في جمهورية إمبابة كل شيء عشوائي، الطرق والعمل والبيوت وحتي دور العبادة تظهر في أماكن غير طبيعية منها بدرون عمارة أو حارة ضيقة، وتنتشر لافتات عن مراكز تعليمية دينية ويظهر الكتاب مجددا لكن في شقق ينفق عليها من يسمون أنفسهم بالسلفيين، ومن ثم كان طبيعيا ولا يزال أن تحتل جمهورية إمبابة مكان الصدارة في إنتاج التطرف الديني وطرح زعماء دينيين علي صدر الوطن بين حين وآخر،وان تظهر أزمات عشوائية تنتهي بطريقة عشوائية في هذه المدينة التي وصفتها في منتصف الثمانينات الصحافة البريطانية ب «جمهورية إمبابة الإسلامية»، إذ كانت معقلاً للكثير من الجماعات الدينية المتطرفة، التي تسببت في موجات عنف وتفجيرات عانتها مصر في الثمانينات. مستوطنة الشيخ جابر وقصة السيدة عبير التي تردد أنها أسلمت ثم تم اختطافها في إحدي كنائس إمبابة، ومن ثم هرول السلفيون مع المواطنين العاديين لتحريرها فوقعت الكارثة، هذه القصة التي أسفرت عن مصرع 12مواطنا بالتساوي بين الأقباط والمسلمين وجرح أكثر من 250مواطنا هي الوجه الآخر لقصة الشيخ جابر التي يعرفها كل سكان جمهورية إمبابة ويستدعونها في كل أزمة. والشيخ جابر لمن لا يعرفه مجرد طبال وبلطجي سابق حولته جماعة متطرفة إلي «أمير» لها، وفرضت من خلاله سطوتها علي المنطقة لتتحول إمبابة إلي دولة داخل الدولة، لها قوانينها الخاصة وحاكمها المطلق،فهناك شوارع لاتدخلها الشرطة إلا بأمره، وهو الذي يحل المشكلات بين الأزواج وهو الذي يتدخل في كل تفاصيل حياة المواطنين، وتردد انه كان يفرض علي النساء ارتداء النقاب، وأصبح الشيخ جابر أسطورة فقررت أجهزة الأمن الدخول في مواجهة في نهاية 1992، وحشدت أكبر عدد استخدمته من العربات المصفحة والجنود في تاريخ المواجهات الأمنية مع المتطرفين،وهو 120مدرعة أغلقت وقتها كل منافذ المنطقة للسيطرة علي إمبابة وتطهيرها من المتطرفين في الحواري ينفذون تعليمات الشيخ جابر، واستمرت حرب الشوارع أسبوعا كاملا عاشت فيه إمبابة علي أعصابها، وسقط عدد كبير من القتلي والجرحي جراء القصف العشوائي علي مواقع«الشيخ جابر» وأركان دولته، إلي أن تمت تصفية جيوب المقاومة وتم القبض علي جابر وعدد كبير من أعوانه. وظن كثيرون أن التطرف انتهي من إمبابة وان التعصب خرج ولن يعود لكن الواقع أن إمبابة وأخواتها بولاق الدكرور وزنين لاتزال بؤر التطرف ومن ثم الإرهاب وهي مرشحة لإنتاج جيل جديد من المتطرفين بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية والتراجع الثقافي فضلا عن انتشار جمعيات دينية غير مسجلة رسميا ولايعرف احد كيف تظهر ولاكيف تختفي. الحدود الجغرافية لجمهورية إمبابة من الناحية النظرية تتمتع إمبابة بموقع متميز ومناخ رائع فموقعها البحري علي الضفة الغربية لنهر النيل يجعلها أكثر "طراوة" من باقي الأحياء التي تقع شرق النيل، الأمر الذي كان يرشحها لأن تكون حياً راقياً، لكن منذ منتصف الستينات بنت الثورة عدة مشاريع إسكانية للعمال للتخفيف من حدة الزحام وارتفاع أسعار الشقق، لكن حدثت في السبعينات موجة من الزحف الصعيدي، من جنوب مصر استمر يضغط علي الشوارع إلي أن تحولت إلي حارات بعضها تم إغلاقه أمام الزحف المتواصل حتي اللحظة، وتدريجيا صارت تصبح «نخلة الدوم المصرية» معني اسم إمبابة باللغة الأمهرية جمهورية للتعصب. وتعد إمبابة أكثر مناطق القاهرة الكبري ازدحاما بالسكان ويبدو أنها تفوقت علي حي دار السلام الذي اشتهر في السبعينات بالصين الشعبية واختطف منه اللقب، إذ حسب إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، هناك مليون ومائة ألف نسمة هم سكان المنطقة التي يقول الخبراء إنها لا تتحمل أكثر من 400ألف مواطن ومعني ذلك أن إمبابة تتحمل حاليا ثلاثة أضعاف طاقتها السكانية وأحد أشكال الضغط العمراني والزحف العشوائي عليها، إذ أصبحت بسببهما القدوة السيئة بين المصريين في التعصب والتطرف الديني علي الصعيدين الإسلامي والقبطي. والقصة متكررة، المسيحيات المتحولات إلي الإسلام أو العكس قصة لا تختلف عن مسلسلات التليفزيون المملة، هذه المرة اسمها عبير ومن قبل كانت كاميليا ووفاء ونجلاء، وكأن مصر تفرغت من مشكلاتها العويصة والمواطنين صاروا في اسعد حال يبحثون عما يملأ أوقات فراغهم، فالشائعات هي بطل القصة التي تنتهي بالقتل ثم يكتشف الجميع أن الأمر كله مجرد وشاية لا أصل لها، الشائعة الأخيرة خرجت في المنطقة تقول إن فتاة مسيحية من أسيوط تدعي عبير أسلمت وتزوجت بمسلم يسكن في إمبابة، وقد استُدرجت السيدة إلي كنيسة ماري مينا واحتجزها الأقباط حتي تعدل عن إسلامها. تبدو القصة حتي هذا المشهد مألوفة، لكن غير المألوف أن تنتشر الحكاية علي نطاق واسع في اليوم نفسه الذي أعلن فيه ظهور كاميليا شحاته، زوجة قس دير مواس، التي شغلت مصر قبل ثورة 25 يناير لأيام كثيرة، عندما قيل إنها تركت زوجها (القس) وأعلنت إسلامها ثم عادت إلي المسيحية تحت ضغط الكنيسة. قصة كاميليا طفت من جديد علي سطح الأحداث بعد الثورة، عندما أُعلن ظهورها علي قناة «الحياة» التبشيرية للرد علي تظاهرات السلفيين التي وصلت إلي الكاتدرائية للمطالبة بعودة كاميليا إلي ديار الإسلام. إعلان ظهور زوجة القس صاحبه جدل كبير، إذ طالب المتشددون بظهورها منفردة علي التليفزيون المصري، فيما اكتفت الكنيسة بالصمت واختارت كاميليا الظهور علي قناة تبشيرية، وهي الرسالة التي فهمها السلفيون: «كاميليا عادت إلي دينها وزوجها وابنها». انتهت قصة كاميليا لتبدأ حكاية عبير، البداية في حكاية عبير مختلفة، رجل ليس من حي إمبابة ذهب إلي أحد مساجد المنطقة، وصرخ في المصلين طالباً منهم مساعدته في استعادة زوجته التي أعلنت إسلامها واختطفها الأقباط، التقط السلفيون طرف الخيط واتجهوا إلي كنيسة ماري مينا في إمبابة وحاصروها، وطالبوا بتسليمهم الفتاة التي اختارت الإسلام، المفاجأة أن الأقباط كانوا في انتظارهم، ومن ثم رفضوا دخول المسلمين، علي اعتبار أنه لا أحد في الكنيسة، المفاجأة الأخري أن زوج عبير اختفي تماماً. محطات فضائية طائفية الحادثة - الشائعة- وصلت مداها في إمبابة لاعتبارات عديدة منها الزحام الرهيب وانتشار التيار السلفي وغياب فقه الأولويات عند عدد من الشيوخ من ذوي التأثير علي المواطنين،فالبعض مازال يطالب بإقامة الخلافة الإسلامية، والتمسك بالشكليات من حف للشارب وإطالة شعر الذقن،واعتبار أن تحرير سيدة هنا أو فتاة هناك أهم من تحرير الإنسان المصري من أزماته الاقتصادية والاجتماعية،وفي ظل هذا المناخ تنتعش الأزمات الطائفية التي تغذيها محطات فضائية طائفية أيضا لاتعيش إلا علي مثل تلك الأزمات.