دَعْ حياتكَ تأتي كَشعلةُ ضوْءٍ، طفلي .. غيرَ مُضطربةٌ، نَقيةٌ، وَتبهجهُمْ في الصمَتْ. قَاسونَ هُمْ في طَمعهمْ وَحسدهمْ، كَلماتهمْ كَسكاكينَ مَخفيةً عطشي للدمَاءْ، اذهبْ وَ قفْ وَسطَ قُلوبهمْ الَعبوسةِ، طفلي.. وَ دعْ عَينَاكَ اللَطيفَتانِ تَسقطانِ عليهمْ، كَسلامِ المساءِ الغفور بعد انتهاءِ كِفاحِ اليومْ..! دَعهمْ يرونَ وَجهكَ طِفلي، وهكذا.. يعلمونَ المَعني لِكلِّ الأشياءْ! دَعهمْ يحبُونَكَ .. ويحبونَ بَعضهمْ البَعضْ. تَعالَ، وخذْ مَقعدكَ فِىْ كَنفِ اللاحُدودْ.. طِفلِىْ.. عِندَ شُروقِ الشَمْسِ.. افتحْ قلبكَ وارفعهُ كَزهرةٍ تتَفتّحْ.. وَعندَ الغروبْ.. احنِ رأسكَ.. وَفىْ الصَمتْ، أكملْ عِبَادةَ الىَومْ.! قصيدة "الطفل الملاك" لطاغور، وكأنها تنادي الثورة المصرية وليد الشعب المثابر المصدوم، تلك القصيدة تراءت أمامي حين سماعي للكاتب "السيد ياسين" أستاذ علم الاجتماع السياسي في جلسة عقدتها الجمعية الفلسفية المصرية تحت عنوان" ثورة 25 يناير بين القطيعة التاريخية والزمن المتسارع". عصفت بذهني حينما طرح علينا بحسه الساخر مشكلة/ظاهرة اجتماعية واجهت مصر أثناء الستينات، تتمثل في "التسطيح فوق القطارات" ليقول: "هذا الأمر كان مشكلة في الستينات، ونشأت لجنة من وزارة المواصلات لتحاول حل هذا الأمر، وقد نشر هذا الحدث بجريدة حكومية للبحث عن حلول، فاستمعوا للحلول العبقرية... اقترح أحدهم بجلب كلاب حراسة تشد من يجلس فوق سطح القطار، والثاني اقترح قاعدة كباري بشاش مملوءة بمياه ساخنة حينما يمر تحتها القطار تحرقهم!، والثالث اقترح رفع سقف القطار لأعلي من أجل قطع الرقاب، والرابع قال بوضع مادة بلاك تمسك بملابسهم وتمزقها، أما العبقري الأكبر فقال إننا نحذف سقف القطار تمامًا!! مناخنا جميل فلا نحتاج لسقف". يا الله، ما هذا الذكاء في حل الأمور؟! خطأ تاريخي بعد 1967 -وكذلك عهد السادات- اكتشفنا أنه لا يمكن للمجتمع أن يعيش في ظل عدالة اجتماعية بدون حرية سياسية، والتسليم بعدالة اجتماعية فحسب أمر غريب وخطأ تاريخي؛ فالعدالة الاجتماعية مكون رئيسي من مكونات الماركسية والحرية مكون رئيسي من مكونات الليبرالية السياسية، فأصبح التحدي بعد ذلك-والحديث للسيد ياسين- هل يمكن فلسفيا حتي صياغة تقرير خلاق بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية؟. تكفل "جون رولز" -أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد، ومفكر ليبرالي أمريكي توفي عام2002- بالإجابة عن هذا التحدي في كتابه الشهير "نظرية في العدالة"، بقوله إن هناك مبدأين من العدل: الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، وكانت محاولته رائدة. الأنساق المغلقة لقد سقطت الأنساق المغلقة وانفتح الباب علي مصراعيه أمام الأنساق الفكرية المفتوحة التي تؤمن بالإبداع، والتي لا تري حرجًا في التقريب الخلاق بين متغيرات كان يبدو دائمًا أنها متناقضة. لقد عايشنا في القرن العشرين عصر الثنائيات الزائفة، إما القطاع العام أو القطاع الخاص، إما الاشتراكية أو الرأسمالية، إما العلمانية أو الديني... إلخ. سقطت هذه الثنائيات الزائفة واكتشفنا في عصر ما بعد الحداثة سقوط هذه الأنساق المغلقة، سقوط "السرديات الكبري" كما أطلق عليها الفيلسوف الفرنسي "ليوتار". سقوط أيدولوجيات كانت تزعم أنها تمتلك الحقيقة المطلقة!!. ثورة بلا أيديولوجية نحن نعيش في لحظة تاريخية فريدة، ولم تكتمل الثورة بعد فكل يوم هناك جديد، ونحن نشاهد ونراقب ونشارك في هذا الأمر. ثورة 25 يناير ثورة من أسفل وليست من أعلي.. ليست انقلابًا عسكرىًا، ثورة بلا قيادة، ثورة بلا أيديولوجية. إنها ثورة فريدة في التاريخ الإنساني المعاصر، وهذا باعتراف كبار الزعماء في بلاد عدة. عادة ما تثير الثورات (بعد وقوعها) خلافات شتي بشأن تأويل أحداثها، فمثلا الحدث الثوري في 23يوليو 1952 هل كان انقلابًا عسكريا أم كان ثورة؟ هل بدأ كانقلاب عسكري ثم تحول لثورة -بحكم تبني الشعب للمشروع الثوري الذي أعلنه الضباط الأحرار؟. وإذا ركزنا اليوم علي ثورة يناير 2011 سنطرح سؤالا: هل كانت حركة احتجاجية قام بها شباب الفيس بوك ثم التحمت بها القوي الجماهرية فتحولت إلي ثورة شعبية؟ ومن هم شباب الفيس بوك؟. هناك ثَبت بهذه الحركات الشبابية المتآلفة: شباب 6 أبريل والمنسق أحمد ماهر، شباب من أجل العدالة والحرية 2010 والمنسق محمد عواد، الجبهة الحرة للتغيير السلمي، حركة كلنا خالد سعيد، حركة كفاية... إلخ. لينتهي ياسين أنها أثّرت في المجتمع علي نحو كبير. الدوائر الزمنية أهمية الحديث عن القطيعة التاريخية -بالنسبة لياسين- هو السؤال الذي طرحه "علي شريعتي" في أي زمنٍ نعيش؟ صياغة الزمن الذي نعيشه هو المدخل السليم للظواهر الحالية مثل حدث ثورة 25 يناير. إذا أردنا وصف الزمن الذي نعيشه فقد لا يكون بعيدًا عن الدقة وصفه بأنه زمن المابعديات: زمن ما بعد الحداثة، عصر ما بعد الشيوعية، ما بعد البنيوية، ما بعد الماركسية، زمن ما بعد الرأسمالية، ما بعد الليبرالية... إلخ، إذن الزمن الذي نعيش فيه هو زمن المابعديات. ثورة الصبار رغم ذلك لابد من القول بإن "الثورة التونسية" و"الثورة المصرية" يعدان أول محاولة في التاريخ العربي المعاصر لتثوير الزمن العربي كي يتطابق مع الزمن العالمي، وذلك في التحول الثوري من السلطوية إلي الديمقراطية كتفاعل إيجابي خلاق مع العولمة. فتمتمت إنها حقًا ثورة الصبار! إن "التاريخ يتقدم حسب سرعة نظام الأسلحة" كما ذهب لذلك صاحب مبحث "علم السرعة" الفرنسي "بول فليو"، فهذا المبحث له تأثير فعال في علم السياسة والاجتماع، وهذا يعود إلي اختراع البارود وقوته التأثيرية علي سائر المجتمعات!. لن ننسي مطلقًا -في هذا المقام- أهمية الحادث الزمني المتسارع، المتمثل في ثورة 25 يناير التي أسقطت النظام بكل أجهزته القوية وتنحي الحاكم في 18 يومًا، إنها سابقة. فلا صوت يعلو فوق صوت السخط الشعبي. منطق التاريخ يحتم علينا الانصياع للديمقراطية، فالدائرة الكونية أثبتت بأن الديمقراطية هي شعار القرن الحادي والعشرين، فالشمولية سقطت، والقلاع السلطوية ستسقط أيضًا لأنها ضد منطق التاريخ.. وهذا حال الثورة السياسية. والثورة القيمية (أي القيم) جزء من الثورة الكونية، وهي ثورة ما بعد مادية، ثورة هادئة معرفية.. الكرامة الإنسانية، والأمل الإنساني، الأمن والحرية السياسية، ثورة تنقلنا من الحداثة إلي ما بعد الحداثة نزوعًا نحو الوعي الكوني العالمي. يوتوبيا التحرير إن ما حدث في ميدان التحرير قد نصفه ب "السعادة المغناة"، تآلف نادر بين مختلف فئات الشعب وانتماءاته الدينية.. إنه أشبه باليوتوبيا التي يحلم بها الشباب المصري، مجتمع مثالي جديد يحلمون بتحقيقه في سائر أرجاء الوطن... ليس هناك امرأة محجبة أو منتقبة أو ترتدي الجينز..إلخ. ليس هناك مسلم ومسيحي.. ليس هناك رجل وامرأة.. أبيض وأسود، بل محبة وسعادة وتعاون شديد بين الناس. والآن يبقي السؤال(الخاص) بتحديات المجتمع التالي للثورة المصرية!!. وماذا عن بعد مابعد الحداثة After Postmodernism ؟ وماذا عن الزمن المتباطئ (زمن تنفيذ المطالب الشعبية)؟؟... إنها ما زالت ثورة قيد التحقيق.