الحكمة تقول: "من الأفضل أن تمشي ببطء إلي الأمام علي أن تمشي مسرعا إلي الخلف"، هكذا تكون فلسفة الفنان المبدع الذي يحفر اسمه بجدارة وعن استحقاق ضمن قائمة العظماء من أقرانه والمتميزين من أمثاله، وهو بذلك يضيف للتراث الإنساني ثقافة ومعرفة يتعلم منها الآخرون، ويشكل ناقوسا يدق في عالم الغفلة والنسيان، قبل أن نفقد الوعي ويذهب عنا الإدراك، وعندها لايجدي علاج أو ينفع ندم أو يفيد الحزن والبكاء علي اللبن المسكوب ... وقتها نكون فقدنا الرغبة في التغيير أو الإصلاح والتعديل، بمعني أصح فقدنا الإحساس بالحياة ذاتها، وبالتالي لانستحق أن نحياها أو نكون جزءا من مشوارها الطويل. خطوات متأملة وبعد انقضاء سنوات الصبا واللهو والشباب، وبعد اكتساب المعرفة بالعلم والثقافة، وبعد تجارب لكل منها جوانبها السلبية ومعطياتها الإيجابية، يخرج علينا العمل الفني تجربة جمالية نعيشها نحن المتلقيين بخبرات التلقي التي تختلف درجات التفاعل معها وردود الأفعال تجاهها، وتكون النتيجة قبول تجربة الفنان المبدع نفسه أو رفضها، وبالطبع يتوقف هذا التفاعل علي درجة الإجادة وبواعث التأثير.. الفنان السينمائي علي وجه الخصوص ظني أنه الأولي بأن تحكم خطواته التأمل والتمهل والروية، لا أن يتسرع أو يتحمس أو يتعجل الإنجاز قبل أن يملك أدواته أو ينضج فكره أو يتشكل وعيه وادراكه، مهما تطلّب ذلك من الوقت أو طال الزمن قبل الإنجاز ... بهذا المنطق المتزن كان مشوار المخرج التسجيلي "أحمد حسونة" الذي لم يتعجل الخطي أو يستفزه ظهور عشرات الأسماء علي ساحة السينما التسجيلية والقصيرة في مصر، رغم مرور سنوات طوال كان قد قضاها في البحث والتنقيب عن اللحظة المؤثرة للإبداع وامتلاك ناصية اللغة السينمائية وبلوغ درجة رفيعة من النضوج الفكري. خبرات فنية بعد أن انتهي "أحمد حسونة" من دراسته الجامعية عام 1985، درس فن الفيديوVideo Art في سويسرا، كما حصل علي دبلومة في الإخراج السينمائي من أكاديمية "نيويورك" في أمريكا، وعمل مساعدا للمخرج العبقري الراحل "رضوان الكاشف" في فيلم "الساحر" بطولة الفنان "محمود عبد العزيز" ... هذا يعني أننا أمام مخرج جمع من الثقافة والخبرات الفنية مايؤهله لأن يفرض نفسه ويضع اسمه مع مصاف العظماء في السينما التسجيلية والقصيرة في مصر، بعد مسيرة مستمرة حافلة وحبلي بالعطاءات والتجارب التي تهز الوجدان وتعيد صياغة الفكر وتشكل وعيا ودافعا للتغيير ... نحن في أمس الحاجة إليه في خضم مانعيشه من حالة ثورية في مصر منذ 25 يناير تفرض علي الفنان تفاعلا من نوع خاص ومشاركة من منطلق جديد. الصعيد الجواني ومنذ بدايات "أحمد حسونة" نلمس أننا أمام مخرج من معدن خاص وتوجه محسوب ورؤية لكل أركان الدنيا ومنابع الحياة في مصر، من الصعيد الجواني نري: "حكايات من الصعيد" و"نساء من أسوان" و"عروس من النوبة"، ومن التاريخ نري: "هنا جاء الفينيقيين" و"من عمق الأرض" و"أرض الأجداد"، ومن مناطق مصر يطلعنا علي: "ميت رهينة" و"كورنيش مطروح"، ومن قضايانا الاجتماعية والإنسانية يحلل ويرصد: "قصة الحب والكراهية" و"أطفال في مهمة" و"ومازال التحقيق مستمرا" و"مستقبل بديل" و"مربع داير" و"مازال دكتور الموت حيا" و"بطاقة الموت" و"سواق الميكروباص"، ويعلو صوته محتجا علي أوضاع بائسة وحياة صعبة من خلال: "الصرخة" و"من أجل يوم جديد" . ومن منطلق السينمائي الواعي بأدوات التعبير وأشكال الرؤية اختار "أحمد حسونة" الشكل السينمائي بين التسجيلي والروائي القصير والطول الزمني لأفلامه بين القصير والطويل ... هذا الشكل أو ذاك الذي يعكس وجهة نظره بسلاسة وبساطة حتي تصل الرسالة الي المتلقيين بل يشركهم في الرؤية ويدفعهم علي التفكير والبحث عن مناطق الخلل في المجتمع وبؤر الشر بهدف الكشف عن ممارسات التخلف والفكر الجامد، أملا في تحقيق غد أفضل. النظام الفاسد فيلمه "سواق الميكروباص" انتاج عام 2010 قبل تفجير ثورة 25 يناير العظيمة والمتفردة في تاريخ ثورات الشعوب، ربما كان نبوءة ماحدث في يناير 2011، فقد كان "أحمد حسونة" من الشجاعة والجرأة لتنفيذ هذا الفيلم، رغم كل القيود الحديدية والعراقيل البيروقراطية التي تقف حجر عثرة أمام الفكر والإبداع في مصر، علي يد زبانية النظام الفاسد في عصر الرئيس المخلوع، ربما كان "سواق الميكروباص" شاهدا علي ماكانت تخبئه الأيام القادمة من ثورة وصلت دوافعها داخلنا الي ذروة الاحتمال، وآن لها أن تعلن عن نفسها متحدية كل المخططات التآمرية للاستيلاء علي قمة الحكم أو ما اصطلح علي تسميته مخطط التوريث المفضوح ... الفيلم تعرض بشجاعة وشياكة الي سلبيات ربما بدت كمواقف عابرة بسيطة المعني، ألا أن حقيقتها كانت ذات دلالة قوية علي أن شيئا ما كان لابد وأن يحدث، بغض النظر عن القراءة السطحية حول قضية "سواق الميكروباص" وهل هو مفتر أم مفتري عليه؟ قراءة ساذجة الفيلم أعمق كثيرا عن تلك القراءة الساذجة التي قد يستسهلها البعض منا، فمن خلال عالم سائقي الميكروباصات في مصر، كان هناك عالم آخر يكشف عن فساد ضرب بجذوره كل أركان البلاد وطال بعفنه كل العباد، بعد أن وقع "سواق الميكروباص" بين سندان صاحبة وبين مطرقة السلطة الممثلة في فئة ضالة من بعض رجال الشرطة الفاسدين في زمن المخلوع وزبانية حكمه وطغمته الفاسدة، أما شعب الميكروباص فلا حول ولا قوة، بعد أن ضاعوا وتاهوا بين العالمين، وبعد أن استبيح استغلالهم وامتهان كرامتهم.. الفاسدون من رجال الشرطة يضغطون بتمثيلية تطبيق القانون ولايستحرمون الرشوة وفرض النفوذ، وبدوره "سواق الميكروباص" يصب جام غضبه علي مرتادي الميكروباص من الأفراد والعباد.. إذن الأصل في الفساد والإفساد هي الدولة بنظامها الذي يسمح بالرشوة والمحسوبية وفرض الإتاوة واستغلال المنصب، فلاعجب أن يتحول بعض خربي الذمة والضمير في بلادنا الي بؤر للبلطجة والفتونة وفرض حالة من الفوضي والعدم.. والأصل في ذلك هي الدولة نفسها، لقد وصلنا الي ذروة العفن والفساد والإفساد في كل مناحي حياتنا بلا هوادة أو رحمة، فكان لابد أن تتفجر الثورة ويخلع النظام رأس الأفعي، ويحدث ماحدث يوم 25 يناير. جماليات سينمائية قدم "أحمد حسونه" فيلمه علي الشكل التسجيلي الطويل (49ق) والي جانب الإخراج كتب له سيناريو بعيد عن الإطالة والغموض بلا زيادة أو نقصان، فجاء في كل متكامل متماسك لأبعد الحدود، وتوالت مشاهده ولقطاته بسلاسة وتشويق خال من التقعر أو الادعاء أولغة سينمائية مرتبكة كما يحلو للبعض من السينمائيين بحجة التجريب والبحث عن غير المألوف. وقد اختار المخرج فريق عمل فني أضفي علي الفيلم جماليات سينمائية تمتع الناظرين من خلال تصوير كان وراءه "زكي عارف" يفيض حسا فنيا عاليا وحركة كاميرا متمكنة فلا اهتزاز ولا تشويه ولا زوايا اعتباطية، لقد وصلت الصورة إلينا ممتعة ونقية بلا خدوش أو رتوش . شريط الصوت والموسيقي والمؤثرات جاء صافيا مسموعا واضحا لاتشوبه شائبة مما تعودنا عليه في السينما المصرية عموما، التي يشكل شريط الصوت فيها أبرز عيوبها. والفيلم التسجيلي فيما يتعلق بالمونتاج لا يحتاج الي حذلقة أو تكلف أو استعراض فارغ المحتوي، بقدر ما يحتاج الي صانع فنان ماهر يعكس رؤية المخرج في بساطة وجمال فني بعيدا عن التشتيب وتعب العين وتوهان العقل، هذا مانجح فيه المونتير "محمد سمير" وبتفوق. شجاعة مخرج لقد استطاع "أحمد حسونة" أن يقدم لنا فيلما سينمائيا من العيار الثقيل في فكرته ومعانيه، وفي فنياته وجمالياته، في زمن يصعب أن نري فيه سينما تنجح علي المستويين: الفكري والفني، وبرغم كل الصعوبات الانتاجية والفنية والرقابية التي واجهته إلا أنه بالمثابرة وروح التحدي قدم فيلمه بشجاعة تحسب له وعقل مستنير يعرف ماذا يفعل، وكيف ينفذ.