الانطباعية حركة فنية بدأت في الظهور في أوائل الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ولم يعجب الناس أول الأمر برسوم الفنانين الانطباعيين لأنهم أخذوا يحاولون تمثيل الحقيقة الطبيعية بشكل جديد غير معهود من قبل، وتعتبر المدرسة الانطباعية أول تيار حديث في فن الرسم وقد سماه بهذا الاسم الناقد الفني الصحفي «لوروا» في مقالة تنضح بالسخرية اللاذعة. هناك لبس في الترجمة العربية لمصطلح الانطباعية، إذ إن هناك من يترجمونها بالتأثيرية، ومن المعروف أن الأصل في المصطلح يرجع لأصحابه الذين ابتكروه، وأصله بدأ في الفن التشكيلي علي أيدي الرواد الانطباعيين من أمثال «كلود مونيه» وكان المنهج الأساسي في هذه المدرسة هو رصد اللحظة التي لمحها الفنان تحت مؤثرات ضوئية معينة. ومن هنا كان الربط الموضوعي بين الضوء كقيمة تشكيلية، والانطباع كانفعال نفسي عند الفنان علي أساس أن ينتقل إلي المتلقي بعد ذلك. ولذلك فالانطباع سواء عند الفنان أو المتلقي هو المحور الأساسي الذي يدور في هذا الاتجاه في الإبداع التشكيلي، أما ترجمة هذا المصطلح إلي التأثيرية. فقد اكتشف الفنانون الانطباعيون أن الضوء يملك طاقات وإمكانات تعبيرية لا حدود لها وليست قاصرة علي التراوح بين السطوع والظلال، إذ إنه يمكن التلاعب بنوعية الضوء سواء علي مستوي الشفافية بدرجاتها المتفاوتة التي يمكن أن توحي بالتالي بدرجات متفاوتة من الوضوح أو الغموض. ذلك أن ضوء الشمس في الغبار المتناثر يختلف عنه عندما نشعر به منعكسا علي الجانب الخلفي لستارة ذات كثافة معينة في نسيجها. وبالتالي فإن الإيحاءات السيكولوجية المثيرة لمختلف الانطباعات تتراوح بين مختلف درجات الضوء. ذلك أن ضوء الشمس يختلف عن ضوء القمر عن ضوء الشمعة، عن ضوء الثريا.. إلخ. وبالتالي فإن الانطباعات الناتجة عن هذه الاختلافات لا يمكن حصرها سواء بالنسبة لمكونات اللوحة وفي مقدمتها الشخصيات أو الانطباعات المنعكسة علي المتلقي، والتي قد تختلف من متلق لآخر اختلاف بصمات الأصابع. أي أن المدرسة الانطباعية في الفن التشكيلي اكتشفت ثروة تعبيرية جديدة من خلال الانطباع الذي يقتصر في حالتها علي مجرد رصده إلي آفاق تشكيلية وتفكيرية فتحت آفاقا جديدة عالمية للفن التشكيلي. وفي حكايات «ألف ليلة وليلة» نستطيع أن نلاحظ هذه الملامح الانطباعية من خلال الكلمات التي استخدمها مؤلفو الحكايات في وصفهم للطبيعة وظواهرها من أنهار وأشجار وأطيار وشروق الشمس وغروبها وهبوب الرياح وغيرها. لذلك سوف يكون منبع التقارب بين الأسلوب الانطباعي التشكيلي والكلمة الموصوفة الأدبية، من خلال بعض الكلمات القليلة أو العبارات القصيرة الموحية وذات الدلالات المرتبطة بالعلاقة العضوية بين الضوء والانطباع، والتي علي الفور تبعث ذلك الانطباع في نفس القارئ، رغم قصرها أو إيجازها الشديد. ففي حكاية الليلة «الحادية عشرة»: «ثم ذهبت أنا وعمي إلي الجبانة ونظرت يمينا وشمالا فعرفتها، وفرحت أنا وعمي فرحا شديدا، ودخلت أنا وإياه التربة وأزحنا التراب ورفعنا الطباق، ونزلت أنا وعمي مقدار خمسين درجة، فلما وصلنا إلي آخر السلم، إذا بدخان طلع علينا فغشي أبصارنا فقال عمي: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ورأينا في وسط القاعة ستارة علي سرير فوجد ابنه هو والمرأة التي قد نزلت معه وقد صارا فحما أسود كأنهما ألقيا في جب النار». فتذخر هذه الحكاية بالعديد من المشاهد الانطباعية مردها إلي الكلمات الموجزة، والأماكن التي تبعث علي ذلك الانطباع فمثلا استخدام المؤلف لكلمة «جبانة» يعطي انطباعا بالظلام الكئيب، وعندما أزاح الصعلوك الأول وعمه التراب من تلك الجبانة، فكان لهذا الفعل أن ينتج عنه انتشار للتراب علي الأجواء المحيطة بهما والذي بدوره يحيطهما بغلالة ترابية والتي تحول دون رؤيتها للأشياء، وتبع هذا المشهد مشهد آخر عندما وصلا إلي آخر السلم، فذكر المؤلف أنه قد طلع عليهما دخان، ووصفه المؤلف بأنه أغشي أبصارهما من شدة كثافته، ودرجة التأثير هنا مختلفة لأن التراب الذي أحاط بهما في بادئ الأمر تأثيره عليهما ليس بمثل تأثير الدخان في المشهد الذي يليه، لأن الدخان يعطي نوعا من الشفافية، أما التراب فيمكن أن يغطيهما لدرجة أننا لا نستطيع رؤيتهما مع كثرة إحاطته بهما لأن الدخان كثافته أقل. كما أنه سرعان ما يزول ومن حيث الجانب التشكيلي فالتعبير عن انطباع التراب يختلف عن التعبير عن انطباع الدخان، لأن الأول يمكن أن يكون نتيجة استخدام ألوان قاتمة ولكن بدرجة كثافة خفيفة حتي تعطي غلالة ولكن غلالة قاتمة، أما الثاني فيتأتي من استخدام اللون الأبيض بدرجة كثافة خفيفة ويكون هذا التخفيف إما بزيادة المادة الوسيطة للون «الماء للألوان المائية، والنفط النباتي للألوان الزيتية علي سبيل المثال». استطرد مؤلف هذه الحكاية في وصف المشاهد الانطباعية حين ذكر أنهما بعد أن أحيطا بهذه الغلالة الترابية وأعقبتها السحابة الدخانية، دخلا قاعة ونظرا من خلال ستارة فوجدا امرأة، ومن الواضح من الوصف أن هذه الستارة ذات شفافية بدليل أنها لا تعوق رؤية من يقف خلفها، وبالتالي قد أحاطت بهما غلالة ثالثة بواسطة هذه الستارة الشفافة، ولكن لم يذكر المؤلف لونهما. وطبقا للقوانين العلمية للضوء فإن العين تمزج الألوان بعضها ببعض، فبالتالي يكون مزيج لون ملابسهما مع لون الستارة الشفافة قد أظهرهما بانطباع مختلف وأعقب المؤلف ذلك المشهد بمشهد آخر، حيث ذكر أنهما قد رأيا الرجل والمرأة وقد تفحما، وظهرا باللون الأسود، والمفروض أنه من خلال رؤيتهما من خلف الستارة أن يظهر هذا اللون الأسود شاحبا بعض الشيء لتأثيره وامتزاجه بلون الستارة الشفافة. في حكاية «الصعلوك الثاني» نجد مشهدا مشابها في حكاية الليلة «الثانية عشرة»: وسرنا وحملنا معنا عشرة جمال بالهدايا، ومشينا قليلا، وإذا بغبار قد علا وثار، حتي سد الأقطار، واستمر ساعة من النهار، ثم انكشف فبان من تحته ستون فارسًا وهم ليوث عوابس، فتأملناهم وإذا هم عرب قطاع طريق. ذكر المؤلف في هذه الحكاية أن الغبار قد علا وثار لدرجة أنه غطي كل الأرجاء وعلا لسانه «الأقطار» ومن شدته ذكر أنه استمر لمدة ساعة، وقد حدد المؤلف زمن حدوث هذه الزوبعة وذكر أنها حدثت في النهار، وبالتالي كان هناك مجال للرؤية الواضحة والتي بدورها تصنع التضاد اللوني في موقع الأحداث، بين وجود التراب بلونه الغامق وبين نور النهار وإضاءته الشديدة، وبعد انكشاف هذه العتمة الترابية تبين لهما وجود ستين فارسا ولكن بعد انقشاع هذه الكتلة الترابية تماما تحققوا من أنهم قطاع طريق ليسوا فرسانا كما تخيلوا، وهذا الخلط كان منبعه قطعا وجود هذا التراب والذي عمل علي استحالة الرؤية أو عدم التحقق منها. في موضع آخر من الحكاية تعرض المؤلف في وصفه لبعض الأماكن والأزمنة إلي عبارات تحمل في طياتها انطباعات من شأنها أن تثير خيال القارئ وتجعله يتجه نحو صور فنية تذكرنا باللوحات الانطباعية كما يلي: في حكاية «الليلة الثانية عشرة»: وسرت إلي أن أتيت رأس الجبل فدخلت مغارة حتي طلع النهار، ثم سرت منها حتي وصلت إلي مدينة عامرة بالخير وقد ولي عنها الشتاء ببرده، وأقبل عليها الربيع بورده ففرحت بوصولي إليها، وعلاني الهم والاصفرار، فتغيرت حالتي ولا أدري أين أسلك فكلمة «النهار، الشتاء، الربيع، وورده، والاصفرار» كلها مفردات موحية وموضوعات انطباعية نستطيع أن نجد ترجمتها في لوحات الانطباعيين أمثال «سزلي، بيسارو، رينوار». لقد وصف مؤلف هذه الحكاية حالات متعاقبة ومتناقضة في الوقت، حيث إن بطل الحكاية واجه العديد من الصعاب أولها دخوله تلك المغارة والتي كانت مظلمة بلا شك لأنها تقع داخل جبل متطرف، وبعد أن غادرها خرج إلي نور النهار ثم وصل إلي مدينة وصفها بأنها عامرة بالخير نتيجة انتهاء فصل الشتاء بها أي أن هناك مظاهر أخري دلت علي أن فصل الشتاء كان لتوه منتهيا بها، وأصبح هناك مظاهر لفصل آخر هو فصل الربيع بكل ما يعسكه من بهجة ومظاهر طبيعية ذكر منها المؤلف بداية ظهور الورود، وذكر علي لسان بطل الحكاية انه قد اعتراه التعب من المشي واصطبغ لونه باللون الأصفر كناية عن هذا الإرهاق الذي أصابه، وقد تعرض المؤلف في هذه الحكاية لعدة أحداث وقعت لبطلها، بعضها متناقض والآخر متناغم مثل وجوده داخل المغارة المظلمة ثم خروجه لنور النهار فهما حدثان متضادان، وبعد ذلك وصوله لمدينة وصفها بأنها عامرة بالخير ثم تبع هذا الوصف بحلول فصل الشتاء وبرودته وما ينتج عنه من شحوب، ثم ذكر فصل الربيع والورد وهو تضاد آخر. يمكن مشاهدة فصول السنة بتناقضاتها في أعمال الانطباعيين مثل «سيزلي، بيسارو، رينوار»، فالناظر إلي لوحاتهم يستطيع ان يحدد موضوعاتها حتي دون اللجوء لقراءة عناوينها، فهي تعبر عن نفسها وهذه هي سمات الموضوعات الانطباعية. ففي لوحة سيزلي «موريه في الخريف» تنعكس مظاهر فصل الخريف، من سقوط لأوراق الأشجار واختفاء خضرتها المعهودة وكذلك انكماشها، ولقد استخدم سيزلي للتعبير عن هذا الخريف، مجموعة لونية يسودها اللون الأصفر الشاحب، واللون البني القاتم المتمثل في غصون الأشجار المنكمشة، والأخضر الباهت متمثلا في الحشائش الضئيلة التي تغطي سطح الأرض بالكاد، واللون الرمادي والمضاف إليه القليل من الأزرق والمتمثل في السماء، كما تنعكس كل هذه الألوان مرة أخري من خلال نهر في مقدمة اللوحة ولكن بدرجة أقل خفوتا وسطوعا، حتي تعكس مظاهر ذبول وانكماش الطبيعة في فصل الخريف. مما سبق يتضح ان مؤلفي الحكايات قد استندوا إلي أحد دعائم المدرسة الانطباعية وهو ظهور واختفاء ضوء الشمس قصدوا إلي ذلك أم لم يقصدوا، في كتاباتهم الأدبية، فالمحك الأساسي هو ان القارئ لهذه المفردات الموحية الواضحة والتي يلعب المؤلف بتأثير ضوء الشمس واختفائه علي ما يقع حوله، فتترجم هذه الألفاظ إلي رقشات وومضان ضوئية والتي نطلق عليها اصطلاحا انطباعيا، ولقد عني فنانو الانطباعية ولا سيما روادها من الفنانين بتلك الومضات والتأثيرات اللونية لانعكاس ضوء الشمس.