مشهد المظاهرات الإيرانية أصبح معتاداً ومتكرراً علي الساحة الإعلامية والسياسية منذ أزمة الانتخابات الرئاسية الأخيرة. إلا أن الأحداث الأخيرة التي حدثت في أيام عاشوراء وما زالت للآن علي إثر وفاة المرجع الشيعي المعارض آية الله حسين علي منتظري. تكشف بوضوح عن المشهد الإيراني بكل تفاصيله الحالية في نتائج يمكن إجمالها في العناصر الآتية: إصلاح أم معارضة؟! الحركة الإصلاحية في إيران لها سماتها الخاصة جداً، فهي نابعة من داخل عباءة النظام، بل ومن خلاله. أي لم تتخل مطلقاً عن الأسس الأصيلة التي نشأت عليها الجمهورية الإيرانية، سواء الدينية أو السياسية. فالنظام في بدايته قد تخلص من كل التيارات الفكرية والسياسية التي قد تمثل معارضة حقيقية للنظام سواء اليسارية أو الليبرالية. وبالتالي أصبحت الدولة الإيرانية بلا منافس أو معارض داخل المجتمع. ولكن مع التقدم الزمني أصبح المشهد السياسي ناقصاً، خاصة مع تغييب آية الله منتظري أهم رموز المعارضة الداخلية تحت الإقامة الجبرية لسنوات طوال. ومع تزايد الضغط الاجتماعي، وزوال الجيل الثوري الأول، أصبح من الحتمي خروج شكل من أشكال الاختلاف مع النظام، ولكن من داخله حتي يستطيع احتواء العناصر المجتمعية والشبابية تحديداً ولكن تحت سقف الدولة الدينية. النزول إلي الشارع وكانت مرحلة الرئيس الأسبق محمد خاتمي خير دليل علي تلك المرحلة المهمة في التحول وتعاطي الدولة الإيرانية للشأن الداخلي. فرغم كل الخلافات التي ظهرت علي السطح أثناء تلك المرحلة بين الإصلاحيين والمحافظين، إلا أن الأمر في النهاية لم يتجاوز الأروقة السياسية، ولم يسحب أي طرف الخلاف إلي الشارع بهذا الشكل الفج. واضعين في الاعتبار أن الدولة الخاتمية كانت تستهدف النخبة الثقافية والسياسية فقط، مهملة تماماً الأزمات الأصلية سواء الاقتصادية أو الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع الإيراني في ذلك الوقت. مما حتم فشل أي محاولة للإصلاح الداخلي، بل إن الجانب المحافظ قد زايد علي الإصلاحيين بتبني الأفكار الجديدة والحداثية تحت سماء الدولة الدينية. ، ولكن النتيجة الوحيدة في تلك المرحلة، هوظهور التيارات اليسارية والعلمانية والليبرالية علي الساحة السياسية والثقافية من جديد، علي أمل أن يكون لهم دور فعال في المستقبل، ولكن مع انتهاء الدور الإصلاحي، فقدت تلك التيارات حضورها وإن كانت لم تفقد وجودها. وإلي هنا تنتهي المرحلة الأولي بسلام حتي استلم أحمدي نجاد السلطة في فترته الأولي. لننتقل لمرحلة جديدة في الدولة الإيرانية وهي العسكرة. وهنا فقدت الدولة كياستها السياسية لتتورط في الصدامات المباشرة مع كل المخالفين مع الاعتماد علي الطبقات الشعبية العادية، والخطاب الغيبي الديني الذي يزايد به نجاد وقادة الحرس الثوري علي المرشد ذاته. في ظل تحول الدولة ومؤسساتها إلي الشكل العسكري العنيف، استتبع ذلك تحولاً لا يستهان به في الجانب الأخر من معارضي العسكرة سواء من المحافظين أو الإصلاحيين، ولكن ظل للتيار المحافظ مصالحه الخاصة داخل دوائر الدولة السياسية. فأختار أن يهادن الوضع. وظل التيار الإصلاحي أو المنادي ببعض التفتح خالياً من المصالح المباشرة مما حتم ذلك الموقف العنيف كرد فعل متبادل علي عنف النظام ذاته. وكان ظهور مير حسين موسوي بعد سنوات من الانقطاع عن العمل السياسي، ومهدي كروبي، تحت رداء الإصلاح والرغبة في التغير للأفضل كما أعلنا طوال تلك الفترة. وانضمت تحتهما كل التيارات اليسارية والعلمانية والليبرالية الكامنة في عمق الواقع السياسي، مما زاد الأمور اشتعالاً، فهؤلاء ليس لديهم ما يخسروه. فساهموا مساهمة واضحة في تحويل الصراع إلي قسمين ضد أو مع. وكذلك كان موقف الدولة. وبالتدريج بعد أزمة الانتخابات تم تفريغ الإصلاح من مضمونه ليتحول إلي معارضة كاملة للنظام. فالخلاف قد تجاوز التفاصيل ليصطدم في أصول الدولة الدينية، مثل دور الولي الفقيه وتغير الكيان المؤسسي للدولة، والاعتراض علي الدستور بل والحط من قيمة الرموز الدينية الكبري كالخوميني مثلاً. فالجميع قد شارك في ذلك التحول فمن مصلحة النظام أن يتحول الإصلاح إلي معارضة ليسهل البطش به. وكذلك التيار الإصلاحي ليصبح أكثر وضوحاً واستقلالاُ. والمصادمات الأخيرة نتاج هذا التحول في التعاطي مع الشأن السياسي. فالمشكلة بين نظام ومعارضة وليس بين محافظين وإصلاحيين. والدليل علي ذلك عشرات الجرحي وعدد يتجاوز العشرين من القتلي في بعض التصريحات، ومعتقلون يصلون للثلاثمائة، ومحاكمات سريعة وعنيفة، فقط صرح مساعد رئيس السلطة القضائية الإيرانية، أنه سوف يتعامل مع المعتقلين من منطلق كونهم محاربين، وذلك طبقاً للأحكام الفقهية التي تتيح التعامل مع هؤلاء المعارضين من واقع الإفساد في الأرض، وتطبيق حد الحرابة عليهم، لما ارتكبوه من تجاوزات دينية في حق أيام عاشوراء المقدسة، وعدم احترامهم لمراسم الحزن الحسيني، وإفسادهم للمال العام، بل أنه قد تجاوز ذلك بإعلانه أن محاكمة هؤلاء مطلب شعبي، ويحق للمجتمع طلب القصاص فيمن قُتلوا من عناصر الباسيج (قوات التعبئة العامة ) ظلماً وعدواناً. أي أنه قد اعتبر أن العنف كان من جانب المتظاهرين فقط. بل أن رئيس شرطة العاصمة صرح أن قوات الأمن كان لا تحمل السلاح. كما أن بعض الجهات الرسمية في الدولة قد اعتبرت أن من قتل من المتظاهرين عملاً إرهابياً قامت به بعض العناصر الدخيلة المدعومة من جهات أجنبية، لتعطي صورة خاطئة عن النظام الإيراني في الخارج. المهم أنه لا سبيل إلي التراجع أمام المعارضة الإيرانية، بل إن آية الله جنتي المعروف بتشدده ومناصرته لحكومة نجاد صرح في خطبة الجمعة الأخيرة في طهران، أن ما حدث لهو دليل علي الإفساد في الأرض، وإهانة المقدسات وسلوك معادي للإسلام، ومعاداة الثورة، ولا سبيل أمامهم سوي التوبة بعد تلقي العقاب من قبل القضاء. أي أن آية الله جنتي قد أعطي الغطاء الفقهي الذي يحتاجه النظام للقمع التام للمعارضة. وهذا ينقلنا للنقطة التالية، وهي غياب المرجعية الفقهية للمعارضة الإيرانية بموت آية الله منتظري. غيبة منتظري بلا عودة مثل آية الله منتظري الجانب المعارض للثورة الإيرانية منذ بدايتها، فرغم مشاركته في صنعها، وتعرضه لكل أنواع التضييق الاجتماعي والسياسي من قِبل نظام الشاه، حتي أنه تعرض لحكم إعدام في تلك المرحلة وكان دخول الخوميني منقذًا له، أي إيمانه التام بضرورة التغيير ودور رجال الدين، إلا إنه ظل محافظًا علي التواجد لمختلف الأطياف السياسية في الساحة الإيرانية، علي رأسهم أبو الحسن بني صدر أول رئيس للجمهورية، ومسعود رجوي زعيم مجاهدي خلق. وغيرهما. واصطدم بالخوميني بعد مرحلة التصفيات الكبري للجيش ولرموز التيارات المعارضة، كما اعترض علي مبدأ الولاية المطلقة للفقيه، وظل يصر علي أن وضع رجال الدين لابد ألا يتجاوز مرحلة الإشراف فقط لا الوصاية. كل هذا استتبع وضعه في الإقامة الجبرية منذ بدايات الثورة، واستبعاده تماماً من المشاركة السياسية. حتي تم خروجه عام 2003 أي في عهد خاتمي، أو المرحلة الإصلاحية حتي تكتسب تلك المرحلة مشروعيتها الدينية أمام الوجود الديني السياسي لرجالات التيار المحافظ، فمنتظري ذو حضور قوي وتاريخ يكفي لتشكيل أسطورة سياسية جديدة، تشغل فراغ الخوميني، أراد الإصلاح الاستفادة منه للنهاية، ومنذ تلك المرحلة وهو مدين للفترة الإصلاحية. وأعطي للعديد من الفتاوي الفقهية التي تسبغ مزيداً من المشروعية علي الحركة، فالدين والسياسة في الدولة الإيرانية صنوان ملتصقان. وكان حضوره الطاغي في أزمة الانتخابات الأخيرة، فقد أفتي أن وجود دولة نجاد حرام شرعاً طالما أن الشعب لا يريده، كما أنه لا يجوز مطلقاً قمع المتظاهرين . بل إنه قد اعتبر أن الولاية المطلقة للفقيه ما هي إلا كفر بالله ومشاركة له في حكمه، لذا لابد من تغيير الدستور الإيراني وتحديد سلطة الفقيه، أي صدام مباشر مع خامنئي بصفته كمرشد وولي فقيه. كما أعتبر أن خطابات نجاد حول المهدي المنتظر المساند له دائماً، استغلالاً للدين وترويجًا لأباطيل. فمنتظري قد شكل المرجعية الفقهية الدائمة للمعارضة الإيرانية، والسقف الديني الذي يبرر ويفتي لصالحهم، وبالتالي مع زواله بوفاته، ينهار السقف الديني تماماً، وتصبح المعارضة خالية من التقديس المفترض وجوده للاستمرار أو للوجود من الأساس. خاصة إذا وضعنا في الاعتبار انعدام البدائل. فلا يوجد من يحل مكانه أو يقوم بمكانة الكاريزمية أمام النظام والشعب. وبالتالي تجردت المعارضة من أخر حصونها السياسية والدينية. ولا يكفي دعم آية الله هاشمي رفسنجاني بكل مناصبه وشعبيته، فله تاريخه الخاص والملوث أمام الجمهور، خاصة في مرحلة رئاسته وما استتبع هذا من فساد اقتصادي واحتكارات تجارية تصب في صالحه. كما أنه متهم دائماً بمناصرة المعارضة الإيرانية. بل أن أبناءه (مهدي) الذي سافر لأوروبا بعد اتهامه بتمويل المعارضة وفساده الاقتصادي، و(فائزة) التي يلوح النظام دائماً برغبته في اعتقالها. وبالتالي ستظل الساحة الدينية أو الفقهية خالية تماماً لرموز النظام. فغيبة منتظري أفرغت الساحة تماماً من أي قداسة إلا للنظام. الذي قرر منع عزاء منتظري إلا في إطار رسمي والصدام مع المتجمعين والمتظاهرين، في إشارة واضحة من الحكومة إلي أن المرحلة القادمة هي القضاء علي أي معارض أياً كان. إلي أين؟ واهم من يظن أن التيار المعارض في إيران سيكون له دوره الفعال كما كان في المرحلة القادمة، فالنظام باق بهذه الصورة علي الأقل لنهاية فترة أحمدي نجاد الثانية. بل إن المقدمات الحالية تؤكد أن المعارضة في سبيلها لتقديم كل الترضية الممكنة للدولة. فبيان مير حسين موسوي الأخير بعد الأحداث السابقة، يؤكد بشكل أو بأخر ما نذهب إليه. فقد نفي أية صلة للمعارضة بأي جهة أجنبية. واضعين في الاعتبار أن هناك إشارات من بعض العناصر في الدولة لتورط السعودية والوهابية في الأحداث السابقة كرد فعل علي التدخل الإيراني في اليمن في أزمة الحوثيين. كما أشار موسوي أن دور الحكومة لابد وأن يكون أكثر تفاهماً واحتواء. مؤكداً علي الهوية الدينية والوطنية للحركة الخضراء المعارضة، ولا سبيل لتغيير الدستور. وعلي الحكومة أن تتعامل مع المتظاهرين بالحوار وليس بالقمع. وكان هذا البيان المهادن الخافت الحدة أمام تصريحاته المشتعلة في المرحلة السابقة مؤشراً لهدوء نسبي في خطابات المعارضة. خاصة بعد مقتل ابن أخت موسوي في المظاهرات الأخيرة، ووجود إشاعات بتلقيه تهديداً. ورغم أن (محسن رضائي) أمين مجلس تشخيص مصلحة النظام، والمرشح الرابع في الانتخابات السابقة، قد حاول تهدئة الأجواء باعتبار خطاب موسوي خطاباً للتصالح السياسي، إلا أن رموز التشدد الموالين للحكومة، اعتبروا أن أفكار رضائي وموسوي ذات أرضية واحدة، وأنه لابد من اعتقال موسوي وكروبي وأبناء رفسنجاني، ولا تراجع أمام من يحاول العبث ضد الثورة أو النظام الإسلامي للبلاد. أي أن النظام ذاته أصبح غير قابل للتسويات أو الصفقات السياسية مع المعارضة من جديد، فالفرصة قد حانت للقضاء عليها تماماً ولن تفوت. وفي إشارة رمزية، أعلنت بعض وكالات الأنباء الحكومية أن هاشمي رفسنجاني يعاني من حالة مرض شديد تجعله غير قادر علي ممارسة مهامه، وبالطبع سارع رفسنجاني بنفي تلك المعلومة في بيان رسمي وحضوراً لاجتماعات مجلس تشخيص مصلحة النظام. ففي النهاية النظام الإيراني أصبح أكثر شراسة وعنفاً في تعاطيه مع المعارضة فهذا الضامن الوحيد لاستمراره وبقائه علي الأقل في المرحلة القادمة. مع خطاب تصالحي من المعارضة لو بشكل مؤقت. والوحيد الذي سيدفع الثمن هو الشارع وضحايا المحاكمات الوشيكة، والتي سوف تشهد العديد من المفاجآت.