لم يكن هذا الاحتفال مجرد احتفال عادي بميلاد هذا المسرح العتيق بل كان ميلادا لنوع جديد من المسرح تحدي فيه "ستوبارد" نفسه وتحدي فيه أيضا شكل ومضمون ما يمكن أن يقوم بتقديمه المسرح التقليدي الجاد بدءا بطول مسرحية «البحث عن وطن أفضل» التي امتدت عبر تسع ساعات والتي كانت البطولة فيها لعدد من الأفكار المجردة التي تتناول تاريخ الفكر السياسي الحديث والتي تتوقع من المشاهد درجة عالية من الأستيعاب والتماثل مع الصراع الدرامي بين تلك الأفكار. وليس هناك شك أن "تشيكية" جذور "ستوبارد" جعلت من التاريخ السياسي الروسي تاريخا خاصا بالنسبة له هذا غير إيمانه بأن روسيا في القرنين الماضيين لم تكن سوي " حقل تجارب" للفكر السياسي الحديث سواء كان هذا في صورة الاشتراكية الأوروبية أو تجارب أخري أقل نضجا وأسرع طهيا غالبا ما كانت النموذج الذي بني عليه الكثير من الأنظمة السياسية التي سادت العالم وبالتحديد العالم الثالث في القرن العشرين. واعتمد "ستوبارد" في كتابته لهذا العمل المسرحي علي "المثقف الروسي" وتفاؤله في الدور الذي يمكن أن يلعبه في تشكيل الوطن وكيف بدأت هذه الظاهرة مع حركة التحديث التي قام بها الامبراطور "بطرس العظيم" واستكملتها زوجته الامبراطورة "كاترين" التي قامت بتأسيس "الهيرميتاج" في بطرسبرج ليصبح أحد أهم القلاع الثقافية في العالم وجمعت أيضا من حولها أهم الفلاسفة الفرنسيين قبل أن تنقلب عليهم بعد قيام الثورة الفرنسية لخوفها من أن تصل عدوي الثورة إلي الأراضي الروسية! تنويعات ولنعود إلي هذا العمل المسرحي الذي يتكون من ثلاثة أجزاء تعتبر تنويعات علي نغمة الفكر الثوري الرومانسي بتوجهاته المثالية الهادفة للتغيير والذي سرعان ما يصطدم قاربه وتتكسر قلوعه علي شواطيء التضاد واليقين والتطرف ليدرك في النهاية أن هناك فارقا كبيرا بين الإبحار في الفكر والغرق فيه.ولقد استعان "ستوبارد" في بحثه بمصادر تاريخية مهمة أهمها مجموعة مقالات " ايزيا برلين" عن المفكرين الروس والتي نشرت لأول مرة عام 1978 وأعيد طبعها أكثر من مرة. وبالرغم من أن هذا العمل يتسم بالذهنية العالية وموضوعه الجاد يخرج لحد كبير عن نطاق مايهم الشريحة العريضة من المجتمع البريطاني الا أن هذا المارثون الذهني أعتبر في ذلك الوقت الحدث الثقافي الأول في بريطانيا ومما ساعد علي نجاحه جاذبية الأسلوب الذي يتمتع به "توم ستوبارد" ورشاقة كلمته وخفة دمه المعهودة وأيضا قيمته العالية في الأوساط الثقافية . يرتفع الستار في تمام الحادية عشرة صباحا ليبدأ هذا العيد المسرحي الذي استغرق تسع ساعات وعزف فيه "ستوبارد" علي أوتار الحس والعقل سيمفونية من ثلاث حركات قادها بأستاذية المخرج البريطاني الكبير " تريفور نان" تتناول أحداث ثلاثين عاما من عمر روسيا وبالتحديد الفترة ما بين 1830و1860 التي ظهر فيها فكر "الديسمبريين" الذين غرسوا بذور "الثورة البلشفية" متأثرين في البداية بأفكار الثورة الفرنسية قبل أن يتحولوا عنها ليأخذوا من الفكر الألماني رومانسيته وجنوحه إلي القومية والمثالية المطلقة . وفي نفس الفترة خرج علي هؤلاء "الغربيين" أي المتأثرون بالفكر الغربي -الفرنسي والألماني جماعة أخري تنتمي إلي فكر سلافي أصولي يري أن الحل للمشكلة الروسية يكمن في رفض الغرب كلية والعودة إلي كل ما هو روسي ( أو يعتقد أنه روسي) خاصة كل ما هو مستمد من أصول وتعاليم الأرثوذكسية المسيحية. ويجسد هذه البانوراما الفكرية مجموعة من المثقفين الكثير منهم ينتمي إلي نبلاء روسيا الاقطاعية بدءا بالفوضوي الراديكالي "مايكل باكونين" الذي يغير قناعاته بسرعة تفوق تغيير قميصه ويري أن آفة أي مجتمع تكمن في نظمه الاجتماعية ولهذا فإن الهدف الأول لأي ثورة هو الإطاحة بنظام الدولة حتي لو كان إسقاط النظام يعني إسقاط الدولة نفسها.. ويواجه الأب باكونين الأكبر البروفيسور الحاصل علي الدكتوراة في العلوم من أقدم جامعات أوروبا فكر ابنه الثوري قائلا: " لقد قرأت "روسو" وأنا في التاسعة عشرة من عمري وكنت في فرنسا وقت هدم "الباستيل" ولكن "الأفكار" ليست أرجوحة ألوان كلما ارتفعت في السماء انسكبت الألوان بعضها فوق بعض ليحل أي لون محل الآخر...فلسفة الفكر تعني إعطاء الحياة لأكثر من لون والسماح لكل الألوان بأن تكون موجودة بقدر كبير من الحرية والاعتدال" . وبجانب "باكونين" تقدم المسرحية فكراً آخر يتمثل في " فيساريو بلينسكي" الناقد الأدبي في جريدة التلسكوب المهددة دائما بالمصادرة والمهموم بأحوال المجتمع المتردية والذي يري أن الحل لن يكون إلا من خلال خلق أدب حقيقي يتفهم دور العلم والتاريخ ويعرف أن الحرية ترتبط دائما بالإبداع وليس كما يقول نوع الأدب الحالي- أدب العقول المحدودة والصغيرة التي مازال يملؤها الخرافات وحواديت وقصص كتبت بأقلام الأخرين - فالأدب هو الأمل الوحيد لأن الأدباء وحدهم القادرون علي الدفاع عن الوطن وتخليصه من جمود الفكر وبربرية الرقابة وهذا الأدب الجديد هو القادر الوحيد علي أن يصنع " روسيا" الجديدة أو"الوطن الحلم" أي أنه الفابريكة الأفضل دائما لتصنيع الوطن المثالي. أما البطل الثالث في هذه الملحمة الفكرية هو "إسكندر هيرتسين" الذي يشبه "تولستوي" في بحثه الدائم عن الحقيقة والذي آمن برومانسية شديدة في سمو الفلاح الروسي وتوسم فيه القدرة علي أن يعلو بتجربة الاشتراكية الغربية ليجعل منها في روسيا اشتراكية أكثر رقيا . ومع إيمانه بقيمة الاشتراكية ظل " هيرتسين" متمسكا بضرورة التذوق الجمالي الذي ينعم به الصفوة الارستقراطية ومتخوفا من تبعات التفسير الراديكالي لفكرة العدالة الاجتماعية التي غالبا ما تتحقق علي حساب التضحية بقيم إنسانية مهمة لا تأتي بالعدالة المنشودة بقدر ما تسمح بسيادة المتوسطية وجمهرة "الميديوكر" بكل ما يحمل هذا من اضمحلال حضاري-جمالي وأخلاقي. ويخشي "هيرتسين" أيضا علي الوطن من تنامي الفكر الديني المتطرف الذي يرفض أي فكر مغاير للفكر المسيحي الأرثوذكسي ويري في الفكرالآخر فكرا "مستوردا" من فرنسا وألمانيا أو علي الأقل "ملوثا بالغرب" الذي ينادي بالشك والمادية ويهدف إلي الإباحية وإهدار الأخلاق ويؤكد أن مصيبة الوطن الروسي بدأت مع "التغريب" الذي أدخله- كما يقول- الخائن الغربي الكبير "القيصر بطرس" منذ أكثر من مائة وخمسين عاما داعيا روسيا أن ترجع مرة أخري إلي جذورها الثقافية النقية كما كانت في زمن "الكنيسة الأورثوذكسية الأولي" التي أصرت علي ألا يكون لها علاقة بالبابا أو "الإصلاحيين" وبهذه الأصولية الدينية تستطيع روسيا أن تبدأ نهضتها الحقيقية وتأخذ معها أوروبا علي الطريق القويم. ويصف "هيرتسين" شباب هذه الدعوة برفضهم الشديد لكل ما هو غربي لدرجة رفضهم الزي المعتاد وتفضيلهم ارتداءالزي الإيراني بدلا منه لاعتباره علي حد قولهم إنه يمثل "الزي الأصلي" للشعب الروسي بينما ينظرون بدونية شديدة لزي الفلاح الروسي الذي يمثل منطقيا زي هذا الوطن - إذا كان الأمر يتطلب أن يكون للوطن زي أصلي. واستطاع الأديب "ايفان تيرجنيف" الذي كان صديقا مقربا "لهيرتسين" أن ينقل في كتاباته التي أحدثت زلزالا في الأوساط الأدبية في ذلك الوقت هذا التخبط الفكري الذي تعيشه روسيا وتمرجحها بين الفكر الليبرالي المتشكك بتأنية وعقلانيته والفكر الثوري الراديكالي باندفاعه وجنونه وأيضا سطوة الفكر الديني المتطرف الذي أوصل أديبا مثل " جوجول" أن يساند القيصر " نيكولاس" والكنيسة بالرغم من الفساد السائد في مؤسسات الدولة والكنيسة في ذلك الوقت. خارج الوطن وإذا كان الجزء الأول في هذا العمل المسرحي قد قام بتقديم شخوص هذا الطيف الفكري فالجزء الثاني منها يتناول نفس الشخوص ولكن خارج الوطن الروسي عندما يلتقي "باكونين" و"بلنسكي" و"هيرتسين في "باريس" مع نخبة أخري من المفكرين والثوار ليتحاوروا حول فلسفة "هيجل" وكيف صار "التاريخ "نفسه سيد الدراما . يقول "باكونين" إن الغرب لم يعد عنده شيء يعطيه وأن ما يدعو له "هيجل" و"ماركس" يخدر الأعصاب فقط فلا يعرف أحد منهما شكل فلاح واحد مؤكدا أنه لابد من الفلاحين أن يتمردوا بالصورة التي تمرد بها الفلاحون في العصور السابقة أي لابد لفلاحي اليوم رجال ونساء أن يحرقوا كل شيء ويغرزوا شوك الأرض في رءوس البوليس! ويرد عليه "هيرتسين" بحدة .. "ماذا تقول ؟ .. هل هناك حياة مع هذا التحطيم؟ إنك حقا طفل!" ويجيبه "باكونين" : "كل ما أريد أن أقوله إن كل شيء كان في باديء الأمر جميلا .. لم يكن هناك مطامع أوجشع أو صراعات .. كل المصائب يدأت مع النظم الاجتماعية ولابد من الإطاحة بكل هذه النظم.. الناس بطبعهم نبلاء وكرماء وقادرون أن يصنعوا مجتمعا جديدا بدون أنانية الناس الأغنياء" ويقاطعه "هيرتسين" قائلا: هل "الناس" هم أيضا نفس "الناس"؟.. "ألا تجد تناقضا فيما تقول".. فيسرع "باكونين" ليؤكد أن كل ما يريد هو "الحرية" لكل فرد من أجل المساواة بين الجميع. بمعني أنه ليس حرا إلا عندما يكون الآخر أيضا حرا..." ويضحك "هيرتسين" قائلا له: " ولكنك كنت حرا وأنا في المعتقل!- :عيبك هذه الشعارات الثورية التي لها وقع السحرعلي الأذن ولكنها لا تعني شيئا ولا يمكن أن نري فيها أي أسلوب عمل .. الحرية ياصديقي أن يسمح لك بأن تغني بأعلي صوتك في حمام بيتك بشرط آلا تزعج جارك الذي له نفس الحق في أن يغني في حمامه نغمة أخري تختلف عن نغمتك .. وليس هذا فقط بل من حقك وحق جارك أيضا حرية المشاركة أو عدم المشاركة في هذه الأوبرا الثورية أو في أوركسترا الدولة أو اللجنة العمومية لهارمونية النغم!" لندن وفي الجزء الأخير من هذه الثلاثية تتقابل نفس الأفكار ثانية ولكن في هذه المرة في بيت " هيرتسين " في لندن وينضم إليهم " تيرجنيف" و"كارل ماركس".. يصف "هيرتسين" حياته في لندن قائلا : إنه لم يدخل الحياة الإنجليزية بعد فهو يري أن الإنجليز ينظرون إليهم كمصدر للتسلية والطرافة كما لو كانوا يشاهدون لاعبي الأكروبات وشعورهم بالطرافة لما يشاهدونه يخفي نفورهم الطبيعي من الأجانب .. فهم يضحكون علينا- كما يقول "هيرتسين"- لو ارتدينا قبعة اشتريناها من بلدنا ويضحكون علينا أيضا لو ارتدينا قبعة اشتريناها من سان جيمس! مضيفا أن هذه الخشونة تعكس نوعا من الثقة بالنفس فانجلترا وطن لكل ألوان الطيف السياسي فعندما يعطي الإنجليز واحدا منا لجوءا سياسيا لا يعطونه من أجل احترامهم له ولكن من أجل احترامهم لأنفسهم وكل هذا لأنهم اخترعوا بالفعل الحرية الفردية وحققوها بدون نظريات مسبقة. ويعقب "تيرجنيف" واصفا نفسه و "هيرتسين" بأنهما أصبحا في زمرة الرجعيين كما يراهما الثوريون فهم يعتبرون "تيرجنيف" الجنتلمان الذي لا يملك القدرة علي الفعل الثوري الراديكالي .. رئيس حزب "اللا فائدة" الذي لاينتمي ليسار أو يمين واصفا صورة العاشق المتردد في رواياته بأنها صارت مرادفا لكلمة "ليبرالي" التي يراها البعض نوعا من السب فالليبراليون -كما يقول- دائما خاسرون! ويتدخل "باكونين" في الحديث مشيرا بأن أفكارهما أصبحت قديمة فتنظيم الإخوان الاشتراكيين الديمقراطيين هو الذي يضع القواعد وأن العمال الأحرارهم القادرون علي صناعة "الدولة" .... ويلحقه "ماركس" قائلا : ربما لن نحيا لكي نري عظمة ما سيتحقق فكل مرحلة تقود إلي مرحلة أعلي في الصراع الدائم الذي هو مسيرة التاريخ.... ويتعجب هيرتسين قائلا : "ماذا تعني بمسيرة التاريخ؟هناك دائما ما هو أمام التاريخ بقدر ما هو خلفه فالتاريخ يخبط بيده علي ألف باب في نفس الوقت. ومع ذلك هناك فرصة أمام روسيا - ليس من خلال الأبوية والوصاية التي يتحدث عنها أصحاب الفكر المسيحي المتطرف ولا البيروقراطية الحديدية للصفوة الشيوعيين ولكن اشتراكية القاعدة وليست الشيوعية التي إذا تحقق لها النجاح سوف تصل هي الأخري إلي منتهاها وسيكون لها تطرفاتها وشطحاتها وسوف تتسبب في أن تتجزأ أوروبا وتتغير حدودها .. لابد يا أصدقائي من أن نفتح العيون ولكن لا نفقأها حتي ولو رأينا الأمور بشكل مختلف .. لا يمكن أن نقتل بقصر نظرنا كل من كان نظره ضعيفا.. كم أكره أن اصبح يوما مسئولا عن تمثال مكسور أو قبر نبشوا فيه لأقول للمارة آسف فكل هذا قد تهدم علي أيدي الثوار!" وينتهي هذا العمل المسرحي الطويل الذي شعرت أثناء مشاهدتي له أنني أعيش نوعا من الدراما العلاجية التي يعترف فيها الفكر للفكر عن أزمته ويفصح فيها عن تخبطه وحيرته. لم يكن في الأمر شيئا من الماضي ولم يكن هناك زمن يفصل هذا الفكر الممسرح عن أي فكر قائم ولم يكن هناك خريطة بعينها تخص هذا الفكر وحده (وأن تخير صاحب العمل اسم روسيا مكانا له) شرق أو غرب ، أقوياء وضعفاء، يمين ويسار ، أحزاب سماوية وأخري عدمية ويظل المأزق في كل الأحوال واحدا.. لا يوجد مأزق خاص بنا ومأزق آخر خاص بهم. كل ما جاء في هذه المسرحية يدور حول علاقة الفكر بالوطن وأزمة المثقف في أي وطن .. هذا الإنسان الذي آمن بأن له دورا اجتماعيا لا بد ان يلعبه من أجل وطنه -دورا يهدف إلي التغيير من أجل الوصول إلي وطن أفضل ولكن المأساة دائما كما يقول "هيرتسين" تكمن في تجريد الواقع واختزاله إلي مجرد أفكار يموت الناس بها ومن أجلها ظنا منا بأننا نسعي إلي وطن أفضل .. إلي "يوتوبيا" نحلم بها تقع علي شاطيء آخر!