أجري رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه ايهود باراك سلسلة من الاتصالات مساء السبت الماضي مع إدارة الرئيس الأمريكي باراك اوباما، في محاولة لوقف تدهور العلاقات بين مصر وإسرائيل، ومنع المجلس العسكري من سحب السفير المصري من إسرائيل. قالت مصادر إسرائيلية إنه بمجرد إعلان مصر سحب سفيرها من تل أبيب، سارع نتنياهو إلي إجراء اتصالات عاجلة ومكثفة مع البيت الأبيض، بينما سارع باراك إلي إجراء اتصالات مشابهة مع وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا. وأكدت واشنطن للإسرائيليين انه بدون تقديم إعتذار رسمي من تل أبيب لمصر لن تكون هناك أي استجابة في القاهرة للمساعي الأمريكية. بالفعل سارع وزير الدفاع الإسرائيلي إلي إصدار اعتذار رسمي أعرب فيه عن اسف إسرائيل علي موت رجال الشرطة المصرية اثناء العمليات التي وقعت علي الحدود المصرية - الإسرائيلية، مؤكدا ان اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل ذو أهمية استراتيجية لاستقرار الشرق الاوسط، وأنه أمر باجراء تحقيق مشترك مع مصر لبحث ملابسات ما حدث. بعد يوم مشحون بالتوتر والجهود الدبلوماسية المكثفة، نجح الأمريكيون في التوصل إلي تسوية لتهدئة الاوضاع بين مصر وإسرائيل، والتي كانت في طريقها للمس باتفاق السلام. وفي اطار هذه التسوية قدم وزير الدفاع الإسرائيلي اعتذارا علنيا عن مقتل رجال الضابط والجنود المصريين بنيرات جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقدم شالوم كوهين، القائم بأعمال السفير الإسرائيلي بالقاهرة اعتذارا رسميا مكتوبا إلي وزارة الخارجية المصرية، في ساعة متأخرة من ليلة الأحد، تضمن موافقة إسرائيل علي تشكيل لجنة تحقيق مشتركة لتحديد ملابسات مقتل الجنود المصريين. وقالت مصادر إسرائيلية إن التسوية تتضمن أيضا موافقة إسرائيلية علي إعادة فتح اتفاق السلام بين مصر وإسرائيل للنقاش في المستقبل القريب، بعد ان تهدأ الأوضاع الحالية، من اجل إعادة فحص البنود التي تحدد لمصر حجم القوات العسكرية المسموح بتواجدها في سيناء. وأوضحت المصادر ان مصر وإسرائيل ستبحثان، بمشاركة ومساعدة الولاياتالمتحدةالأمريكية، طلبا مصريا بوضع قوات مصرية في شرق سيناء، وعلي طول خليج العقبة، وعلي نحو 200 كيلومتر من الحدود المشتركة بين مصر وإسرائيل. كانت إسرائيل تعمل علي شن حملة دعائية ضخمة، تتهم مصر خلالها بفقدان السيطرة علي سيناء، والادعاء بأن تنظيم القاعدة بات يسيطر عليها، بينما رفضت تل أبيب مطالب مصر بزيادة قواتها في سيناء لفرض الأمن بها، حتي وقعت عملية العريش، فقررت مصر الدفع بقواتها العسكرية إلي سيناء، حسب حاجة العمليات هناك، دون أن تعبأ بالرفض الإسرائيلي، الامر الذي أغضب تل أبيب من جهة، وزاد من حدة الخلافات القائمة مع الولاياتالمتحدةالأمريكية، بسبب التمويل الأمريكي لتنظيمات وأحزاب مصرية حديثة التكوين. جاءت الخطوة المصرية بعد ادراك أن واشنطن وتل أبيب يستهدفان إثارة المشاكل واستمرار حالة عدم الاستقرار، لضمان انكفاء مصر علي نفسها، حتي لا تلعب دورها الإقليمي الطبيعي، وحتي لا تحقق استقرارا يؤدي إلي نهضة اقتصادية، ويجلب قوة اقليمية مؤثرة تدفع القاهرة إلي الاستغناء عن المعونة الأمريكية، فتخرج عن طاعة البيت الابيض! الرابحون إذا كان هناك من استفاد من دماء شهدائنا في سيناء، فلاشك أن أول المستفيدين هم نتنياهو، وافراد حكومته، والرئيس السوري بشار الاسد. يدلل البعض علي ذلك عبر الاشارة إلي التوقيت الذي تمت فيه احداث سيناء وعمليات إيلات، التي تزامنت مع تصاعد الاحتجاجات الشعبية في سوريا والمطالبة برحيل الأسد، وتزايد الضغوط الدولية لدفع الرئيس السوري إلي الرحيل. عندئذ، وفي ساعات تنصرف انظار العالم عن سوريا، لتتجه بقوة إلي سيناء والحدود المصرية - الإسرائيلية لمتابعة شبح حرب جديدة سادت سماء الشرق الاوسط فجأة. يمكن الاشارة في هذا الصدد إلي ان التنظيمات المتهمة بتنفيذ الهجمات، في سيناء او إيلات، مثل لجان المقاومة الشعبية وجيش فتح الاسلام، ترتبط بصورة أو بأخري مع إيران وحزب الله اللبناني، اللذين لايخفيان تضررهما ورفضهما لما يحدث في سوريا. الأمر الثاني الذي ينبغي طرحه: ماذا فعلت إسرائيل مؤخرا كي تستحق هذه العمليات المؤلمة؟.. بالطبع ينبغي علي إسرائيل ان تعاني طوال الوقت بسبب استمرار احتلالها للأراضي العربية، لكن التوقيت الذي تمت فيه عمليات إيلات، بدا وكأن الهدف هو دعم إسرائيل وحكومتها، علي المستويين الداخلي والخارجي. فقد وقعت عمليات إيلات في وقت بلغت فيه إسرائيل ذروة التدهور علي المستوي العالمي، بسبب تعنتها وعجرفتها بشأن استحقاقات استئناف مفاوضات السلام مع الفلسطينيين، وباتت ثمة قناعة بأن العقدة موجودة في تل أبيب، وليس في رام الله. وجاءت الأحداث ايضا قبل أيام من بدء المسيرة العربية لانتزاع اعتراف الأممالمتحدة بالدولة الفلسطينية المستقلة علي حدود 1967 وعاصمتها القدس، في ظل وضع يصرخ فيه السياسيون الإسرائيليون بسبب الهزيمة الوشيكة والفاضحة لإسرائيل في المحافل الدولية، مع ثبوت اقتراب النصر العربي في هذه المعركة، وظهور الفلسطينيين في صورة الضحية المسكينة المغلوبة علي أمرها، والتي تمد يدها بالسلام للإسرائيليين الذين يقابلونها بالعدوان والاستيطان. وبعد كل هذا تأتي عمليات إيلات لتقلب الأوضاع رأسا علي عقب في لحظة واحدة، فتجعل الفلسطينيين إرهابيين ومعتدين وقاتلين بنظر الرأي العام العالمي، الذي يعاود الإصطفاف مع الإسرائيليين، الذين يجيدون استغلال مثل هذه الظروف في استعادة صور المحارق النازية للفوز بتعاطف المجتمع الدولي، وهو ما حدث بالفعل! علي المستوي الداخلي، كان نتنياهو وحكومته يواجهون مأزقا شديدا بسبب الإحتجاجات العارمة وغير المسبوقة في إسرائيل بسبب المطالب الاجتماعية، وعلي رأسها تفاقم الغلاء وأزمة السكن، والتي وصلت إلي حد محاولة البعض اقتحام منزل رئيس الوزراء الإسرائيلي، وكان من الجيد منح الفرصة لهذه الاحتجاجات كي يري العالم أكذوبة إسرائيل علي الهواء مباشرة، أكذوبة الرفاهية وأكذوبة العدالة الاجتماعية وأكذوبة النجاح الاقتصادي وأكذوبة الأمان وأكذوبة الرضا وأكذوبة الشفافية، في ظل اتهامات لنتنياهو ورفاقه بأنهم باعوا إسرائيل لعصابات المافيا! وكان واضحا عجز الحكومة الإسرائيلية، التي بات يطاردها شبح الانتخابات المبكرة والرحيل عن السلطة بلا عودة. في ظل هذا المشهد الإسرائيلي، تقع عمليات إيلات لتبث كميات كبيرة من مشاعر الخوف الذي يعد الشيء الوحيد الذي يوحد الإسرائيليين، الذين عادوا بدورهم إلي الالتفاف حول نتنياهو وحكومته، علي اعتبار ان الدولة العبرية في لحظة فارقة تستحق ان نؤجل جميع خلافاتنا إلي وقت آخر، لتلتقط الحكومة الإسرائيلية أنفاسها، وتحتفل بالنجاة من شبح السقوط! فلصالح من يتم انقاذ رقبة نتنياهو وحكومته المضللة؟! كان من المثير للدهشة حديث البعض عن وعيد تنظيم القاعدة للإسرائيليين، وانه من يقف وراء أحداث سيناء، فما الذي حدث في سيناء غير قتل مصريين وإشاعة الفوضي والذعر الأمني وطرد السياحة التي تشكل مصدر الدخل الاساسي والوحيد تقريبا لآلاف المصريين؟! وهل ثبت ولو لمرة واحدة ان تنظيم القاعدة يستهدف إسرائيل فعلا؟ فالثابت حقا هو إصابة "القاعدة" بحالة من الحول السياسي والميداني، فكل العمليات المنسوبة إليه تخدم إسرائيل وحلفائها، وتضر العرب والمسلمين علي طول الخط، بل إن العمليات نفسها تستهدف المسلمين والدول العربية، فهل نحن بصدد محاولة لتكرار النهج القديم في تحرير القدس عن طريق احتلال الكويت؟! مكسب سريع كان من أبرز ايجابيات عمليات إيلات واحداث سيناء قتل باسكال افراهامي (49 سنة)، الذي يوصف بانه اسطورة عسكرية وأقدم مقاتلي وحدة "يمام" الإسرائيلية لتنفيذ العمليات الخاصة، وكان من أبرز المشاركين في اغتيال قيس عدوان وعبدالله القواسمة، وكلاهما من قادة كتائب عز الدين القسام التابعة لحركة حماس. ووحدة "يمام" عبارة عن وحدة للقوات الخاصة التابعة للشرطة الإسرائيلية، أقيمت عام 1975، وتضم أمهر المقاتلين الإسرائيليين في كل وحدات الجيش الإسرائيلي. يجتاز المنضمون للوحدة تدريبات خاصة ومكثفة لمدة عام كامل، لتنفيذ عمليات خاصة، لاسيما مواجهة العمليات الارهابية وإنقاذ الرهائن. تتولي الوحدة تنفيذ عمليات خاصة في قطاع غزة والضفة الغربية، ومن المعروف ان مقاتليها يتولون قيادة الاجهزة الامنية، لاسيما في الشرطة الإسرائيلية بعد ذلك. أفكار إسرائيلية برز بشكل خاص الحديث عن أن إسرائيل تلقت تحذيرا استخباراتيا من الأردن بشأن اقتراب تنفيذ عمليات في إيلات، الأمر الذي دفع الرأي العام الإسرائيلي إلي توجيه اللوم إلي الأجهزة الأمنية والجيش الإسرائيلي الذي لم يتصرف علي النحو اللازم رغم تلك المعلومة المهمة. لكن ثمة ما يثير التساؤل هنا: هل حرص الأردن علي نقل هذه المعلومة المهمة إلي مصر؟ اذا لم تكن الاردن قد فعلت، فلابد من وقفة! من ناحية اخري، تركزت أغلب الآراء الإسرائيلية علي خلفية الاحداث الأخيرة، في عدد من الافكار، مثل الدعوة إلي إعادة احتلال سيناء، لمنحها للفلسطينيين تارة، وللمستوطنين تارة اخري. ودعا البعض إلي إعادة محور فيلادلفيا الحدودي بين مصر وقطاع غزة، مع توجيه لوم شديد إلي رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اريل شارون، لانه قرر الانسحاب من هناك. وتوقع البعض استدعاء قوات الاحتياط الإسرائيلية لمواجهة الوضع الجديد علي الحدود الإسرائيلية سواء مع قطاع غزة أو مصر، في ظل مطالبات بتجنيد المزيد من العملاء لصالح الموساد الإسرائيلي علي الجانب المصري والاستعانة بأحدث وسائل التكنولوجيا في هذا الإطار، الامر الذي يلقي بأعباء ثقيلة علي الأجهزة الأمنية المصرية، في وقت تتعاظم فيه الحاجة إلي التوحد الداخلي، للمرور بالدولة المصرية من بحور الفوضي إلي شاطئ الاستقرار والنهضة التي يخشاها الاعداء.