كان أسبوع الفيلم الإيراني الذي أقيم مؤخرا فرصة لإلقاء الضوء علي السينما الإيرانية والتعرف علي نماذج من اتجاهاتها الحديثة بعد أن غابت عن التواجد علي الساحة المصرية حتي في مهرجاناتنا الدولية، وكأن قرارا غير معلن قد اتخذ لمقاطعة الفيلم الإيراني، وها هي تعود إلينا من جديد لتكشف لنا عن معين لا ينضب من الإبداع الجميل ومن القدرة علي تقديم حكايات وموضوعات مبتكرة أو أفكار قديمة بمعالجات جديدة.. ولكن فيلم (الله قريب) يعد في رأيي أهم أفلام الأسبوع خاصة وهو يقدم مفهوما جديدا ومختلفا للفيلم الديني، وبعيدا عن المفهوم الشائع لهذه الأفلام التي تتضمن غالبا قصص الأنبياء أو سيرة تبليغ الدعوة أو المعارك التي خاضها الأجداد من أجلها وعلاوة علي هذا ففيلم «الله قريب» لا يتوقف عند هذا الحد بل إنه يعيدك إلي حب فن السينما عموما وإلي الثقة بقدرة الأجيال المعاصرة من الفنانين علي تقديم روائع جديدة وهو أمر أصبح نادر الحدوث. رؤية صوفية الأهم من كل هذا أنه عمل له طابع شديد الخصوصية يمتزج فيه الجو العاطفي البريء بالرؤية الصوفية الروحانية التي تلوح من أولي لحظاته من خلال الرسوم الدينية والنقوش الجدارية وأصوات التراتيل والتواشيح الدينية التي تلوح عن بعد.. فبطل الفيلم الشاب الطيب رضا الذي يظن من لا يعرفه عن قرب أنه متخلف عقليا هو في الحقيقة وكما يفسر حالته شيخ المسجد المجاور إنسان طبيعي جدا ولكن قلبه مليء بالحب لكل مخلوقات الله سبحانه وتعالي.. يتعلق قلب المسكين بمدّرسة الابتدائي الذكية الجميلة التي يقوم بتوصيلها يوميا بموتوسيكله إلي عملها ولكنها تتزوج دون رغبتها برجل لا يقدر قيمتها..يسوء حال رضا دون أن يدرك أحد سبب أزمته.. لكن عندما تتزايد ظلمة الليل ويشتد الألم يقترب النور ويأتي العلاج..وعندما يمتلئ قلب رضا بالإيمان بقضاء الله وقدره يتحقق المستحيل . مفردات طبيعية يستخدم المخرج علي وزيريان كل مفردات الطبيعة والمكان البسيطة لتشكل جزءا من واقع الحكاية فتبدو الأشكال المعمارية والأرضيات الفسيفسائية والحيوانات الأليفة والطيور التي تتعانق وحركة السحب أكبر بكثير من خلفيات أو مكونات داخلية للصورة لتنطلق إلي آفاق أرحب ككائنات فاعلة ومؤثرة في الأحداث.. إن الطبيعة تلعب دورا في صنع الجو العام والحالة النفسية كما أنها أيضا تشارك الجمهور في التعاطف مع البطل دون مبالغة أو إقحام..المطر والبرق والرعد والبرد والندي والشجر والغابة والرطوبة والسحاب تشارك كلها في صنع هذا الفيلم ببساطة وتمكن ودون اللجوء إلي تقنيات معقدة ودون أن تبدو كأشياء مصنوعة . رسم الشخصيات من ناحية أخري يضيف إلي مصداقية هذا الفيلم وتأثيره تفنن كاتب السيناريو في رسم شخصية رضا التي يجسدها ممثل متمكن بصورة غير عادية وقادر علي صنع ملامح وتفاصيل في داخل الإطار العام للشخصية بمنتهي العناية والدقة..فمن أول لحظة ودون جملة حوار واحدة ومن خلال الأداء الحركي والتعبير بالوجه والعينين فقط تدرك أنك أمام شخصية غير عادية..ثم تبدأ في متابعة انطلاقه المتهور بالموتوسيكل الذي يعمل عليه بالأجر لنقل الركاب في طرق غير ممهدة ويمكنك أن تلحظ تعبيراته الجامدة رغم الخطر الداهم . ينساب علي شريط الصوت الموسيقي الهادئة كحبات المطر، وترتسم علي وجه رضا علامات الفرح والانسجام مع سماعه لأصوات التواشيح الدينية والقصائد الشعرية ولكنه يصل إلي أقصي حالات الارتياح والسعادة وهو ينصت لتلاوة القرآن من شيخ المسجد المجاور.إن هذا العالم الصوتي يشكل جزءا أساسيا من كيان رضا ويضيف إلي صورته المزيد من الملامح والعلامات كحالة خاصة وفريدة سنعايشها ونتعاطف معها ومع أزمتها ونمر بخبرتها وتجربتها كما لو كانت خبرة وتجربة تخصنا نحن. حركة الكاميرا يقتصد المخرج إلي أقصي الحدود في استخدام الحوار ويعتمد علي الصورة وتفاصيلها وحركة الكاميرا بتمكن وبساطة، فعندما تقع عينا رضا علي المدّرسة لأول مرة وهي تهبط من الحافلة تطول اللقطات قليلا ويستخدم أسلوب الحركة البطيئة كما تدخل الكادر طيور سقطت من أحد الباعة ترفرف حولها لتضفي عليها مزيدا من الحضور والجاذبية..في اللحظات الدرامية الحاسمة تكون الانتقالات السريعة البارعة والتوظيف الدرامي لحركة الكاميرا المتميزة التي تصعد تلت أب علي رضا وهو يراقب المدرسة وهي تخرج من السيارة مع عريسها في حفل الزفاف ثم ننتقل مباشرة إليه وهو يرقد علي السرير ثم في تقطيعات متتالية نلاحظ حركة التدهور علي وجهه وملامحه فتطول لحيته ثم نراه يسير في إعياء..ثم وقد أهمل تماما في مظهره وملابسه محدثا نفسه عن الحبيبة التي فقدها..وتزداد أحواله سوءا مع رؤية الأطفال وهم يسخرون منه ويطاردونه ويضايقونه وهو وسطهم يهذي كالمجنون. تفاصيل صغيرة تلعب التفاصيل الصغيرة وقطع الاكسسوار والملابس دورا أساسيا علي المستوي الدرامي والبصري..فيمكنك أن تلاحظ اهتمام رضا الشديد بتنظيف وتلميع الموتوسيكل وهو في انتظار المدرسة وهو الأمر الذي سيتصاعد إلي حد انتظاره لها في يوم آخر وهو يحمل باقة ورد ولكنها لن تأتي في هذا اليوم الذي سيواجه فيه الصدمة الأولي بل وسينال ضربات مبرحة من الشاب الذي تقدم لخطبتها وهو يتحمل الألم في معاناة وثبات ودون مقاومة..سوف تلاحظ سعادته بملمس النقود التي دفعتها له حبيبته في أول توصيلة علي الرغم من أنها تعطيها له في غطرسة وإصرار رافضة أن تركب مجانا.. وسوف تظل هذه العملة الورقية تذكارا لحب غير معلن ومن طرف واحد وستبقي ذكري لأحلي لحظات حياته وسوف يضمها إلي البنسة التي خلعتها له من شعرها لتساعده في إصلاح الموتوسيكل في إحدي المرات..سوف تصبح هذه الأشياء الصغيرة البسيطة وسيلته لاستحضار ذكراها لكي لا تزول من ذاكرته..وسوف يصبح الخلاص منها أيضا هو سبيله الوحيد لنسيانها وطريقه الوحيد للشفاء من حبها الذي تسبب فيما أصابه من مرض وذهول وهزال خاصة لو قدمها قربانا لطلب نوع آخر من الحب حين يعطي المتسولة العجوز العملة الورقية ويهدي الطفلة الصغيرة ابنة شقيقته مشبك الشعر. لكن هل يمكن أن تنتهي الحكاية هكذا.. سوف يلوح أمامه فجأة الأمل من جديد ومن خلال شيء صغير يحمل بعضا من الذكري..سيتأمل الحذاء الذي ناولته له إحدي القادمات إلي المسجد ليضعه في رف الأحذية..ولكنه سيلاحظ أنه هو نفس الحذاء الذي اندفع عبر الشلال من قبل ليعيده إليها بعد أن تسبب أحد المطبات في سقوطه من قدميها.. وهاهي بالفعل تقف أمامه بنفس ابتسامتها الجميلة ونظرتها الهادئة. سرعة وإحكام يتمكن المخرج من أسلوبه السردي في سرعة وإحكام ونتعرف علي رحلة المدّرسة من الزواج إلي الخلافات إلي العودة عبر لقطات فلاش باك قليلة وحوار سريع جدا (أهلا يا أستاذة - أنت اتغيرت - وأنتي أيضا - أين زوجك -لقد وقع الطلاق - كيف هذا - رفض أن أزور أمي المريضة..مرت سنة ولم أنجب..قلت له طلقني فطلقني علي الفور..عرفت بعد ذلك أن ابنة عمه كانت تشجعه) تمر اللحظات سريعة علينا كما تمر سريعا علي بطلنا رضا الذي أحالته رحلة المرض والألم والمعاناة إلي إنسان آخر تبدو علي ملامحه الثقة والقوة والخبرة بالحياة والقدرة علي إتخاذ القرار بحسم وحكمة وهو ما سنعرفه فيما بعد لتتبدي قدرة الممثل البارعة في توصيل الحالة النفسية والشعورية علي صفحة وجهه من خلال إحساسه بالشخصية وبالموقف أكثر بكثير من الاعتماد علي قصات الشعر أو حلاقة الشارب واللحية. قدرة إبداعية تتمكن القدرة الإبداعية في خيال الصورة الفنية من صنع جمال خاص رغم فقر وبساطة المكان فالمدرسة التي تعمل بها البطلة تقع في قرية فقيرة منعزلة يتم الوصول إليها عبر طريق وعر ولابد أن المدرسة سوف ينعكس عليها صورة هذا الفقر وهي تقع في قلب القرية وسط الحقول وربما يدخل إلي الفصل أصوات نهيق الحمير وقد نري بجوار الشباك الذي يقف خلفه رضا جاموسة أو بقرة ولكن الأهم من كل هذا أن عين الفنان المبدع تستطيع أن تصنع ملامح الجمال في وسط هذه البيئة فشباك الفصل المدهون بطلاء جيري لمنع خروج الضوء أثناء الغارات تتخلله رسوم يصنعها الأطفال بمسح الطلاء ومن بين هذه الرسوم صورة لفتاة يستطيع رضا أن يطل علي ما يدور داخل الفصل من خلالها في تكوين رائع. مشاعر متدفقة ويظل هذا الدرس الجميل بأسلوب المدّرسة البارع في الشرح يتردد في ذهن رضا وهو يردد وراءها كلمة ماء وهي تقسمها إلي مقطعين أثناء شرح الدرس فيصبح لها معني ومذاق وطعم آخر من شفتي هذه المدرّسة الجميلة.. وتتجسد الكلمة وهو يندفع إلي الصنبور ليشرب ولكن الطبيعة تكون أشد كرما معه فيتساقط المطر فتتزايد سعادته كما لوكانت السماء تبارك هذا الحب وتلك المشاعر المتدفقة وهو مازال يردد الكلمة..سوف يعود إلي البيت وهو في نفس الحالة من العشق للكلمة فتضع أمامه أمه دورق الماء ظنا منها أن الظمأ أصابه.. سوف تحاول الأم أن تدرك فيما بعد ماذا ألمّ به..فهي أيضا جزء من حالة الحب التي تسري في أوصال هذا الفيلم..فالأم يعتصرها الألم حين يمرض الابن إلي حد فقدان الشهية فهي منشغلة بابنها الذي يحترق كالشمعة..وسوف يكون مشهد موتها من أرقي وأجمل المشاهد السينمائية التي يمتزج فيها الخيال بالحلم بالفلاش باك ونحن نراها من وجهة نظر رضا تخرج من باب المسجد إلي الخارج حيث امتلأ الجو بالبخار الذي يتزايد والذي سوف تختفي معه الأم العجوز لتضيف مزيدا من الألم إلي قلب الشاب الحنون. في فيلم «الله قريب» تواصل السينما الإيرانية اقترابها من الإنسان والتغلغل في عمق مشاعره وأحاسيسه كما ستعبر الصورة عن جمال الأشياء والأماكن رغم بساطتها ودون الاعتماد علي أي تقنيات معقدة أو أساليب مبهرة..إنه جمال الحياة والكون والمخلوقات والإنسان الذي يصل إلي حالة من الرضا الحقيقي والإيمان بقضاء الله وقدره.