قد يكون طرح هذا السؤال في العنوان مستغربا خاصة من قبل الباحثين والمتخصصين في العمارة والآثار الإسلامية بصفة خاصة! ولكن للأسف الشديد فإنه مازال أمامنا الكثير لكي نفهم العمارة الإسلامية. حيث إن الكثيرين انساقوا وراء الدراسات الاستشراقية التي قامت في المجالين: مجال العمارة ومجال الآثار المعمارية الإسلامية والتي اعتمدت علي دراسة الشكل دون الموضوع . وهذا صداه مازال مستمرا حتي القرن الحادي والعشرين في المناهج الأكاديمية، بل وحتي في التصميمات المعمارية التي يطلق عليه مجازا إسلامية. إن الكل كان يلهث وراء الشكل وليس المضمون الذي أعطي الروح للعمارة الإسلامية، والذي جعلها عمارة تخطف الأبصار لمن يتأملها من حيث الشكل الزخرفي، وإذا استخدم عقله في تصميمها فإنه سيجد أسئلة لها إجابات منطقية ناتجة عن النظريات الهندسية المعمارية، وأسئلة أخري لا يجد لها إجابة ويعتبرها لغزا ضمن ما يعتري الشرق في الوعي الأوروبي ووعينا المعاصر التابع له من ألغاز وسحر ارتبطا بحكايات ألف ليلة وليلة . تري الشكل في تلك المنشآت ذات الواجهات الإسلامية العناصر والتي تم نقلها إما حرفيا من المنشآت الآثارية الإسلامية أو توفيقا مع الأشكال المعمارية المعاصرة . فعلي سبيل المثال سنري في بعض البنايات مشربيات وهي حواجز أو سواتر من قطع خشبية تجمع إلي بعضها لتعطي أشكالا هندسية كان هدفها ستر من داخل المنزل عن أعين الجيران وتوفير تيار هوائي متجدد إلي داخل المنزل وتوفير ضوء يكسر حدة حرارة الشمس، سنري هذا العنصر وقد وضع علي البنايات الحديثة دون إدراك لوظائفه السابق ذكرها.بل وضع لكي يقال إن هذه البناية إسلامية . هذه الظاهرة تعود لسببين أولهما: أن مهندسينا منذ ذهبوا إلي الغرب ودرسوا العمارة من خلال الكتالوجات التي وضع فيها كل عنصر معماري بمقاسات وأشكال مختلفة منمطة ومرتبة وما علي المهندس إلا أن يوفق بين هذه العناصر وبين المساحة المتاحة أمامه دون أن يعمل عقله فيها وعن مدي ملائمتها للمجتمعات الشرقية الإسلامية،فنقلوا عمارة الغرب كما هي، وما زال هذا المنهج ساريا إلي اليوم. وتأثروا به حينما أرادوا إعادة الأنماط المعمارية الإسلامية، فأعادوها من حيث الشكل دون المضمون. فتحول هؤلاء المهندسون إلي مقلدين وقل الإبداع و الابتكار لديهم . السبب الثاني: يعود إلي المجتمع الذي قبل هذه الأنماط الغربية وهماً منه أنها أحد مصادر التقدم، وأن الغرب لم يتقدم إلا بها. وهكذا فإن المشربية علي واجهة البناية تعبر عن المجتمع الذي يتمسك بالإسلام كدين من حيث الشكل لا الجوهر، وبين تتبع خطي الغرب خطوة خطوة، دون إدراك أن العمارة تحمل بين طياتها قيما وأفكارا ومناهج حضارية. وهكذا صدقت فينا مقولة ابن خلدون إن المغلوبين مولعون بتقليد الغالب . إذا كان هذا حال المعماريون فإن حال دارسي الآثار المعمارية لا يختلف كثيرا، فإنهم انساقوا وراء المنهج الوصفي الذي يصف الشكل المعماري بدقة متناهية، دونما طرح أي سؤال حول هذه الأشكال وأسباب تراتبها علي أنسقة مختلفة من منشأة لأخري؟ بل وسنجد معظم الدراسات الآثارية أنصبت علي المساجد والمدارس دون أدني اهتمام بالمنشآت التراثية الأخري. وكأن الإسلام دين عبادة وعمارته عمارة للعبادة فحسب . لكي نخرج من هذا المعترك وهذا الطريق المسدود، ولكي يكون لنا علم معماري مستقل بتصميماته ومضامينه، فلابد وأن نفهم العمارة الإسلامية كما فهمنا إسلامنا. المدخل لفهم العمارة الإسلامية يقوم علي عدة محاور، المحور الأول يرتكز علي دراسة القانون الحاكم لها، وهو "فقه العمارة".. وهو مجموعة القواعد الفقهية التي تراكمت بمرور الزمن نتيجة لاحتكاك حركة العمران والمجتمع كلاهما ببعض ونشوء تساؤلات أجاب عنها الفقهاء، أدي تراكم هذه التساؤلات لتقنين القواعد التي حكمت حركية العمران في المجتمعات الإسلامية. هذه القواعد كان كل من المجتمع والسلطة والمهندسين يحتكمون إليها عند اللزوم. وهو ما سجلته سجلات المحاكم الشرعية في القاهرة ورشيد وتونس علي سبيل المثال. وهذا ما فصلته في كتابي فقه العمارة الإسلامية. وأول من سجل قواعد فقه العمارة من الفقهاء ابن عبد الحكم الفقيه المصري المتوفي سنة 214 ه/829م في كتابه"البنيان". وقد قسم الفقهاء أحكام البنايات إلي ثلاثة أقسام رئيسية هي: 1- البناء الواجب: مثل بناء دور العبادة كالمساجد لتقام فيها الصلوات، وبناء الحصون والأربطة للدفاع عن ديار المسلمين. 2- البناء المندوب: كبناء المنائر والتي تندب للآذان فيها لكي يسرع الناس لأداء الصلاة، وبناء الأسواق، حيث يحتاج الناس للسلع . ولكي لا يتكلفوا عناء البحث عنها، فندب الشرع لذلك بناء الأسواق لكي يستقر بها أصحاب السلع، ويسهل للناس شرائها منهم . 3- البناء المباح: مثل بناء المساكن التي تبني بهدف الاستغلال، فمن المعروف أن الشريعة جاءت لحفظ المقاصد الخمس :الدين، النفس، المال، العرض والنسل، والله جعل أسبابا مادية يقوم بها البشر، كي يحققوا تلك المقاصد، ومن هذه الأسباب بناء المساكن والدور ليحفظ فيها الناس أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وتقوم فيها الأسر . 4- البناء المحظور: كبناء دور السكر ودور البغاء والبناء علي المقابر وفي أرض الغير. محور فقه العمارة يجب أن يدرس في كليات الهندسة المعمارية في جامعاتنا كي نخرج جيلا جديدا من المعماريين لديه قدرة علي تقديم عمارة إسلامية معاصرة. المحور الثاني لفهم العمارة هو التعامل معها علي أنها عمارة تخص المجتمع كله لا علي كونها عمارة أفراد، فاليوم يبني الفرد منزله دون أن يراعي جاره ودون أن يدرك الخصوصية الأسرية، ودون أن يدرك أنه يتعاطي من خلال منزله مع أهل الشارع الذي يسكن فيه، كل هذه أبعاد غائبة اليوم ولكنها كانت موجودة بالأمس . فلم يكن يستطع أي جار أن يفتح نافذة تكشف جاره، لأنه بذلك يخالف حكما فقهيا في فقه العمارة يعرف بضرر الكشف، وكان سكان الحارة يتعاونون فيما بينهم لصيانة مرافق حارتهم لأن سلطتهم مستمدة من سلطة المجتمع المدني الإسلامي.الذي يقوم علي أن الحارة وحدة إدارية متكاملة مستقلة تقوم بذاتها. وبالتالي لم يكن هناك ترهل إداري لدي سلطات المدن الإسلامية. وكانت بوابة الحارة رمزا لتضامن أهلها في حراستها وفي حياتهم داخلها. المحور الثالث لفهم العمارة الإسلامية يقوم علي تضامن أثرياء المجتمع مع بعضهم لتوفير الخدمات لسكان المدينة، فالغني كان يبني سبيل المياه لتوفير الماء للمارة في الحر القائظ، وكان يبني كتابا فوق السبيل لتعليم أبناء فقراء المسلمين. وكان يبني مدرسة لاستكمال تعليمهم، وكان يبني وكالة للصرف من ريعها علي هذه المنشآت الخدمية. ولذا يعد نظام الوقف في الإسلام أحد المداخل المهمة لفهم طبيعة ودور المنشآت الخدمية والمنشآت الاقتصادية في العمارة الإسلامية . المحور الرابع: لفهم العمارة الإسلامية يقوم علي فهم دور المهندسين في المجتمعات الإسلامية، فقد كان المهندس المسلم يتعاطي مع العمارة من خلال المجتمع واحتكاكه بمستخدمي هذه العمارة، وبالتالي جاءت منشآته لتلبي حاجة المستخدمين، ولذا قلما نجد إضافات أو تعديلات من القاطنين عقب الانتهاء من المنشأة، بينما اليوم نري القاطنين أو المستخدمين يجرون في العادة تعديلات لا حصر لها علي مساكنهم علي سبيل المثال، لأن المهندس المعماري صممها، وهو في مكتب مكيف الهواء دون أن يجهد نفسه في فهم حاجات وتقاليد مستخدمي تصميمه. المحور الخامس: يقوم علي التجاوب بين الناشئة والعمارة الإسلامية التراثية من خلال زيارتهم لهذا التراث وشرحه لهم بصورة مبسطة، وهذا التجاوب سيخلق مع هذا التراث من خلال رسمهم لعناصرها، وكذلك تخيلهم للحياة في هذه العمائر المحور السادس: هو التعرف علي مفردات العمارة الإسلامية والمصطلحات الدالة عليها، ومن هذه المفردات المدخل المنكسر، وهو عنصر معماري ابتكره المسلمون لكي يمنع المار من أمام باب المسكن أو المسجد أو المدرسة من كشف من بداخلها، وبالتالي يوفر درجة عالية من الخصوصية، كما يكسر حدة الضوضاء في الخارج وبالتالي يوفر درجة عالية من الخصوصية، كما يكسر حدة الضوضاء في الخارج ويعزلها عن داخل المنشأة، وبالتالي كان من المهم استخدامه في المنشآت الدينية والتعليمية. قد وصلتنا أوصاف دقيقة للعناصر أو المفردات المعمارية في حجج وقف المنشآت الإسلامية التراثية. نستطيع من خلالها التصرف علي هذه المفردات والمصطلحات الدالة عليها. ومن هذه المصطلحات مصطلح شادزوان وهو مصطلح فارسي معرب، يدل علي لوح زجاجي تعلوه صدر مقرنص، هذا اللوح كانت به نتوءات بارزة تجري من خلالها المياه فتبرد وتقدم للمارين أمام الأسبلة مبردة . ومصطلح أبلق الذي يرد للدلالة عن تناوب ألوان الرخام في المنشآت ما بين اللونين الأبيض والأسود. والمصطلحات الخاصة بالعقود وأنواعها مثل :عقد مدائني مجرد، وعقد مدائني مقرنص، وعقد مدائني مخصوص، وعقد مجرد وعقد مخموس. المحور السابع: يرتكز علي التعرف علي أنواع العمائر الإسلامية كالمساجد الجامعة ومساجد الصلوات الخمس والفرق بينها والتكايا والأربطة ودور المشايخ والأسبلة أوالسقايات وأحواض سقي الدواب والرباع وهي منشآت سكنية تضم وحدات رأسية تستأجر للسكن والحمامات والمنشآت المائية كالمقاييس والكباري والجسور والأفلاج ومجري العيون والمنشآت الصناعية كقاعات صناعة السكر، ودور الطراز التي كان يصنع فيها النسيج المكي ومعامل البارود وقاعات الصباغة ومحال صناعة الأخشاب إلخ. والجانب المهم الذي يجب تضمينه لهذا المحور هو تخطيط المدن الإسلامية،ذلك التخطيط الذي نتج عن تراكم الخبرات في الحضارة الإسلامية، ولم يستطع الغربيون إدراكه إلا في السنوات الأخيرة .ولكننا للأسف في جامعاتنا لم نزل نهمله حتي الآن .