يورو 2024، الديوك الفرنسية تبدأ مهمتها بمواجهة منتخب النمسا اليوم    الجونة يستضيف البنك الأهلي لمداواة جراحه بالدوري    فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيراد يومي في تاريخ السينما المصرية    فيلم ولاد رزق 3 يحقق أعلى إيراد يومي في تاريخ السينما المصرية    استقبال 3079 حالة بطوارئ مستشفيات جامعة القاهرة خلال عيد الأضحى    أسعار العملات في البنوك اليوم الاثنين 17-6-2024    أسعار السمك اليوم الاثنين 17-6-2024 في الأسواق.. البلطي ب45 جنيها    تشكيل الإسماعيلي المتوقع ضد إنبي في الدوري المصري    موعد مباراة الإسماعيلي ضد إنبي اليوم الإثنين في الدوري المصري    أخبار مصر: وفاة 4 حجاج مصريين أثناء رمي الجمرات بينهم رئيس محكمة، ممثل مصري يتباهى بعلاقته بإسرائيل، منجم يحدد موعد يوم القيامة    «الأرصاد» تحذر من ظاهرة جوية مفاجئة في طقس اليوم    مصرع 5 أشحاص فى حادث تصادم بين قطارى "بضائع وركاب" بالهند    مصادر فلسطينية: القوات الإسرائيلية تقتحم مخيم عقبة جبر في أريحا ومدينة قلقيلية    حدث ليلا: نتنياهو يعيش في رعب.. وارتفاع أعداد قتلى جيش الاحتلال إلى 662    بالفيديو.. وفاة قائد طائرة خلال رحلة جوية من القاهرة للسعودية    الدولار يسجل 47.75.. أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه اليوم    زلزال بقوة 6.3 درجة يضرب جنوب البيرو    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. ثاني أيام عيد الأضحى 2024    لماذا خالفت هذه الدول توقيت احتفال أول أيام عيد الأضحى 2024؟    البيت الريفى.. الحفاظ على التراث بمنتجات ومشغولات أهل النوبة    «المشاط» ورئيسة بنك التنمية الجديد تزوران مشروعات «اقتصادية قناة السويس»    وفاة الحالة السادسة من حجاج الفيوم بالأراضي المقدسة    منافسة إنجليزية شرسة لضم مهاجم إفريقي    مصطفى بكري يكشف سبب تشكيل مصطفى مدبولي للحكومة الجديدة    بعد إثارته للجدل بسبب مشاركته في مسلسل إسرائيلي.. من هو الممثل المصري مايكل إسكندر؟    رامي صبري: «الناس بتقولي مكانك تكون رقم واحد»    دعاء فجر ثاني أيام عيد الأضحى.. صيغ مستحبة رددها في جوف الليل    حكم الشرع في زيارة المقابر يوم العيد.. دار الإفتاء تجيب    دعاء الضيق والحزن: اللهم فرج كربي وهمي، وأزيل كل ضيق عن روحي وجسدي    افتتاح المرحلة «ج» من ممشى النيل بمدينة بنها قريبًا    تقتل الإنسان في 48 ساعة.. رعب بعد انتشار بكتيريا «آكلة للحم»    البيت الأبيض: المبعوث الأمريكي الخاص أموس هوكشتاين يزور إسرائيل اليوم    مدفعية الجيش الإسرائيلي تستهدف بلدة "عيترون" جنوب لبنان    إجلاء نحو 36 ألف شخص إثر فياضانات عارمة بجنوب شرقي الصين    حلو الكلام.. يقول وداع    "تهنئة صلاح وظهور لاعبي بيراميدز".. كيف احتفل نجوم الكرة بعيد الأضحى؟    بسبب انفصاله عن زوجته.. موظف ينهي حياته قفزًا من الطابق الرابع بالجيزة    «زي النهارده».. وفاة إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوى 17 يونيو 1998    جثمان داخل «سجادة» في البدرشين يثير الرعب أول أيام عيد الأضحى (القصة الكاملة)    الكنيسة الكاثوليكية تختتم اليوم الأول من المؤتمر التكويني الإيبارشي الخامس.. صور    عيد الأضحى: لماذا يُضحى بالحيوانات في الدين؟    حظك اليوم برج الجوزاء الاثنين 17-6-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    انخفاض أعداد الموقعين على بيان مؤتمر أوكرانيا الختامي ل82 دولة ومنظمة    أجهزة مراقبة نسبة السكر في الدم الجديدة.. ماذا نعرف عنها؟    كيف يمكن التعامل مع موجات الحر المتكررة؟    القافلة الطبية «راعي مصر» تصل القنطرة شرق بالإسماعيلية    العيد تحول لمأتم، مصرع أب ونجله صعقا بالكهرباء ببنى سويف    وفاة خامس حالة من حجاج الفيوم أثناء طواف الإفاضة    هل يجوز بيع لحوم الأضحية.. الإفتاء توضح    مانشستر يونايتد يجدد الثقة في تين هاج    إيلون ماسك يبدي إعجابه بسيارة شرطة دبي الكهربائية الجديدة    الأنبا ماركوس يدشن كنيسة ويطيب رفات الشهيد أبسخيرون بدمياط    المحامين تزف بشرى سارة لأعضائها بمناسبة عيد الأضحى    تعرف على حكام مباراتى الجونة والبنك الأهلى.. والإسماعيلى وإنبى    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معمر القذافي: أنا أكره المدن
نشر في القاهرة يوم 25 - 10 - 2011

منذ اليوم الأول لمجيئه الي الحكم، اتخذ العقيد القذافي، طرابلس هدفا لعدائه وعدوانه، وفضاء لتنفيذ سيالاته الذهنية المريضة التي لا تعرف الا الهدم والتخريب، وتشويه معالم الجمال ونشر القبح وارتكاب المباذل وأعمال الشر، واطلق شعاره الحقير الذي يعبر عن هذا الكره لمدينة طرابلس وتاريخها وتراثها وما يتراكم فوق ارضها من رقائق حضارية وزخم ثقافي، وهو شعار الخيمة تنتصر علي القصر، معلنا سياسته الاجرامية في تصحير المجتمع الليبي، وبدونة العاصمة، والغاء المكتسبات الحضارية لمدينة ساهمت في بنائها وتشييدها روافد من الشرق والغرب، ومشي فوق ارضها رواد الحضارة الانسانية وحملت بصمات التاريخ الليبي منذ ما قبل الميلاد إبان تأسيسها باسم اويا علي ايدي الفينيقيين، وزاد هذا الحاكم الظالم امعانا في اهانة طرابلس عندما قال في تحقيق صحفي مع جريدة البلاغ في بداية العهد الانقلابي، انه يكره البحر، وباعتبار طرابلس منتجعا جميلا علي الضفة الجنوبية للبحر الابيض المتوسط ومركزا من مراكز الثقافة والحضارة والتجارة في هذه الضفة، وتتمتع بواحد من أجمل شواطيء هذا البحر، ظل علي مدي التاريخ محجا للسواح والزوار، ولها كورنيش تغني بجماله الشعراء وتفنن النبوغ الايطالي في جعله يضاهي شواطئ المدن الشمالية، فقد قرر هذا الحاكم المعبأ بالحقد والقبح والذوق الفاسد الدميم، الغاء هذا الشاطئ والحكم بالاعدام علي هذا الكورنيش وطرد البحر من طرابلس الي اقصي مدي يصل اليه عقله المريض وقدراته علي التشويه والاجرام والهدم، واعلن في البداية انه سيبني سورا يحجب به البحر عن طرابلس، وعندما وجد استهجانا وسخرية من اقرب الاعوان وابعدهم، قال إنه سيجعل السور جزءا من جامع يسد البحر من قاعدة الملاحة الي السرايا الحمراء وحاول ان يجد مهندسا يضع له خريطة لأغرب وأقبح جامع في التاريخ، وكان الامر من الغرابة والجنون بحيث لم يجد احدا يسير معه في مراحل التنفيذ، ومع ذلك بقي مصمما علي طرد البحر ومصادرة انسامه علي سكان العاصمة، وتفتقت عبقريته وربما عبقرية مستشاريه علي ان يمضي في مشروعه تحت حجة توسيع الميناء، وكان الشاطئ الليبي الذي يبلغ طوله الفي كيلومتر ضاق عن امكانية بناء ميناء يجاور طرابلس ويرفع عنها العبء باعتبارها مدينة مثقلة بما تنوء به اكتاف اي عاصمة من زحمة المرور، وضوضاء الشوارع، وتدافع البشر، وصحا أهل طرابلس ذات صباح ليجدوا ان الحواجز قد ارتفعت تحجب البحر، وتغطي الآلات والتجهيزات ومواد البناء ارض الكورنيش، واستغرقت العملية عدة اعوام، قبل ان ينتهي المشروع، لأنه لا يمكن ان يستمر الي الابد، وتزال الحواجز والآلات والمواد التي جلبتها الشركات الاجنبية التي تعهدت بتنفيذ ارادة الحاكم، فيكتشف الناس ان شاطئ طرابلس قد اختفي بل البحر نفسه نجح الحاكم في إزالته من مكانه، لانه انفق مليارات الدولارات من دخل البلاد في رصف هذا البحر وابعاده عن طرابلس في محاولة يائسة لفك الارتباط بين طرابلس والبحر، ونفيه بأسماكه وأمواجه بعيدا عن المدينة التي ارتبطت به وارتبط بها منذ فجر التاريخ البشري. سيدي حمودة بعد هذه الجريمة البشعة في حق طرابلس وربما في خط يوازيها ويتزامن معها، عمد هذا الحاكم الموسوم بالاجرام والحقد، وكراهية الليبيين وعاصمتهم، الي هدم أهم المعالم التي عرفتها طرابلس متمثلة في مركزها ومصب ومنبع شوارعها وهو ميدان الشهداء، فأعمل في العمائر التي تحاذي الميدان تقويضا وتهديما، فاختفت العمارة التي تحمل ضريح سيدي حمودة ومسجده، وتحمل مكتبة الاوقاف العريقة التي تمثل التراث الفكري والثقافي للمدينة، وازال العمارات المحاذية لها، لكي يفسح مكانا لذاته المتورمة المتضخمة، ومكانا لمنصات الخطابة التي يقف فوقها والجماهير التي ينتظر هتافها وتصفيقها، والتي اراد ان يفسح لها مكانا اسماه الساحة الخضراء. وفيما نراه عملا رمزيا رأي في التمثال الموجود في ميدان الشهداء للامبراطور الروماني ذي المنشأ والاصل الليبي سيبتيموس سيفيروس منافسا ومزاحما له، فأزاله من مكانه ورمي به في احد المخازن لأن المكان في ظنه لا يتسع له وللامبراطور القديم في نفس الوقت. وبحجة التجديد والتطوير، الذي كان في حقيقته تدميرا لذاكرة طرابلس ومسحا لتاريخها الحديث، عمد طاغية ليبيا الي هدم عدد من الفنادق التاريخية التي تميزت بجمال معمارها مثل الفندق الكبير، بسقوفه العالية وشرفاته الفسيحة المطلة علي البحر، وحديقته العامرة بازهار طرابلس وعطرها وعبيرها، ليبني بدلا منه عمارة حديثة، وكان طبعا بامكانه ان يبني هذه العمارة في اماكن محاذية للفندق حيث يوجد فضاء يستخدمه الناس مكانا لركن السيارات، ولكن العقل الاجرامي المهووس بمسح التاريخ لا يستطيع إلا أن يمسح فندقا شهد المخاض الذي سبق استقلال ليبيا، وكان المحل الذي ولد فيه دستورها، بمساعدة المندوب الأممي السيد إدريان بلت، كما عرف هذا الفندق ضيوفا نزلوا فيه عند انتهاء الحرب العالمية الثانية، مثل قائد الجبهة الغربية في الحرب العالمية الجنرال مونتوجمري، والقائد البريطاني وينستون تشرشل، والقائد الفرنسي شارل ديجول، كما لحق المصير فندقا قام بتشييده الوالي الايطالي ايتالو بالبو ليكون منافسا لافضل فنادق العالم في الثلاثينات وهوة فندق المهاري، الذي كان يملك مطعما Waldorfفي نيويورك فندق كان بحد ذاته معلما سياحيا، يأتي الناس لزيارة طرابلس خصيصا لتناول الطعام فيه، لأن جزءا منه كان غاطسا في ماء البحر بحيث تري الاسماك من خلال جدار زجاجي، وهي تعوم في عمق البحر، وكان ايضا باستطاعته ان يبني عمارة حديثة بجواره دون أي مشكلة فهناك من الابنية القديمة التي لا قيمة اثرية لها العدد الكثير، ولكن هكذا شاءت عقلية التشويه والتخريب والحقد علي طرابلس، ومآثرها السياحية والعمرانية، ولحق التشويه فندق الودان ثالث هذه الفنادق التي اعدها الحاكم الايطالي بالبو لتكون منافسا لاخطر فنادق لعالم، وكان يأتي بنجوم الغناء ونجوم السينما ونجوم الرياضة، ليشهدوا هذه الفتوحات في عالم الفندقة والسياحة. طارد الفن ويعرف من خبر طرابلس ما قبل العهد الانقلابي، انها كانت تتمتع بعدد من دور العرض المسرحي، والسينمائي، يبلغ ثلاثين دارا موزعة علي مدن الاقليم، ونصفها كان موجودا في مركز المدينة بطرابلس، وكلها ذات معمار ايطالي متميز وتنقسم ما بين دور صيفية دون سقوف، وأخري دور مسقوفة تعمل في كل فصول العام، وكان هناك مسرح الكشاف الذي قام ببنائه اعضاء كشاف ليبيا، كما كان هناك مسرح الغزالة وقد تم تخصيصهما للعروض المسرحية مع دار عرض الحمراء التي كانت تعمل ايضا مسرحا ودارا للعرض السينمائي، وهو حال اغلب دور العرض إلا أن تركيزها كان علي عرض الافلام، المهم ان الحاكم الذي عهد الي نفسه ان يكون هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وميتم المسرحيين والمسرحيات والفنانين والفنانات، لم يحارب الفن فقط بحجب الميزانية عن ادارات السينما والمسرح والموسيقي وغيرها، ولكن طارد هذا التراث المعماري وأعمل فيه معاول الهدم، فلحق التقويض والتدمير اغلب هذه الدور الي درجة انه لم تبق دار عرض واحدة من دور العرض الصيفية التي تميزت بها طرابلس، ولم تبق غير ثلاث او اربع دور في طرابلس كلها بدون صيانة ولا ترميم، تتولي بعضها تقديم العروض السينمائية، بآلات عرض قديمة وبامكانيات فقيرة بائسة تجعل الناس يهربون من حضور الافلام، ومنذ العام الاول للعهد الانقلابي احال دار عرض الغزالة الي مخزن للتربية والتعليم، مع انها احدي دور العرض المسرحي والسينمائي التي تتمتع بامكانيات كبيرة وخشبة شاسعة رحيبة، إلا أنه كرها للمدينة عمد الي حرمانها من معالمها الفنية، وحرم اهل المدينة من مكان للترويح والتسلية. ورغم بقائه مخزنا يتبع وزارة التعليم فقد كان امل المسرحيين ان هذا الصرح الكبير الذي كان بحجم دار كبيرة للاوبرا، سوف يعود ذات يوم الي طبيعته، ربما بعد زوال حكم القذافي، ولكن القذافي لم يكن ممكنا ان يسمح لهم بهذا الترف، فقبل سقوط عهده باشهر قليلة، تقدمت آلات البلدوزر تقرض بأسنانها العملاقة حجارة واخشاب مسرح الغزالة، فبعد أن استنفد اغراضه كمخزن لوزراة التعليم، وبدل ان يعيده الي اهل المسرح، أمر باعطائه لاحدي شركات الفنادق تجعله جزءا من مشروع فندقي جديد، وهكذا تحول مسرح الغزالة الي انقاض وعلي إثر ذلك تحول عهد القذافي نفسه الي انقاض غير مأسوف علي المصير المرعب الذي آل اليه. وكانت بشائر هذا الحقد علي المدينة وفنونها ووسائل الترفيه فيها، قد ظهرت منذ اول يوم للانقلاب، عندما استولي علي المجمع الترفيهي الذي كان المرحوم الاستاذ الزني صاحب سينما لوكس، قد انشأه ليكون متنفسا لمدينة طرابلس، بما احتواه من قاعة عرض سينمائي ومسرحي وصالات للافراح ومعرض للرسم ومطعم وحديقة وملعب للاطفال، وكان جاهزا للافتتاح عندما جاء العهد الجديد، واستولي علي هذا المكان، وبدلا من تسخيره كمكان للترفيه والترويح بمثل ما اراده صاحبه، صادره لصالح ادارته، وجعله قاعة لاجتماعاته العسكرية والسياسية واسماه قاعة الشعب، في حين كان بإمكانه وبما تملك الدولة من موارد ان يبني في شهر واحد عشرات القاعات لاجتماعاته السياسية والعسكرية، ويترك هذاالمكان الترويحي الترفيهي، الذي جاء ليكون رئة يتنفس منها اهل المدينة، للعاصمة واهلها، ولكنه الغل والحقد والحسد وكراهية ان يري اهل العاصمة خيرا، او يتذوقوا سعادة او ترويحا او ترفيها، هو ما كان يقود كل افعاله وتصرفاته . ولم يسلم التراث المعماري الديني والروحي من سياسة الهدم والتخريب، ووجد عندما جاء كيف كانت طرابلس تتميز بتنوع المصادر الحضارية لمعمار مساجدها وزواياها الدينية واماكن العبادة والصلاة، بعضها كان يأخذ طابعا مشرقيا، وبعضها طابعا مغربيا أندلسيا مثل زاويتي الكتاني، وهو صوفي من المغرب، وجامع مولاي محمد، وقد بني ايضا بنفس الاسلوب واخذ اسم شخصية مغربية، ودون ان يعرف احد السبب، عمد الي هدم المعلمين الاثنين، وكانا ابرز المعالم التي تمثل الامتدادات الحضارية الاندلسية في بلادنا، بحجة انه سيبني شيئا حديثا مكانهما، ولكن السؤال يبقي هو السؤال، لماذا الهدم، وهما يستطيعان ان يعيشا الف عام آخر؟ لقد رأينا كيف ان اسبانيا نفسها التي استردها الاسبان من حكم الدولة العربية الاندلسية، تحافظ علي المعالم التي مرت عليها الآن اكثر من سبعة قرون، وتترك قصر الحمراء وجامع الحمراء، كما هما وتبني حولهما العمائر الحديثة، ولكنها لا تقربهما، لكي لا يضيع عليها معلما أثريا ومصدرا من مصادر العراقة والفخار، ومآثر حضارية تستقطب السياح وتشير الي تاريخ البلاد. زنقة زنقة تفتق عقله العبقري في الهدم والتخريب، في مخطط لهدم مدينة طرابلس القديمة التي هي مأثرة للانسانية، فماذا يفعل وهو يعلم انها وعاء حضاري لكل البشرية ولها معالم ومناطق اثرية، محمية من قبل اليونسكو نفسها؟ لابد ان يجد حجة وهي ضيق الازقة بها التي يتعذر معها توصيل الخدمات، ودخول سيارات الاسعاف، مما يقتضي توسيعها زنقة زنقة، ولكن الحجة كانت واهية، لان المدينة بسبب الاهمال صارت فارغة من سكانها، وما تحتاجه ليس توسيع الازقة، ولكن ترميم البيوت والمعالم الاثرية قبل سقوطها، ورغم ضعف الحجة فإن معاول الهدم بدأت فعلا تباشر مهمتها، إلا أن مثقفي ليبيا، ومفكريها خاضوا بشجاعة واستبسال معركة ساخنة ضد هذا المخطط، ووجدوا في صحيفة الاسبوع الثقافي، منبرا لاطلاق صرخاتهم التي تحذر من هدم المدينة القديمة، وتحت إلحاح الرأي العام المحلي والدولي، تراجع الهدم وتظاهر الحاكم بأن الهدف لم يكن الهدم وانما تطوير المدينة القديمة، وقال له اهل الاختصاص إن ما تحتاجه ليس تطويرا وانما صيانة وترميم، وللتمويه والخداع أنشأ جهازا اسماه جهاز المدينة القديمة، لم يفعل شيئا لتطوير المدينة بقدر ما حافظ علي حالة التآكل والتفسخ لمعالمها دون جهد حقيقي للترميم والاصلاح. وفي حادث مرعب، تميز بالعته والجنون والاجرام، امر اجهزة الهدم والتقويض والمسح والازالة، في بلدية طرابلس، بأن تزحف بجرافاتها وآلات البلدوزر العملاقة، علي اجمل مبني من مباني طرابلس الاثرية لهدمه، وهو مبني مقر المصرف العقاري الايطالي، الذي تفنن مهندسو ايطاليا في جعله تحفة معمارية فنية، ووضعوا فيه مهاراتهم باعتباره المصرف المسئول علي تمويل مشاريع الاعمار في
ليبيا إبان الاحتلال، واستعاروا له لوحات الفسيفساء والجداريات الاثرية من متاحف ليبيا، لتزيينه وتمت صيانته والمحافظة عليه بعد نهاية الاستعمار الايطالي باعتباره تراثا فنيا يستحق ان تفخر به مدينة طرابلس، ولانه يتمتع بهذا التكوين الجمالي فقد تم اختياره بعد العهد الانقلابي ليكون مقرا لمجلس الوزراء، واستمر مقرا لمجلس الوزراء بعد ان تحول المجلس الي مسمي اللجنة الشعبية العامة، وانتهز جهاز هذه اللجنة فرصة وجوده في سرت التي ارادها الحاكم ان تكون عاصمة بديلة للعاصمة الحقيقية، فوضعوه في عطاء للتجديد والترميم كلف عددا من ملايين الدولارات، وثم تجهيزه بأحدث اجهزة التكييف وادخال التقنية الحديثة في منافعه ومكاتبه وما يحتاجه من خدمات الماء والكهرباء، وبعد انتهاء الشركات العالمية من مهمتها اعادوا اليه ما كان يضمه من اثاث وما يستحقه العمل من آلات الحاسوب وعادت الي المخازن، الاضابير والملفات، والي الارفف، الكتب والمراجع والوثائق . امر الحاكم الناهي والامر، بان تزحف الآلات لهدمه والتقويض عليه، وان تقوم بمهمتها دون تقديم انذار لاحد، وفي الصباح الباكر عندما لم يكن هناك احد موجود في هذا المكان، غير آهل الحراسة الذين تركوا المبني لهذه الاليات تتولي تهديمه، بما فيه من اجهزة وما فيه من منظومة للحاسوب وما فيه من منظومة للتكييف ومافيه من مكاتب ووثائق ومخازن، وما تضمه حيطانه من جداريات مرسومة منذ آلاف السنين ولوحات فسيفساء ثمينة لا تقدر بثمن، كله تحول الي انقاض في عدد محدود من الساعات، وسط عبرات عدد من الناس، بينهم أمناء من اهل المكان وقفوا عاجزين عن فعل اي شيء غير البكاء علي هذا المعلم الاثري الحضاري من معالم العاصمة الذي تحول الي اثر بعد عين. واكرر ذكر ما حصل لانني اعرف،ان كثيرين سوف لن يستطيعوا تصديق ما حدث، اكرر القول بأنه لم يكلف نفسه اطلاقا حتي وهو يرضي رغبته السايكوباتية بهدم هذا المبني الجميل الكبير بطابعه المتميز الاصيل العريق وطوابقه الكثيرة باصدار تعليمته، بأن يتم قبل الهدم اخلاء المبني مما فيه، من اثاث ومكتبات وارشيف يحتوي وثائق الدولة وملفات موظفيها واجهزة حاسوب ومنظومات للهاتف والتكييف والمصاعد تبلغ قيمتها ملايين الدينارات، وانما امر بأن يتم تهديم المبني بكل ما فيه ومن فيه دون انقاذ جهاز واحد او وثيقة واحدة. وكان اكثرنا حزنا علي رحيل هذا المبني استاذنا فؤاد الكعبازي الذي لا يزال يملك الوثائق والخرائط التي تثبث كيف ان المبني كان تحفة تاريخية. جريمة من جملة جرائم كبيرة وكثيرة، ارتكبها النظام الانقلابي ضد العاصمة، إلا أن اكبر هذه الجرائم وابلغها اثرا في حياة كل انسان يسكن العاصمة، كان الامر السامي القادم من رأس النظام، بمحق وسحق وقطع وبتر وازالة كل اثر، للحزام الاخضر الذي كان يحمي طرابلس من الاتربة وعجاج الصحراء، والذي كان يغذي الغلاف الجوي للمدينة بالأكسجين ويسهم في ترطيب وتلطيف أجوائها صيفا، ويتكامل مع انسام البحر القادمة من الشمال في خلق المناخ المعتدل الذي يميز طرابلس، وكان لابد لهذا الحاكم بعد ان طرد البحر ان يعمل شيئا هذه المرة لا لطرد الغابات التي تمثل حزاما اخضر، لانه يستطيع ان يعمل معها ما لا يستطيع ان يعمله مع البحر وهو إزالتها من الوجود نهائيا، بعد ان كانت تزهو بوجودها لعقود طويلة من الزمان، كما كانت تزهو بوجود جهاز فني يعتني بحمايتها وحراستها ويكرس جهوده لخدمتها، هو جهاز حرس الغابات، ويتدبر بأسلوبه في الخداع والمراوغة والتمويه، محاكمة عبثية صورة، للمجرمين الذين قاموا باتلاف الغابات المحيطة بطرابلس وتحويلها لارض للبناء، ونشر في الاعلام اخبار المحاكم التي كانت مجرد طبقة من الدخان لاخفاء الفاعل الاصلي وهو السيد العقيد نفسه لانه بسرعة انتهي الحديث عن هذه المحاكمات ولم نسمع بان أحدا أدين او أن أحدا تضرر منها. أنا أكره المدن طرابلس كانت علي مر التاريخ هي عاصمة القطر الليبي، واستمرت طرابلس هي العاصمة في عهد القذافي الا انه وبسبب روح البداوة التي تسيطر علي سلوكه وتفكيره،جعل الحكومة تتنقل من مكان الي آخر وكان يقترح أحيانا عاصمة في الجفرة، أو عاصمة في المنطقة الوسطي، ويخرج بحكومته الي سرت مسقط رأسه ثم لا يلبث ان يعود الي طرابلس، ولم تستجب السفارات الاجنبية الي دعواته المتكررة لتغيير العاصمة، لانها كانت تريد ان يستقر العقيد علي رأي، ويضع مخططا مقرونا بمدة زمنية، وتحرص علي ربط هذا الانتقال باستقرار الحكم في مدينة معينة، وتوفر الاماكن الصالحة كمقرات لها، ومساكن للسفراء والدبلوماسيين، كما كانت تسأل عن المطار الدولي والميناء الدولي ايضا الذي تحتاجه لكي تؤمن به استمرارا وانتظاما في عملها، ولهذا ظل تهديده بتحويل العاصمة من طرابلس الي مكان آخر مجمدا، بين الرفض والقبول، بين التنفيذ والارجاء، وكان الاهمال هو الغالب علي تصرفات العقيد مع العاصمة وتأجيل المشاريع التي يتم وضعها في الخطة فلا تصل دائما الي مرحلة التنفيذ بأكثر من اوحد في المائة، وكان يهمل احيانا نظافتها الي حد تصبح فيه مهددة بالاوبئة لكثرة الجرذان والحشرات، وكان يقول تعبيره الاشهر " انا أكره المدن " وتكون ترجمة هذا القول خطط هدم وتخريب، دون بناء لغيرها الا اذا كان عملا عبثيا مثل بناء قاعات واجا دوجو الفخمة الفاخرة التي تضم أكثر من عشرة مسارح حديثة في صحراء سرت وانفاق اكثر من نصف مليار دولار علي بنائها دون ان يكون هناك احتياج لها او برامج لاستغلالها، ولا يتم بها الا اجتماع واحد في العام لا يأخذ اكثر من نصف او ربع احدي قاعاتها، ونفس المبني كانت تحتاجه طرابلس وكان سيجد فرصة لاستغلاله وتوظيفه وإقامة المهرجانات والمعارض والفعاليات الفنية والثقافية الا انه حارب وجود هذا المرفق في طرابلس، ومنعه من ان يحدث، بل ألغي كل مشروع لاقامة مكتبة بالمدينة، وألغي عند مجيئه الي الحكم مجمعا ثقافيا كبيرا كانت الدولة قد تعاقدت علي انشائه في قلب العاصمة تحت مسمي مشروع الاوبرا، واستهزأ به واعتبره مشروعا غربيا إمبرياليا مع انه كان مجمعا كبيرا من ست طوابق مثل مركز بومبيدو في فرنسا او مركز جون كينيدي في واشنطن، ربما اقل حجما الا انه كان علي هذا المنوال الذي كان موجودا مثله في عدة عواصم في العالم وتم تصميمه علي طرازها، وكان لنا صديق، رحل العام الماضي عن عالمنا هو الاستاذ الطاهر الشويدي عاش حياته الي ان مات يطارد حلما واحدا هو بناء مركز ثقافي في طرابلس وكان كلما نجح في الحصول علي قطعة أرض وقام بوضع لوحة فوقها وحصل علي تمويل لانشائها وأتي بالشركات الاستشارية لوضع الخطط لها وسافر الي مكتبات في العالم بينها مكتبة الكونجرس في امريكا يستعين بخططها وخرائطها لانه كان يريدها ان تكون علي احدث طراز، جاء في المرحلة الاخيرة من مخططاته، وهي مخططات كنت شاهدا عليها بدأت منذ مطلع السبعينات وكان يشعر أن شبحا يحاربه بينما هو في الحقيقة شبح واحد يكره ليبيا ويحارب كل من كان يعمل علي تنميتها وتطويرها هو معمر القذافي. نعم، انه يكره البحر كما يقول، ويمنع ان يبني انسانا شقة لها شرفة علي البحر، بحجة ان البحر هو المكان الذي جاء منه الغزاة، وكان السؤال الذي لم يساله له احد بعد ان تلقي غارة من السماء علي بيته، هو هل صرت تكره السماء ايضا لانها كانت مصدر غارة علي بيتك؟ واستميح القارئ عذرا في أن أنقل وصفا لمدينة طرابلس كتبته عنها منذ اكثر من عشرين عاما وضمنته في الجزء الثالث من روايتي الثلاثية وهو الجزء المسمي نفق تضيئه امرأة واحدة حيث ورد هذا الوصف للعاصمة (مغلفة بأزمتها . لم تعد قرية ولم تصبح مدينة بعد. لا هي شرقية ولا غربية . لا تنتمي إلي الماضي ولا تنتمي إلي العصر. معلقة بين البحر والصحراء، وبين زمن مضي وزمن لا يأتي، تعيش مأزقها التاريخي، منذ أن تخلت عن طبيعتها القروية وفشلت في اكتساب طبيعة جديدة . انتهي الزمن القديم بأفراحه البدوية، وحلقاته الشعبية التي تعقد في الأسواق وموالد الأولياء، وحفلات ختانه وأعراسه، وبيوته المتداخلة المندمجة في بعضها البعض، وقد اكتظت بسكانها الذين يصنعون لكل مناسبة عيداً . وباغتها زمن جديد لم تكن مهيأة له، أو راغبة في أساليب حياته العصرية، فرفضت الانتماء إليه، وظلت معلقة بين ماضيها وحاضرها، لا تجد شيئاً تنتمي له أو ينتمي إليها، تنظر بريبة وخوف إلي العالم الذي يحيط بها . أخذت من العصر الجديد، شبكات الطرق الاسفلتية التي تحرقها الشمس، وصناديق العمارات التي يسفعها الريح وتتكدس حولها الأتربة، ويسكنها بشر خرجوا من خباء القبيلة ولا يعرفون التعامل مع جيرانهم الذين جاءوا من قبيلة أخري إلا بمنطق النظرات المذعورة التي تطل من وجه إنسان مشنوق . ثم ركام هائل من الحديد الذي يقذف به البحر علي شواطئها كل يوم، في شكل سيارات ومصاعد ومطابخ ومدافع وأسياخ تصنع منها منصات الخطابة . وما عدا ذلك فقد ظل هذا الجديد شيئاً لا تقوي علي الاقتراب منه، حتي لو أدركت أن بعضه ضروري لاستكمال شكلها الحضاري، فإن قلبها البدوي يرتعب عندما يأتي ذكر الأندية والمسارح والملاهي والحانات والمكتبات وقاعات الرقص ومدن الألعاب ومراجيح الأطفال ودكاكين الورود وجمعيات الرفق بالأطفال والأشجار والطيور ومستشفيات القطط والكلاب، كبديل لزهدها البدوي وأفراحها القروية القديمة التي انقرضت يوم أن خرج أهلها يحرقون الأشجار ويستبدلونها بأعمدة الاسمنت، ثم قاموا بمسيرة جماعية لنحر جمالهم واستبدالها بحشرات حديدية يركبها الواحد منهم وكأنه نبي تخلف عن عصره وجاء يركب براقه كي يلحق بهذا العصر)

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.