ولد يوسف إدريس في التاسع عشر من مايو سنة 1927 بقرية «البيروم» مركز فاقوس بمحافظة الشرقية، وتلقي تعليمه الأول في مدينة فاقوس، وفرضت عليه تنقلات والده الذي كان يعمل باستصلاح الأراضي التنقل بين المدارس الثانوية لمدن الدلتا دمياط والزقازيق والمنصورة وطنطا إلي أن حصل بتفوق علي شهادة إتمام الثانوية العامة سنة 1947، وأتاح له مجموعه المرتفع دخول كلية الطب التي كانت تموج بالنشاط الثوري، ولليمين واليسار حضور قوي فيها، فجذبته المجموعات اليسارية بواسطة من سبقوه إلي اليسار وإلي كتابة القصة القصيرة في الوقت ذاته، فتفجرت مواهبه الإبداعية وتولي مسئولية لجنة الدفاع عن الطلبة في السنة الأخيرة لدراسته الطب التي تخرج فيها طبيبا واعدا، ومثقفا مناضلا، وكاتب قصة قصيرة انضم إلي القافلة التي بدأها سلفه الروسي انطون تشكيوف «1860-1904» الذي تأثر به يوسف إدريس وتعلم منه ان الإبداع الحقيقي هو تمثل الميراث العالمي للقصة من منظور الهوية الوطنية وتقديمها بما يلقي الضوء علي أصالتها ولا يتردد في الكشف عن سلبياتها. تجربة عملية وأتاحت الحياة العملية ليوسف إدريس بعد تخرجه مادة وفيرة لكتابته التي نشرها طوال الخمسينات والستينات من القرن العشرين فقد عرف تجربة السجن لأكثر من سنة بعد صدور مجموعته القصصية الأولي «أرخص ليالي» كما أفاد من رفقة اليسار في جريدة «المصري» التي أغلقتها ثورة 1952 . فقد نشرت أول قصة له وهي بعنوان «أنشودة الغرباء» في مارس 1950 ولزم الصمت في العام التالي ثم عاود الكتابة في أكتوبر 1952 فكتب قصة «5 ساعات» بمجلة التحرير في ظل الوضع الجديد لما بعد ثورة 1952، وكان موضوع القصة يندد بالماضي إذا تصور مصرع الضابط عبدالقادر طه علي يد زبانية الملك فاروق، وكان هذا الضابط «يساريا» وظهرت مجموعة يوسف إدريس الأولي «أرخص ليالي» عام 1954 التي لفتت الأنظار وأخذ بها مكانته العالية مبكرا ولم يتهاون في الدفاع عن فنه، وتقلبت منه المهنة الطبية ما بين طبيب امتياز في القصر العيني وطبيب تراخيص للمحلات العامة وطبيب عمال نظافة ومفتش صحة ببعض أحياء القاهرة، الأمر الذي أتاح من الخبرات الإنسانية ذخيرة بالغة الفن. السلطة السياسية واصطدم ببعض رفاقه الذين اتهموه بالتقرب إلي السلطة السياسية مقابل السماح له بالكتابة في صحف ومجلات الدولة «روزاليوسف» و«الجمهورية» وتوثقت علاقته بأنور السادات الذي توسط لانتدابه من وزارة الصحة إلي وزارة الثقافة، ومن وزارة الثقافة إلي المؤتمر الإسلامي الذي كان يتولاه وظل يعمل به حتي نشره مقالا عن «الاتحاد القومي» يهاجمه فيه ولكنه سرعان ما تصالح مع الدولة وأثمر الصلح تعيينه كاتبا في جريدة «الجمهورية» ثم في جريدة «الأهرام» وأدت قصة قصيرة نشرها بالأهرام سنة 1969 قصة «الخديعة» التي كانت تهكما مريرا لحكم عبدالناصر، ثم عاود الصلح مع الدولة ولكنه لم يكف عن المشاغبة وإنطاق المسكوت عنه بواسطة قصص رمزية حتي مات عبدالناصر الذي ارتبط يوسف إدريس بنوع من التضاد العاطفي الذي يجمع بين الحب والكره، الإعجاب والنفور ولكن بكاءه عليه كشف عن حبه الدفين بعد وفاته. وظلت علاقته بالسادات علاقة شد وجذب، وواصل تعرية سلبياته إلي أن قتل السادات علي أيدي الجماعات التي رعاها ليقمع بها اليسار القومي والناصري والماركسي علي السواء. أقلام وطنية ولم يكف عن مشاغباته ومشاكساته في ظل حكم مبارك وأقام الدنيا بكتابه «البحث عن السادات» عام 1983، ونشر بجريدة «الأحرار» خطابا موجها إلي مبارك بعنوان «أشكو منك إليك». وانضم إلي المناضلين الجزائريين في الجبال واشترك معهم في بعض العمليات العسكرية لمعارك الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، وأهداه ثوار الجزائر وساما رفيعا لنضاله فعلا وقولا في تحرير الجزائر. وفي عام 1965 منحته مجلة «حوار» اللبنانية جائزة وثارت الأقلام الوطنية مهاجمة يوسف إدريس لارتباط المجلة بالقوي الاستعمارية وقرر يوسف إدريس رفض الجائزة، وقد كافأت القوي الوطنية إدريس علي موقفه، وقرر الرئيس جمال عبدالناصر صرف مبلغ الجائزة وقدره ألفين وخمسائة جنيه مصري وكان المبلغ يعتبر في ذلك الوقت ثروة كبيرة، وكان يوسف إدريس في ذلك الوقت خارجا من عاصفة النقد لمسرحية «الفرافير» التي ثار فيها علي القوالب المسرحية الأوروبية بادئا من حيث انتهي بركولت بريخت في مسرحه الملحمي «دائرة الطباشير القوقازية» و«الأم شجاعة» وكانت المسرحية تجسيداً للوراء التي ذهب إليها في مجلة «الكاتب» بعنوان «نحو مسرح مصري» يعيد تطوير التراث الشعبي كالسامر وحلقات الذكر فقد كان «الفرفور» شخصية شعبية ماكرة، مرحة، فهلوية، مطحونة، خفيف الظل سليط اللسان وكانت المسرحية انقلابا عن الاتجاه الواقعي في المسرح ولكن حققت نجاحا كبيراً. وكان يوسف إدريس رمزا من رموز التمرد في الكتابة، وكانت «العسكري الأسود» البداية التي رأينا امتدادا لها في رواية صنع الله إبراهيم «تلك الرائحة» وقد صدرت حاملة مقدمة تشيد بالرواية وبكاتبها، وتؤكد قيمة التمرد علي أشكال الكتابة التقليدية بقلم «يوسف إدريس» وقد انجزبت له أقلام الشبان وتأثرت بكتاباته ودافعت عنه في كثير من المواقف. وليوسف إدريس عشر مجموعات قصصية : «أرخص ليالي»، «جمهورية فرحات»، «البطل»، «أليس كذلك»، «حادثة شرف»، «آخر الدنيا»، «العسكري الأسود»، «لغة الآي آي»، «النداهة»، «بيت من لحم» وخمس روايات: «قصة حب»، «الحرام»، «العيب»، «رجال وثيران»، «البيضاء». وست مسرحيات: «ملك القطن»، «اللحظة الحرجة»، «الفرافير»، «المهزلة الأرضية»، «المخططين»، «الجنس الثالث». اليقين المراوغ وصدرت عنه: «البحث عن اليقين المراوغ» لفروق عبدالقادر 1998 ، «يوسف إدريس والمسرح العربي الحديث»، نادية رءوف فرج 1976، «إدريس والفن القصصي» د. عبدالقادر القط 1980، «الحلم والحياة في صحبة إدريس» ناجي نجيب 1985، «يوسف إدريس والتابو» عبدالعزيز محمود 1986 . بجانب كتابات للإسرائيلي ساوسون سومينح- وروجر آلان البريطاني الأصل الأمريكي النشاط وكربر شويك «الإبداع القصصي عند يوسف إدريس» 1993 الذي اقتبس من إدريس قوله في المقدمة: «إن العمل الفني حتي يستحق اسمه يجب ان يتحرر أولا من الأفكار الرجعية التي تعوق تقدم الوطن»، بالإضافة إلي ذلك يجب ألا يكون ملطخا بالتأثير الأجنبي والتقليد الأعمي للكلاسيكيات الغربية يجب ان يكون ويقدم تعبيرا نزيها عن مشاعرنا ويفضح بشجاعة عيوبنا». وكان يوسف إدريس يهتم بالسياسة في مرحلته الواقعية ووضوح موقفه المعارض للغرب ويهتم بالإنسان العادي كنموذج وأن يكون شكل القصة القصيرة مقاربا لشكل الحكاية الشعبية، وتظهر الأخلاق الاجتماعية بقوة في قصص مثل «علي أسيوط» و«أحمد المجلس البلدي» و«صاحب مصر» ففي هذه القصص الثلاث يظهر المتشردون الذين يتسمون بالمرح والحساسية المفرطة رغم فقرهم وينبذون نعم الحضارة الحديثة، ففي القصة الأولي يظهر الأعرج الصعيدي في ردهات مستشفي القصر العيني تتقاذفه عيادات الباطنة، العظام، الأعصاب والجراحة لمدة أسبوع دون ان يحصل علي العلاج اللازم له، ولكنه أبدا لا يفقد قدرته علي مواجهة هذا التشرد داخل المبني الضخم، ويتمني علي الطبيب ألا يحوله علي عيادة أخري، وليته يحوله «علي أسيوط» بلده!! وفي القصة الثانية أعرج ريفي آخر، لم يشعر أبداً بأن عاهته تمنعه من فعل أي شيء، كان خدوما متسامحا للجميع، فلما ركب ساقا صناعية بدأ سلوكه يتعثر فإنه يلبس لها حذاء وجوربا خاصا، ويمشي متجهما جادا، غير انه في لحظة سخط علي ما أصابه من تحول، تخلص من ساقه الصناعية فعاد إليه مرحه حتي قال وهو يضحك «في داهية.. دا.. دا.. دا» كأن الواحد كانت رجله مقطوعة أما «صاحب مصر» فهو رجل مغرم بتقديم الخدمة للآخرين حيث لا يتوقعونها وهكذا فتح مقهي في منطقة نائية علي طريق مهجور، فأحسن خدمة العابرين حتي أحبه الناس واشتهر أمره، فطمع في الموقع طامعون آخرون ما لبثوا ان انتشروا بالمقاهي والغرز حتي أفسدوا جمال المكان ونظافته ، فما كان من الرجل إلا أن رحل يبحث عن مكان جديد يستحق خدماته، وتؤكد لغة «الآي آي» هذه النزعة إلي الأخلاق الاجتماعية أيضاً في لقاء الطبيب المشهور الناجح اجتماعيا بزميله القديم في مدرسة القرية وهو فلاح جاهل مصاب بمرض خطير، وقد كان هذا الفلاح - في طفولته- أكثر جدا وذكاء من الطبيب المشهور، علي ضوء اللقاء غير المرتقب يكتشف الطبيب ان حياته هي المعزولة الخاوية من الحب والتفاعل هي التي فشلت وان زميله القديم الذي يصرخ من الألم «آي.. آي» هو الذي أدي شرط الحياة ومارسها كما يجب ان تمارس.. وهكذا يتمرد الطبيب علي حياته الباردة المحبطة ويحمل زميله علي كتفيه لا يبالي ويذهب به إلي المستشفي!! وهناك قصص متميزة وفريدة مثل قصة «مارش الغروب» وقصة «نظرة» وقصة «العملية الكبري» الأولي عن بائع العرقسوس في يوم خريفي بارد لا يجد من يشتري منه وتتجسد آلامه علي أنغام الصاجات التي يعلن بها عن بضاعته، والثانية عن خادم طفلة تحمل عددا من الصواني فوق رأسها وتعبر شارعا مزدحما بالمشاة والسيارات بتركيز شديد علي حملها، ولكنها لا تملك - لأنها طفلة - ان ترسل نظرة علي أطفال يلعبون الكرة علي ناصية الشارع قبل ان تغيب عن دوامة الحياة. والثالثة - ذات هدف سياسي- إذ تصور مغامرة طبيب مشهور بإجراء جراحة كبري دون استعداد لثقته الزائدة في مقدرته، فتكون النتيجة موت المريض - وهذا الحدث الرمزي يوازي ماجري في حرب الأيام الستة عام 1967 . وفي عام 1991 .. غادرنا يوسف إدريس من الحياة المتناقضة، لكن لم تتناقص مكانته العربية والعالمية، فقد كانت الأصالة هي القيمة المتزايدة التي تضيء خصوصيته حياته الإبداعية. رحم الله يوسف إدريس.