ما أثير مؤخرا عقب هدم ما يقرب من عشرة أضرحة بالإسكندرية وحدها عقب ثورة 25 يناير في استمرار لحملة مدبرة بدأت منذ عدة سنوات قادتها جماعة سلفية كما جاء في اتهام الجماعة الصوفية خلال وقفتهم الاحتجاجية أمام مسجد «المرسي أبو العباس» ورغم نفي الدكتور عبدالمنعم الشحات المتحدث باسم الجماعة السلفية بالإسكندرية أنهم وراء هدم الأضرحة!! رغم تأكيده في الوقت نفسه بأنهم بالفعل ضد الأضرحة ولكنهم لم يهدموها - وأن ما حدث كان وراءه جهة ما بغرض إحداث فتنة!! هذا وكانت وزارة الداخلية قد طلبت من مديريات الأمن علي مستوي جميع محافظات مصر حصر كل الأضرحة المرخصة في جميع قري ومراكز المحافظات وتوضيح ما إذا كانت قد تعرضت لتعديات من عدمه علي خلفية حوادث التعدي علي بعض الأضرحة في عدد من المناطق وتحميل الجماعات السلفية مسئولية هذه الحوادث، حيث تبين علي سبيل المثال أن عدد الأضرحة المرخصة في محافظة سوهاج عددها 92 ضريحا. في الوقت الذي وزعت فيه الجماعات السلفية في المحافظة منشورات تتضمن تكذيبا لما نشرته بعض وسائل الإعلام حول عزم السلفيين التعرض للفتيات والسيدات المتبرجات من المسلمات والمسيحيات، هذا وقد عقدت الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة مؤتمرا شعبيا بمدينة سوهاج تحت عنوان «دعم الأمن والاستقرار في البلاد» أشاد فيه الدكتور محمد المختار الرئيس العام للجمعيات الشرعية بدور الشرطة في المرحلة الراهنة ورسالتها المهمة في الحفاظ علي أمن واستقرار البلاد. في المنوفية انتشرت لافتات منسوبة ل«الدعوة السلفية» بشبين الكوم كتبوا عليها «لا لترويع الآمنين والدعوة إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة» ولا للاعتداء علي حقوق الآخرين مما اعتبره البعض محاولة لتحسين صورتهم في أعقاب احراق ضريح بمدينة «تلا» وطرد سيدة قالوا إنها سيئة السمعة من مدينة «السادات». وأكد عدد من علماء الدين الإسلامي عدم شرعية الاعتداء علي أضرحة الصالحين بالهدم أو الإساءة واصفين من يقدُمون بهذه الأعمال بأنهم جهلاء بأحكام الشريعة الإسلامية ويسعون لنشر الفساد وإشاعة الفوضي في المجتمع ويخالفون روح الشريعة الإسلامية، وأدانت جماعة أنصار السنة المحمدية الهجوم علي السلفيين واتهامهم بأنهم وراء الجرائم والحوادث التي وقعت مؤخرا دون تحقيق أو بينة وقالت جماعة أنصار السنة في بيان أصدرته أن منهج السلفيين ليس به إحراق الآثار أو أضرحة ولا تولي إقامة الحدود. علي جانب آخر يؤكد الشيخ «جابر قاسم» وكيل المشيخة العامة للطرق الصوفية بالإسكندرية أن التعديات طالت مسجد وضريح سعدالدين الأذقي في منطقة الورديان بجوار كنيسة دميانة وضريح سيدي محمد مصطفي جاد، ضريح ومسجد سيدي محمد الحلوجي بحي الجمرك، مسجد وضريح سيدي عبدالغني الشاذلي بشارع سوق السمك القديم، ضريح سيدي القاضي سلامة الراسي بشارع الشمرلي، سيدي يوسف العجمي بشارع رأس التين، سيدي الشيخ حافظ بشارع الباب الأخضر وضريح الست نعيمة بقسم المنشية، ضريح محمد التركي بقصر المنتزه، محمد الوقار بشارع علي بك الكبير والعديد من الأضرحة الأخري . في هذا السياق نلقي الضوء من خلال هذا التقرير الصحفي حول أضرحة أولياء الله ولماذا هي دائما مجاورة للمساجد والأماكن الأثرية. حكاية أضرحة الأولياء ذهب بعض الباحثين إلي أن هذا التجاور يدل علي أن مقابر الأولياء بنيت علي أنقاض معابد أو مقابر للآلهة القديمة (الجوهري 1988، 109:112) فهذا التجاور لا يعكس فقط التطور الأركيولوجي للحضارة ولكنه يعكس أيضا التحولات التاريخية في استخدام المكان أن ما يحويه المكان من آثار ومساجد وأضرحة حكي قصة المكان في علاقاته بالمجتمعات الأخري، لقد شكلت هذه الأماكن عبر التاريخ مراكز عبور للتجارة وقوافل التسلية والمرح «معظمهم من الغجر» ورجال الدين «خاصة المتصوفين» والضالين الهائمين علي وجوههم لقد كانت هذه الأماكن تقع خارج القري والبلدان وغالبا ما كانت تقع في أماكن مرتفعة لا تطولها مياه الفيضان ويكون ذلك مدعاة لدفن الموتي فيها، وفي ضوء ما عرف عن المصريين من احتفاء بالموتي وزيارة قبورهم يتوقع أن تتحول هذه الأماكن إلي أماكن غير مهجورة لها طابع ديني وتدعم عبر التاريخ من خلال بناء المعابد، ومن بعد الكنائس والمساجد فقبور الأولياء والقديسين وبالتالي فقد شكلت هذه الأماكن أماكن عامة للبهجة والاحتفال والتجارة والتسلية وافترض هنا أن هذه الأماكن شكلت عبر التاريخ نقاطا للامتزاج الثقافي ، وربما شكلت هذه الأماكن نقاط عبور ثقافي حيث زحفت القري والبلدان علي هذه الأماكن وامتزجت بها أحيانا بل إن بعضها قد تحول إلي مكان وسط القرية أو البلد أو المدينة وتغيرت وظائفها ولكنها ظلت شاهدة علي تاريخ مصر. وتشير بحوث نشرت في مصر إلي أن الأولياء صناعة محلية فالناس هم الذين ينسجون الروايات حول الولي وحول كراماته وتظل هذه الروايات تروي إذا كان علي قيد الحياة إلي أن يموت حينئذ تنسج روايات جديدة حول كراماته التي أظهرها أثناء الدفن وجميع هذه الروايات تؤكد القدرات الخارقة للولي ومن ثم فإنها تضعه في عقول الأفراد وفي الذاكرة العامة للجميع، كما تؤكد أن المكان نفسه يصنع بصناعة الولي وتضفي عليه قداسة خاصة عبر الروايات التي تسرد علي الولي من علاقته بالمكان وتجدر الاشارة بادئ ذي بدء إلي أن المكان المحيط بالولي يسمي «حرم الولي» أي أنه مكان مصون لا يمكن الاعتداء عليه بأي شكل من الأشكال وهذه التسمية لا تربط بين المكان وقبر الولي الذي يقع فيه فحسب بل أنها تضفي عليه بعض القداسة باستخدامه كلمة «حرم» وهي كلمة مشتقة من الفعل «حرم» أي منع بنص ديني وغالبا ما يصنع الولي نفسه مكانه بيده فهو غالبا الذي يختار المكان الذي سيدفن فيه حيث تبدو الأرض كلها وكأنها تحت إمرة الأولياء وليست تحت إمرة مالكيها أو المنتفعين بها، فالولي يختار المكان الذي يسير فيه أو يجلس فيه وهو حي وبالطريقة نفسها يختار المكان الذي سوف يدفن فيه ويحكي الناس روايات متعددة عن الطرق التي يختار بها الأولياء أماكن دفنهم. فبعض الأولياء يأخذون مشيعيهم عنوة إلي أماكن دفنهم فهم يطيرون بالنعش - كما يقولون- إلي مكان الدفن.. أو يرفضون الحركة من المكان إذا كانوا يريدون أن يدفنوا في مكان اقامتهم مثل سيدي مرسي غانم «أبو عونة» بمدينة سمنود - دقهلية وسيدي خميس جبارة - الشهداء منوفية. وقد يأتي الولي إلي مكان دفنه من منطقة بعيدة فيختار مكان إقامته ومن ثم يختار مكان دفنه وتحكي روايات متعددة عن أولياء قدموا عن طريق النيل أو البحر واستقروا في مكان علي شاطيء البحر إلي أن ماتوا ودفنوا في هذا المكان ومن هؤلاء الأولياء الشيخ العوام بمرسي مطروح، محمد العراقي بمركز تلا منوفية. وقد يختار الولي مكان دفنه بأن يلقي بعصا أو طوبة حيث يدفن في المكان الذي تستقر فيه العصا أو الطوبة فثمة رواية تحكي حول سيدي المرشدي بمركز مطوبس - محافظة كفر الشيخ الذي جاء إلي هذه المنطقة من المغرب بصحبة سيدي أحمد البدوي ويقال إنه اختلف مع أحمد البدوي علي المكان الذي بني فيه الضريح وأخيرا تم حل الخلاف بأن يمسك سيدي المرشدي قطعة من الجريد الأخضر ويلقي بها في الهواء ويتم بناء المسجد حيث تستقر هذه العصا، ولقد نزلت في المكان الذي يوجد به المسجد والضريح الآن علي شاطيء بحيرة البرلس ولقد لقب الشيخ المرشدي بعد ذلك بصاحب الجريدة. ويمكن أن ينتقل الجسد بعد أن يموت الشخص وذلك بإرادة الولي نفسه وبفعله أو بإرادة اشخاص يأتيهم في المنام ليقوموا بذلك فيحكي عن الشيخ عبدالله بن سلام أن جسده طار بعد أن قتل وجاء إلي المكان الذي دفنوه فيه بمحافظة الدقهلية وأن كل نقطة دم كانت تقع منه علي مكان يصبح مكانا مباركا ويبني له فيه مقام، وترمز هذه الحكاية إلي القدرة الخارقة للولي الذي يجعله ينزع ملكية أي مكان لصالحه فالأرض ملكه جميعها ولا أحد يستطيع أن يمنعه من أن يدفن في المكان الذي يشاء بل إن نقطة واحدة من دمه كافية لكي يجعل المكان مكانا مقدسا. وتتداخل الأحلام والرؤيا مع الواقع حيث يستيقظ البعض علي رؤيا تدعوهم إلي أن يقيموا ضريحا لولي معين ويحدث هذا مع الأولياء المشهورين كالحسن بن علي ، والسيدة زينب، والسبع بنات والسيد البدوي حيث نجد قبورا لهم في أماكن مختلفة. ويحدث في بعض الأحيان أن تثبت قداسة المكان من خلال رمز يتمثل في شجرة أو في بئر ماء أو في بحيرة فهذه الأشياء تكون موضوعا للكرامات ومصدرا للبركة، فشجرة الجميز وأشجار التين الشوكي التي تحيط بضريح الشيخ أبو مندور «في رشيد شمال الدلتا» تتحول إلي رمز للبركة فهي تطعم الناس ولا يستطيع أحد أن يعتدي عليها وقد تكون الشجرة مصدرا للشفاء كما في الشجرة الموجودة بجوار الشيخ الغريب «بقرية بني عامر - محافظة المنيا» والتي يتبارك بها الناس ويطلبون الشفاء أو فك الكرب من الشيخ من خلالها عن طريق دق مسمار في جذعها أو تعليق شيء فيها ومثل ذلك يقال عن الآبار التي توجد عند بعض الأولياء مثل بئر الماء عند ضريح الشيخ أبو مندور حيث يغتسل المرضي بماء البئر- أو بئر الماء الموجود بكنيسة العذراء مريم بمنطقة مسطرد - حلوان أو بحيرة الماء التي توجد بجوار ضريح الشيخ أبوغنيمة «المنيا» والتي يغتسل فيها الناس طلبا للشفاء أو حلا للمشاكل، إن هذه الأشياء تجسد بشكل رمزي قوة الولي وسلطته الروحية وسيطرته الدائمة علي المكان. ولا شك فيه أن العصر الإسلامي حينما بدأ بفتح العرب مصر عام 20ه كان حدثا فاصلا في تاريخ مصر الحضاري فقد بدلت مصر دينها للمرة الثانية فاعتنقت الإسلام إلي جانب المسيحية وبدلت لغتها للمرة الأولي في تاريخها الطويل فتحدثت اللغة العربية لغة الفاتحين العرب وتخلت عن لغتها بما تحمله من تراث معرفي ممتد في عصورها القديمة، لكنها لم تتخل عن شخصيتها الواضحة المتميزة التي تلعب دائما الدور الأساسي والمحوري في كل مراحل الحضارة الإنسانية. ومصر بما أنها بقعة جغرافية وبؤرة حضارية منذ أقدم العصور تلفت نظر الباحثين بشدة إلي ارتباطها بالنشاط الديني الذي يمكن أن نعده أحد الأركان الأساسية في شخصية مصر علي مر العصور وواحدا من الملامح الأساسية في نشاط المصريين الحضاري حتي اليوم ، فقد كان لمصر مكانة رفيعة بين دول العالم في عهد الفراعنة وكانت المعبودات المصرية في دلالتها تنم عن فكر رفيع إذا قيست بمعبودات الشعوب الأخري وبتتبع النشاط الديني في مصر سنجد شيئين: 1- اعتناق المصريين للمفاهيم الدينية وانخراطهم في الطقوس الدينية منذ أقدم العصور وانتشار ديانة مصر القديمة في مناطق مختلفة من العالم القديم وانتقال الغرباء إليها ليتلقوا هذه الديانة عن كهنتها . 2- إن تاريخ مصر يشهد بأنه لم تنشأ حضارة كبري ولا ظهور ديني رئيسي إلا واسهمت مصر فيه بنصيب وتأثرت به وأثرت فيه لذلك عندما ظهرت الديانة المسيحية سارعت مصر باعتناقها من وقت مبكر جدا وأسست كنيستها الأرثوذكسية. كما ابتدعت مصر منذ القرن الثالث الميلادي نظام الرهبنة الذي أصبح إحدي الركائز الأساسية للكنائس في العالم كله بعد ذلك وأصبحت للإسكندرية الزعامة الدينية في الشرق المسيحي وحقق هذا كله لمصر زعامة فكرية دينية في العالم المسيحي شرقا وغربا وأصبح الدين أهم ما تستطيع مصر أن تصدره إلي الآخرين. وعندما دخل العرب مصر سارعت مصر إلي اعتناق الإسلام وأصبح الإسلام السني المعتدل علي الميل إلي حب أهل بيت النبي (صلي الله عليه وسلم) والاحتفاء بهم والتبرك بأثارهم ملمحا أساسيا في تدين المصريين وسلوكا دينيا متناميا مع الأيام وعبر العصور حتي الوقت الحاضر وهذا ما نجده بوضوح في كتابات الرحالة الإسلاميين الذين زاروا مصر ورصدوا سلوكيات المصريين إزاء الرموز العربية. ومنذ اللحظة الأولي لاستقرار العرب في مصر وتأسيس مدينة الفسطاط كان عليهم أن يتخذوا مقبرة لموتاهم في طرف عاصمتهم الجديدة وقد وقع اختيارهم علي بقعة شرقي الفسطاط عند سفح المقطم كانت تختط بها إحدي القبائل اليمنية التي شاركت في فتح مصر هي قبيلة «القرافة». ومنذ تلك اللحظة أصبحت القرافة في سفح المقطم مزارا دينيا لأهل مصر وللزائرين خصوصا أن عددا كبيرا من الصحابة والتابعين وأهل البيت مدفونون بها ، ومع تطور الشعور الديني كثرت المزارات الدينية في مصر ولم تقتصر علي العاصمة فقط، بل انتشرت علي امتداد الأقاليم في مدن الدلتا والصعيد وأصبحت تلعب أدوارا متباينة في حياة المصريين خلال العصور الإسلامية المتعاقبة، بل إننا نجد عددا من المدن المصرية نشأت وازدهرت وأصبحت عواصم إقليمية بفضل أضرحة الأولياء وأهل البيت التي وجدت فيها هذه المدن التي يسميها جمال حمدان مدن الأضرحة.