أشرنا هنا من قبل إلي ضرورة تشكيل لجنة من المثقفين المتخصصين لإعادة صياغة تاريخ مصر الحديث في سياق استشراف مستقبل ثورة يناير ، منوها ً إلي أن كل دراسة تاريخية لها قيمتها - خاصة إذا قام بها فريق عمل - لا غرو تحمل في طياتها إشارة ً ونبوءة "علمية " لما هو آت. وكان المقال قد اقترح أن تكون نقطة الانطلاق من مناهج "حداثية" أساسها دراسة تطور الواقع الإنتاجي المرتبط بكفاح الشعب وليس "الرصد الحكائي" لسياسات الرؤساء والوزراء. ذلك أن تلك المناهج قد أثرت العقل المصري باجتهادات بعض المؤرخين الجدد من أمثال محمود إسماعيل وعبدالهادي عبدالرحمن وعلي مبروك، الذين أضاءوا لنا فترات ُأريد لها أن تظل مظلمة في تاريخنا العربي والإسلامي الوسيط، بجانب صلاح عيسي الذي محا نفس الظلمة عن تاريخ مصر الحديث والمعاصر. في هذا السياق وقع الكاتب علي كراسة شديدة الأهمية قامت بنشرها دار ميريت منذ عشرة أعوام ونيف للدكتور عماد بدر الدين أبو غازي بعنوان " الجذور التاريخية لأزمة النهضة في مصر" يشرح فيها المؤلف مقصده بمصطلح النهضة " إحياء منظومة قيم الاستقلال والتحرر التي قتلها الاستعمار، ودفنها الاستبداد ". لكن صاحب الكراسة ينتقد دراسات بيتر جران ونللي حنا وسمير أمين التي رصدت حركة الإحياء في القرن 18 ورأت أنه لولا تدخل الغرب لآتت البذور ثمارها لأنها دراسات " تؤبد التخلف بما تسميه الطريق الخاص لكل مجتمع " وكأن المطلوب لمن يريد التحرر والنهضة أن ينعزل عن العالم ! وبنفس القدر ينتقد أبو غازي الاتجاه المعاكس برموزه : الرافعي ولويس عوض وحسين فوزي الداعين لكون النهضة وليدة الاحتكاك بالغرب ، بل والسير علي هداه . بينما يري عماد أن هذا الفكر يفرض نموذجا ً Paradigm وحيدا ً للتطور هو النموذج الأوروبي . تلك إذن رؤية نقدية لا غش فيها، من شأنها أن تقود خطي المؤرخين الجدد - سيما الشباب منهم - إلي إعمال آليات البحث والتنقيب عند الجذور ، مفسحة المجال للأرقام أن تتكلم حتي إذا ُعرفت التفاصيل أمكن للباحث أن يطلق حكما ً موضوعيا ً وليس مجرد ناتج تأملي يبحث له صاحبه عن مسوغات وتبريرات. والحاصل أن الكراسة تزخر بالإحصائيات التي تؤسس للفكرة المراد استخلاصها والتي يمكن تتبعها في أن النهضة الحقيقية ممكنة فحسب حين تنشأ وتتسع طبقة ملاك الأراضي ( البورجوازية الزراعية) لأنها تغدو قادرة علي تنشيط التجارة ، والتجارة هي الأم " البريختية" للتصنيع، ترعاه تحقيقا ً لمزيد من الأرباح ، وقد تتركه لغيرها - إن جذبه منها - كي لا ينخلع ذراعه ! وهي في غمرة نشاطها لا غرو تشجع انتشار التعليم والبحث العلمي ، وعلي عكس الإقطاع فهي بحكم مصالحها النشطة، تتقبل التغييرات الثقافية بل وتسعي إليها سعيا ً. وهو ما رأينا نموذجا له في ستينات القرن الماضي بعد تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي،الذي ضاعف من نشاط التجارة الداخلية وأسهم في توسيع دائرة القوي الشرائية وسافر بالطبقات المعدمة إلي " قارات " التعليم وفضاءات الثقافة الرفيعة. وتلك هي النهضة في جانب من جوانبها بغض النظر عن نظرية الطريق الخاص للتطور، أو النظرية الأخري القائلة بضرورة احتذاء النموذج الأوروبي. ماذا قالت الأرقام في الكراسة ؟ لقد شهدت أواخر عصر المماليك البحرية (1382- 1517) تراخي قبضة الدولة علي أراضي مصر، التي احتكرها ما يطلق عليه اسم " النمط الآسيوي للإنتاج" Asiatic Mode of Production وهونمط سكوني جامد ، يلد في السياق السياسي ما ُيعرف بالطغيان الشرقي Oriental Despotism تبعا ً لقانون من يملك وحده يحكم وحده . لذا فما أن حل وباء الخمسة عشر عاما الذي اجتاح البلاد منذ العام 1379 وراح يحصد كل يوم ما بين عشرة آلاف وعشرين ألف نسمة ( حسب ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة ) حتي سقطت دولة المماليك الأولي ليتصدع بسقوطها أساس النمط الآسيوي ، حيث اضطرت الدولة المملوكية الثانية ( الجراكسة ) لبيع جانب كبير من أراضيها الزراعية للأفراد ، حيث بدأت الأرض الزراعية - ولأول مرة - تأخذ شكل السلعة والتي هي بداية الإنتاج الرأسمالي مما أفسح الطريق للحراك الاجتماعي Social Mobility منتقلا ً بعلاقات الإنتاج جزئيا ً من العصر الإقطاعي المغلق إلي مشارف العصر البورجوازي الأكثر تقدما ً وحيوية. بيد أن ذاك الحراك الاجتماعي - علي أهميته وقتها - لم يكن ليتعدي مرحلة وضع الأسس إلي مرحلة تنفيذ المشروع التاريخي " الثوري " وذلك لأن معظم الأراضي المنقولة ( 54 %) بيعت لأفراد الطبقة الحاكمة : السلطان، والأمراء، ومن كانوا يسمون " أولاد الناس " وهم أبناء المماليك وزوجاتهم وجواريهم (20% ) وقد كانت تلك الأراضي في حيازتهم أصلا ً ولكن كحق انتفاع دون حق الرقبة. الأمر الذي أبطأ من مسيرة الحراك الاجتماعي إلي أن دهم البلاد الغزو العثماني في أوائل القرن السادس عشر ليطيح بمفردات المشروع وبالأسس القانونية التي توفرت له في ضربة واحدة، حيث صارت مصر بكاملها ملكا ً خالصا ً للخليفة العثماني . الاستقلال السياسي والتنظيري وتبقي أهمية هذه الكراسة في كونها تأصيلا ً للمنهج العلمي في دراسة التاريخ ، لنستخلص منها كيفية النظر إلي الحوادث الكبري من زوايا جديدة، وضرورة الاعتماد علي الأرقام والإحصائيات المستمدة من المراجع الموثوق بها ، مع مقارنة بعضها بالبعض حتي لا يعكر واحدها علي المشهد العام جراء انحيازه لسلطة قديمة أو حديثة. وبجانب هذا وذاك فالكراسة تقرر بمنهج جدلي واضح أن الاستقلال ليس محضا تحرر من الحكم الأجنبي، بل هو أيضا - علي المستوي التنظيري - الاستقلال عن مخايلات نموذج مغاير للتحديث، كي تتجنب الإرادة الوطنية الوقوع في شرك التبعية، ولكن من دون أن يعني ذلك انغلاقا ً وتقوقعا ً علي الذات. وبهذا الفهم المزدوج لمعني الاستقلال يتبين أنه هو حجر الزاوية لكل نهضة مأمولة ، والركن الركين لكل ثورة تسعي لتغيير الأسس المادية لأوضاع الملكية. إذ بدون هذا التغيير " المادي " الملموس فلا مجال للحديث عن تغييرات دستورية أو قانونية أو أخلاقية ذات أثر حاسم في حياة الناس.