذلك بمجرد أن انتهي "نوار" من مشروع تخرجه (يوم الحساب) تلك اللوحة الثلاثية للبعث والحساب والرجاء والندم والجنة والجحيم التحق بالخدمة العسكرية في وقت من أصعب وأدق فترات التاريخ المصري الحديث ليشارك في حرب الاستنزاف (1968-1970) كمقاتل في صفوف الجيش الثاني الميداني.. حيث يقول الكاتب جمال الغيطاني: "كان هدفنا منطقة الدفرسوار جنوبالإسماعيلية، سمعنا عن قناص مصري شاب تمركز في هذه المنطقة، وأثار رعباً في خطوط المواجهة بالنسبة للعدو، كان يكمن في موقعه لمدة طويلة يلاحظ أفراد العدو، ويرصد خطواتهم وتحركاتهم، وعاداتهم اليومية، ومواعيد تناول طعامهم، وتبديل دورياتهم ونوبات حراستهم، حتي.. ذهاب كل منهم إلي دورة المياه، من موقعه غرب القناة يمضي الساعات الطوال من مربضه، صبوراً، كامناً بيده بندقيته المزودة بمنظار مقرب دقيق، وفي لحظة معينة يحددها هو من واقع دراسته وخبرته ومتابعته.. ويضغط بحساسية بالغة علي الزناد بيد واثقة هادئة شجاعة.. تنطلق رصاصة واحدة فقط لا يعقبها أخري ولكنها رصاصة وكفي.. كثيرون حدثونا عنه، عن ست عشرة رصاصة أطلقها في اتجاه مواقع العدو لم تفلت واحدة منها الهدف قط، لكن أغرب ما قيل لنا أنه في الأصل فنان تشكيلي..!" وعن هذه الفترة سجل نوار وجوده كقناص مصري بميدان الحرب علي جبهة القتال في كتاب (نوار.. عين الصقر).. وتولي كتابة المقدمة اللواء عبد المنعم خليل قائد الجيش الثاني الميداني خلال حرب الاستنزاف وأحد أهم نجوم العسكرية المصرية، وحرره الكاتب سليمان العطار، والكتاب يتناول أول سيرة ذاتية لجندي علي خط النار. ويفاجأ "نوار" الجميع قبل سفره إلي إسبانيا في العام 1971 بعد أن سمحت له المؤسسة العسكرية بالسفر لاستكمال تعليمه الأكاديمي بمعرض في قاعة إخناتون السابقة بشارع قصر النيل وسط مدينة القاهرة.. حيث طالع الجمهور القاهري أثار ما يحدث في جبهة القتال من خلال عرض دانات المدافع وشظايا الدبابات وأجزاء من صواريخ أرضية وبقايا انشطارات. كانت إسبانيا واحدة من أهم محطات "نوار" الفنية بعد حصوله علي منحة دراسية من أكاديمية سان فرناندو بمدريد في العام 1971، كان قد حصل علي هذه المنحة عن طريق اشتراكه بلوحة واحدة في فعاليات بينالي إيبثيا الدولي. ارتبطت إبداعات نوار بمنطلقات وطنية إنسانية، حيث رسم عن القدس وحرب فيتنام، لكن تجربة مشاركته في حرب الاستنزاف كانت المحك الأصيل في حياة فنان واجه الموت دفاعاً عن الأرض، خاصة وأن جذوره الريفية تعطي لتراب الوطن قدسية. جماعة المحور جمعت جماعة المحور نوار مع الفنانين: مصطفي الرزاز، عبد الرحمن النشار، فرغلي عبد الحفيظ، في العام 1981، وقدمت المحور أول معارضها بقاعة السلام بالجزيرة أما معرضهم الثاني فجاء في قصر المانسترلي بجزيرة الروضة بعد ذلك بعام، وفي سابقة هي الأولي من نوعها يقوم الأربعة فنانين بإنجاز عمل فني واحد، وعلي الرغم من أن الجماعة اعتمدت علي أساس فكري وفلسفي وتوحد أعضائها من منطلق مفاهيم درست بعناية، إلا أنها ككل الجماعات تبخرت. عن تجربة جماعة المحور يقول نوار: مع نشأة الجماعة في عام 1981 كانت بمعايير بداية التجربة ناجحة، رغم الهجوم العنيف الذي واصله 99% من النقاد، والمهتمين، وهذا أرجعه إلي عدم استيعاب فكر الجماعة في البداية، إلي أن تغير التناول، بعد المعرض الثاني، في عام 1982، مضيفا فقد تحقق كثير من الأهداف وجماليات العمل الفني المشترك، واستجاب عدد كبير من الفنانين والمهتمين بالفن بهذا العمل. أما العمل الفني الثالث فقد كان خارج الحدود ويكشف نوار عن جوانب من هذه التجربة، ويقول نوار: في آسي جمعتنا جدران مدينة أصيلة، في العام 1984، والعمل عبارة عن جدارية علي زاوية مدرسة، طولها 24 مترا، بارتفاع 5 امتار، وجاءت مختلفة عن التجربتين السابقتين، من حيث العرض والموقع، فقد كانت الاعمال السابقة انشائية، من بدايتها حتي نهايتها، فيما كانت جدارية أصيلة، معالجة بصرية لمبني له طراز معماري معين. ويبين نوار ان هذا العمل كان بداية، الانشقاق بعد أن دب الخلاف بين اعضاء الجماعة، حيث اعتبر احد افراد الجماعة ان العمل الذي كان جماعيا في المرات السابقة، تحول إلي عمل جدارية المدرسة بأصيلة إلي اعمال متجاورة، لأعضاء الجماعة، في حين أن العمل خضع لنظام رياضي محكم ككل أعمال الجماعة. وفق معادلات وتقنيات تقوم بها الجماعة قبل التنفيذ، وهذه الدراسات تحدد نظام الحركة، في العمل والتداخلات الخاصة والعامة، وهذا ما اراه يتناقض مع ما طرح بان العمل لا يعبر عن الجماعة مجتمعة في عمل فني واحد. وبهذا الخلاف توقفت الجماعة، الأدهي من هذا أن الخلاف تحول إلي خلاف شخصي وليس فكريا، إن سبب فشل الجماعات الفنية في الاستمرار، فمرجعه عدم فهم طبيعة الجماعة، حيث ان اي فنان قبل إن ينضم إلي جماعة كعضو لابد أن يكون وصل إلي قناعة وإيمان كامل بتقديم مقوماته الإبداعية لخدمة الأهداف العامة للجماعة في ظل إنكار الذات بحيث ينصهر الفرد داخل المجموع. تجميد الإبداع ويقبل نوار العمل الإداري، الذي يعد أحد الأحكام التي تجبر الفنان علي وضع إبداعه وأفكاره، وابتكاراته، وإضافاته الفنية في حالة تجميد، أو كما هو دارج مشروعه الفني في الثلاجة، وقتها عندما التقيته، في دار الأوبرا المصرية، بعد افتتاحها بأيام قليلة، بادرته: لماذا قبلت منصبا رسميا سوف يفرض عليك ترك مرسمك؟! قال نوار: "الوظيفة بشكل مطلق قاتلة للإبداع، لكن علي الفنان أحيانا أن يضع المصلحة العامة باعتبارها عملا وطنيا في كفة والفن في كفة أخري، فعندما كلفت بتأسيس كلية الفنون الجميلة بالمنيا كنت مؤمنا أن تأسيس الكلية علي منهج علمي صحيح ومساعدة أجيال جديدة من الشباب علي التخرج منها يساوي عندي الكثير من الأعمال الفنية" وإذا كان نوار في نهاية الستينات يري الحياة من خلال فوهة بندقية سواء بمعناها المجازي، كقناص أجهز علي (16) إسرائيلياً أو بشكل رمزي عبر لوحاته في تلك الفترة، إلا أن نوار الثمانينات اتجه إلي دائرة تعبيرية أكثر شمولية. لذلك ظهرت الحمامة ذلك الطائر الوديع رمز السلام في إبداعات نوار بعد ذلك مكبلة أو منهكة أو مستسلمة، لتعكس دلالات واضحة ومحددة. وعلي الرغم من تعدد مراحل نوار الفنية، يظل عمل (فلسطين 52 سنة احتلال.. من الناقورة إلي رفح) شهادة علي زمن الاغتصاب وضياع وطمس الحقوق خاصة أن العمل ينتمي إلي الفن المفاهيمي، أحد الصيغ الفنية الجديدة التي تتجاوز شكل ودور لوحة الحامل التي نعرفها، وتحتفظ بها المتاحف منذ عصر النهضة الأوربية، فقد تعددت صور التعبير في هذا العمل ما بين فن الأرض، والتصوير (الرسم الملون) واستخدام الميديا، حيث استطاع نوار أن يجسد صرخة مدوية عندما صور 52 مقبرة تم حفرها في حديقة مجمع الفنون بالزمالك، فيما يمثل الرقم 52 سنوات الاحتلال وعدد المذابح التي راح ضحيتها المئات بالإضافة، إلي مقبرة تمثل الأممالمتحدة، ومقبرة تمثل جامعة الدول العربية، والمقابر عبارة عن فتحات في الأرض تخرج منها أياد بيضاء ترفع علامة النصر وتتجه فلكياً إلي القدس. كما لجأ نوار إلي توثيق عمله الذي ينتمي إلي فن الأرض عبر إنتاج فيلم سينمائي مدته (10) دقائق جمع بين كونه رؤية تشكيلية وسينمائية في قالب واحد، وفي شكل رسالة موجهة إلي العالم تفضح ممارسات إسرائيل ضد العرب والفلسطينيين في الأرض المحتلة. التقي عمل نوار مع الفن المفاهيمي، وفن الفكرة وفن الأرض، وهو التوجه الذي يسعي إلي دمج الفن بالحياة، وعرفه العالم في منتصف ستينات القرن العشرين، متجاوزا التيارات الفنية السابقة، (البوب آرت، الواقعية الجديدة)، والفن المفاهيمي تصبح معه الفكرة الهدف الفعلي بدلا من العمل الفني نفسه. سلك نوار مجالات فنية، عديدة بداية من الرسم في مشروع تخرجه، والتصوير، وأيضا الجرافيك تخصصه الأساسي، ومؤخرا النحت، للدرجة التي صمم ونفذ، عدة تماثيل في المكسيك من الحديد وبأحجام ضخمة جدا.