استهل توفيق صالح حديثه عن السيدة الفاضلة التي قاسمته معاناته وكفاحه، ردا علي سؤال من الناقدة فريدة مرعي فقال: التقيت الآنسة «روضة» وعرفت أنها قريبتي من ناحية أمي واستغربت أن بين أفراد عائلتي شابة بمثل هذا الجمال وباختصار تشجعت وتقدمت لخطبتها كنت عائدا لتوي من فرنسا بدون عمل بدون دخل، ولكن قلبي عامر بالأمل ومن الغريب أنها وافقت. وبعد الخطبة اختليت بنفسي أتأمل حالي كان فيلمي الأول «درب المهابيل» عن قصة لنجيب محفوظ قد تم عرضه ولم ينجح تجاريا وإن قدره النقاد بعد ذلك بخمسة عقود تقريبا واحدا من أهم مائة فيلم في السينما المصرية، قد لا يتسع خيالكم لتصور حالي، كان السينمائيون إن قابلوني لا يردون سلامي «يضحك في أسي» وأهنت كما لم أهن في حياتي حينما نشر مخرج كبير أن «درب المهابيل» و«السوق السوداء» لكامل التلمساني هما أفشل فيلمين في تاريخ السينما المصرية كل ذلك كان يحز في نفسي، وإن لم أفقد قط احترامي لذاتي وحقيقة الأمر لو كنت عاقلا. الحبيبة تنتظر ولو كنت لا أحب السينما لهجرتها إلي أي حرفة أخري، ولكن من أين يأتي العقل كل هذا وكان علي أن أتمم زواجي فالحبيبة تنتظر. والحال لا يخلو من الكوميديا فقد كان البنك الذي يمولني عند الحاجة هو بواب العمارة التي أقيم فيها وكنت أسارع إلي تسديد ديوني بمجرد أن تصلني أي سيولة وهكذا دارت العجلة أستدين ثم أسدد، أسدد وبعدها أستدين. تأملت أحوالي وتساءلت كيف بالله عليكم أن أتزوج وأغطي متطلبات الزواج وتوابعه وبالمناسبة كانت العروس لا تجيد الطهي وكم ابتلعت نتائج تجاربها، ولكن بعدها منحتها شهادة الجدارة في فن الطهي والتدبير بما فيه إدارة حياتي فوهبتها لها، فلاش باك إلي نقطة البداية، اتخذت قراري بالانسحاب وعدم إتمام الزواج كل ذلك غريب ولكن الأغرب أن العروس رفضت موقفي وأعلنت تمسكها بي وكانت حمامة السلام بيننا هو صديقي صلاح جاهين رحمه الله باختصار تزوجنا وكنا نعيش علي الفيض الكريم. مرة تصيب ومرة تخيب التفت توفيق صالح إلي الزميلة فريدة مرعي موجها حديثه لها، كل ما قلته وما سأقوله في إطار الإجابة عن دور السيدة حرمنا المصون في حياتي فأنا لم أخرج عن الموضوع كتبت قصة فيلم «إحنا التلامذة» بمشاركة كامل يوسف وقد نجح الفيلم نجاحا ملحوظا وحصلنا علي 150 جنيها تقاسمناها بالعدل. كنت أتردد علي المنتج جبرييل تلحمي في شركته وكان يقابلني بكل ود وفي تلك الأيام كان نجيب محفوظ ينشر في جريدة الأهرام رواية «أولاد حارتنا» علي حلقات وكان المنتج الكبير يقرأها بانتظام وفي إحدي زياراتي كلفني بإعداد تلك الرواية للسينما، وقال لي بالحرف الواحد «اعمل أكشن» أما عن صاحبك نجيب محفوظ وكان يعرف مدي صداقتي له فسوف أعطيه ما يطلبه. أقبلت علي العمل بحماس، بينما يتابع الأهرام نشر الحلقات حتي وصل السرد إلي زمن السيدة العذراء والسيد المسيح. قرأ تلحمي الحلقة وأعاد قراءتها وما إن مررت مصادفة بمكتبه حتي صرخ في واتهمني وصاحبي بالكفر وما زاد علي ذلك أن طالبني برد مبلغ 15 جنيها كنت قد استعرتها منه وهكذا ضاعت فرص عمل كبيرة ودخل كبير. أما عن المبلغ المذكور فقد دفعته قيمة الاشتراك في مسابقة وزارة الثقافة التي كانت تقيمها سنويا لاختيار أفضل فيلم وأفضل سينمائي في تخصصه، وقد اشتركت بفيلمي «درب المهابيل» في مسابقة الإخراج، وبعد شهر من الترقب والانتظار جاءت المفاجأة السارة وفاز فيلمي بالجائزة الثانية مناصفة مع «رد قلبي» لعزالدين ذوالغفار بينما فاز «شباب امرأة» لصلاح أبوسيف بالجائزة الأولي وفي ذات المسابقة فاز «باب الحديد» ليوسف شاهين بالجائزة الثالثة قبضت علي ال 1000 جنيه وطرت إلي مكتب تلحمي لأسدد ديني ولكنه رفض استقبالي فتركت له المبلغ مع أحد الموظفين ووعيت أن الفرحة لا تكتمل ولكن القافلة تسير. حساب المستشفي في ذات اليوم مررت علي ستديو نحاس ربما لأتلقي تهاني زملائي فصادفت عزالدين ذوالفقار شريكي في الجائزة، فحييته بمودة ولكنه لم يرد السلام، ومن غرائب الوسط السينمائي أنه بعد أيام جاءني صوته أي عزالدين عبر التليفون وسألني بأدب أن أمر عليه في اليوم التالي، كان المسكين مريضا، راقدا في فراشه وأخبرني أنه شاهد فيلمي «درب المهابيل» مرتين علي ماكينة عرض 16 مللي وقدم لي سيناريو «صراع الأبطال» وعلي الفور اتفقنا ووقعت العقد، لا أطيل عليكم أنهيت الفيلم ولاقي تقديرا لدرجة أن فاز بالجائزة الأولي في فرعي الإخراج والسيناريو إضافة لجائزة أفضل فيلم. للأسف تدهورت حالة عزالدين ودخل العناية المركزة، استلمت قيمة جائزته كمنتج للفيلم وطرت بها إليه فابتسم لي ودعا والدته وقدمني لها وسددنا حساب المستشفي بقيمة جائزته. وفي إطار الإجابة عن ذات السؤال وبعد زيجة استمرت أكثر من أربعين عاما أقول لقد قاسمتني روضة مشقة الكفاح ووهبتني الراحة ومنحتني نعمة الأسرة. ودارت العجلة كنت أعمل سينما وعيني علي الجمهور المتلقي، وكنت مهموما بعمل سينما من نوعية خاصة، سينما تتضمن فكرة تحرك عقله وليس أحاسيسه وكنت معني إن شاهد فيلمي اثنين من الجمهور أن تكون المناقشة ثالثهما بعد العرض، وهنا اعترض الحكي أحد الحضور بسؤال إن كان المخرج الكبير غير معني بالعواطف؟ فأجاب بحسم إن جاءت في وقتها ومحلها واستطرد إلي أن ذلك هو دور المخرج السينمائي خاصة في البلاد المتخلفة كما بلادنا. بالطبع لم يعجب المنتجون بهذا الكلام فدأبوا علي السخرية مني واستأنفوا حملة ضدي شخصيا وضد أفلامي ولكنها للحق كانت أخف من الحملة التي واجهتني بعد عرض «درب المهابيل». الأولة تونس كان المتعارف عليه قياس نجاح الفيلم بمدي إقبال الجمهور علي مشاهدته وبناء عليه كان نجاح أفلامي بدرجة متوسطة في مصر وعلي العكس لاقت أفلامي إقبالا ملحوظا حين عرضها في البلاد العربية خاصة في تونس، لقد أضحيت نجما دون أن أدري فحينما سافرت إلي تونس للمشاركة في مهرجان قرطاج كان الناس العاديون يتركون مقاعدهم علي المقاهي ليرحبون بي وهنا أضاف الناقد هاشم النحاس حقا إن النقاد في تونس هم أول من لفتوا أنظارنا إلي قيم وقدر سينما توفيق صالح. سعد توفيق صالح بتدفق ذكرياته عن تونس وتعارفه علي النقاد والجمهور التونسي فواصل حديثه، كان طاهر الشريعة رحمه الله رائدا لحركة نوادي السينما في تونس وأيضا الوطن العربي وقد حضر إلي القاهرة بصفته رئيسا لمهرجان «قرطاج» وطلب عرض فيلمي «المتمردون» في المهرجان والغريب أن الأديب عبدالحميد جودة السحار وكان رئيسا لمؤسسة السينما قد رفض الطلب بحجة أن الفيلم يسيء إلي سمعة مصر، ولكنه عاد ووافق علي سفر الفيلم بعد إلحاح من الشريعة ولكن علي أن يعرض باسم المخرج وليس اسم مصر ليلتها زارني «الشريعة» في الاستوديو بصحبة مجموعة من النقاد وكنت أصور فيلمي «يوميات نائب في الأرياف» فدعوتهم لبيتي بعد انتهاء جدول العمل وانصرف الجميع بعد العشاء وبقي الشريعة وحده ليصل النقاش بيننا إلي الرابعة صباحا حدثني ليلتها عن حركة نوادي السينما التي أسسها في المدارس والمعاهد بجميع أقاليم تونس. وأضاف الشريعة أن كل الشباب هناك قد شاهدوا فيلمك «درب المهابيل» أكثر من مرة دعاني الشريعة لحضور المهرجان فقبلت الدعوة. واقع الأمر أنني كمخرج لي ملاحظاتي علي فيلمي «درب المهابيل» ولكن ما شاهدته من استجابة الجمهور في تونس كان أمرا مختلفا خاصة أن عام 1968 كان عام مظاهرات الطلبة في باريس مما كان له مردود علي استجابة الجمهور للفيلم، امتدت إقامتي في تونس بعد المهرجان لمدة شهر كامل وفي كل صباح كان يصحبني موظف من وزارة الثقافة في السيارة إلي بلد مختلف، جُلت 30 ناديا للسينما والتقيت جمهوره وبعدها جُلت شمال أفريقيا كله فكانوا يستقبلونني بكل احترام لبيت دعوات شخصية من تونس والجزائر والمغرب، حيث منحوني الجوائز والتكريمات وغمروني بالهدايا واعترض أحد الحضور علي إغفال توفيق صالح لتقدير النقاد في مصر له وذكره بدعوتهم له في ندوة الفيلم المختار التي كان يشرف عليها الأديب يحيي حقي مدير مصلحة الفنون في ذاك الوقت، ذلك حيث تم عرض فيلم «درب المهابيل» وعقبه مناقشة حول الفيلم فرد توفيق صالح أن يحيي حقي ذاته كان معجبا بالفيلم، وكذلك زوجته الفرنسية، والمفارقة أنه كموظف رسمي منع الفيلم من العرض في الخارج علي اعتبار أنه يعطي صورة سيئة عن مصر، حقيقة الأمر كانت هناك فجوة بين موقف كل من المنتجين، وأيضا الموظفين الرسميين من ناحية وبين المثقفين من ناحية أخري وفي تقديري أن الغلطة الأساسية في «درب المهابيل» كانت في عرضه أيام العيد، لأنه لا يحمل خواص أفلام العيد المعروفة. وبعد يا سادة مكثت خمس سنوات بعد فيلم «درب المهابيل» بدون عمل بحجة أن أفلامي ذهنية تحرك العقل وتطرق «الحديث إلي المخدوعون» فقال إنه سادس أفلامي، وبعد عرضه شعرت بالثقة بالنفس وأنني بدأت أفهم سينما وأتمكن من الحرفة وأنه لو واتتني الفرصة للعمل سوف أصنع فيلما أفضل من أفلام أمريكا ولكن الفرصة لم تواتين. شمعة جديدة خرجت إلي بغداد من أجل عمل أفلام من إنتاج مؤسسة السينما هناك وحتي لا أطيل عليكم عدت وكانت عودتي من عشرين عاما، سعيت للعمل والتقيت منتجين كثر وقد فاجأني أحدهم بسؤال إن كنت أستطيع أن أعمل فيلما علي وجه السرعة فعاهدت نفسي ألا أدخل مرة أخري مكتبا لأحد المنتجين. وهنا تدخلت الناقدة صفاء الليثي بقولها يا أستاذ توفيق لقد قمت بدور مهم في تاريخ السينما المصرية، ولك أفلام عظيمة علي قائمة أهم مائة فيلم في السينما المصرية فلا يجب أن تشعر بالمرارة. وهنا دعت صاحبة البيت الأستاذ توفيق لإطفاء شمعة علي مدار عمره المديد متعه الله بالصحة.