شغلت مدينة القدس عبر العصور مكانة مهمة ومتميزة في جميع الأديان.. وتتضاعف أهميتها خلال موسم أعياد الفصح وأسبوع الآلام الذي يوافق هذه الأيام.. ففي هذا الموسم بالذات تتجه قلوب المسيحيين من جميع أنحاء العالم صوب كنيسة القيامة بالقدس. لهذا سوف نلقي إطلالة سريعة علي هذه الاحتفالات والكنيسة التي ترتبط بها بالذات.أما عن مدينة القدس نفسها، فاسمها بالعبرية هو "أورشليم " ومعناها "مدينة السلام "باللغة العربية، وهي مكونة من مقطعين: المقطع الأول "أور "ومعناها "مدينة " أما المقطع الثاني فهو "شاليم "ومعناها "سلام " ومن أشهر الأماكن المقدسة بالقدس ما يعرف ب"طريق الآلام " أو "درب الصليب " ويقصد به الطريق الذي قطعه السيد المسيح في الطريق إلي الصلب، وعدد المحطات الرئيسية في هذا الطريق 14 محطة، تسع منها خارج زمام كنيسة القيامة، أما الخمس محطات الباقية فيقع داخل زمام الكنيسة، أما أسماء المحطات الأربع عشرة فهي :- 1- محطة الحكم بالموت علي السيد المسيح ثم جلده 2- السيد المسيح يخرج حاملا الصليب، وفي هذا المكان توجد كنيستان للرهبان الفرنسيسكان 3- وقوع السيد المسيح تحت ثقل خشبة الصليب للمرة الأولي 4- لقاء السيد المسيح مع أمه السيدة مريم العذراء ويوجد به كنيسة سيدة الأحزان للأرمن الكاثوليك 5- تسخير الجنود الرومانيين لشخص يدعي "سمعان القيرواني "لحمل الصليب 6- المكان الذي مسحت فيه فتاة تدعي "فيرونيكا " وجه السيد المسيح من العرق، وفي هذا المكان توجد كنيسة فيرونيكا لأخوات يسوع الأصاغر 7- السيد المسيح يقع تحت خشبة الصليب للمرة الثانية، ويوجد به دير للرهبان الفرنسيسكان 8- حديث السيد المسيح مع بنات أورشليم عندما قال لهن "لا تبكين علىّ بل ابكين علي أنفسكن "(لوقا 23 :28 ) ويوجد به دير للروم الأرثوذكس 9- السيد المسيح يقع تحت خشبة الصليب للمرة الثالثة، ويوجد به مدخل مطرانية الأقباط الأرثوذكس 10- نزع الثياب عن السيد المسيح تمهيدا لصلبه 11- تعليق السيد المسيح علي خشبة الصليب ويوجد به كنيسة تتبع الروم الكاثوليك . 12- وفاة السيد المسيح علي خشبة الصليب، ويوجد به كنيسة للروم الأرثوذكس، وكنيسة أخري للفرنسيسكان 13- إنزاله من علي خشبة الصليب 14- القبر المقدس ويقع في وسط كنيسة القيامة وفي الأسبوع الأخير قبل عيد الفصح، يجتمع المسيحيون من جميع أنحاء العالم ومن جميع الطوائف للالتفاف حول هذه المحطات الأربع عشرة، وعند كل محطة يقفون ليتلون صلوات وتلاوات معينة . أما عن تاريخ بناء كنيسة القيامة، فيذكر التاريخ عنها أن الملكة هيلانة والدة الإمبراطور قسطنطين دشنت المكان الذي أقيمت فوقه الكنيسة في يوم 13 يوليو 335م بحضور بطريرك كنيسة الإسكندرية في ذلك الوقت وكان هو البابا أثناسيوس الرسولي البطريرك رقم 20 في سلسلة باباوات الكنيسة القبطية، مع لفيف من جميع أساقفة العالم، وفي عام 614م قام الفرس بهدم الكنيسة وحرقها، فأعاد بنائها أحد الآباء البطاركة وكان ذلك عام 636م، وعندما فتح الخليفة عمر بن الخطاب مدينة القدس عام 637م، أعطي للبطريرك "صفرونيوس "عهد الأمان للمسيحيين وكنائسهم فيما يعرف ب"العهدة العمرية " وفي عام 1009 م، قام الحاكم بأمر الله بهدمها، ولكنه عاد بعد ذلك وسمح للمسيحيين أن يعيدوا بناءها من جديد، فشيدوا كنيسة القبر المقدس فقط نظرا لحالة الفقر الشديد التي كانوا يمرون بها في ذلك الوقت، وفي عام 1035م سمح الخليفة الفاطمي المستنصر بالله للمسيحيين ببناء الكنيسة من جديد، وعندما احتل الصليبيون القدس عام 1099 بنوا قرب القبر المقدس كنيسة عرفت بعدئذ بكنيسة "نصف الدنيا "، وفي القرن السادس عشر عقدت تركيا مع فرنسا معاهدة الامتيازات الأولي عام 1535م، وسمح للاتين بعمل بعض الترميمات بالكنيسة . واستمر الحال ما بين الهدم والبناء والترميم، وخلال هذه الفترات اندلعت صراعات مريرة بين الكنائس المختلفة حول نصيب كل كنيسة من ملكيتها، فانعقد مؤتمر في برلين في 13 يونية 1878 من أجل إيجاد حل لهذه الصراعات، وانتهت فيما يعرف في التاريخ بمعاهدة "برلين" التي سوت حقوق المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية وجاءت المادة 62 من هذه المعاهدة فيما يعرف بقانون الحالة الراهنةStatus Que لتنظيم وحل هذه الصراعات. ويقوم علي حراسة أبواب كنيسة القيامة حاليا عائلتان مسلمتان هما: عائلة آل جودة وعائلة آل نسيبة، حيث يحتفظ آل جودة بمفاتيح الكنيسة، بينما يقوم آل نسيبة بفتح أبواب الكنيسة في مواعيد الصلاة . وتذكر بعض المصادر التاريخية أن هاتين العائلتين تقومان بهذه الوظيفة منذ سلم بطريرك الروم الأرثوذكس "صفرونيوس" مفاتيح كنيسة القيامة إلي الخليفة عمر بن الخطاب عام 637م . وهناك خمس طوائف لها حقوق في كنيسة القيامة هي (الروم الأرثوذكس - الآباء الفرنسيسكان "اللاتين " - الأرمن الأرثوذكس - الأقباط الأرثوذكس - السريان الأرثوذكس ) . أما عن ممتلكات الأقباط الأرثوذكس في القدس فتشمل :- 1- دير القديس الأنبا أنطونيوس :- ويقع بجوار كنيسة القيامة، وقد أصلح هذا الدير وأضيفت إليه مبان جديدة في سنة 1875م، وفي عام 1907 م عمّر من جديد، وعلي بعد نحو ستة أمتار من هذه الكنيسة تقع المرحلة التاسعة من طريق الآلام (وقوع السيد المسيح تحت خشبة الصليب للمرة الثالثة ) 2- دير مارجرجس للراهبات :- وهو يقع بالقرب من باب الخليل بالقدس القديمة، ويرجح أن تاريخ بناء هذا الدير يرجع للقرن السابع عشر تقريبا، وقد قام نيافة الأنبا أبراهام "المطران الحالي للقدس " بتجديد الدير خلال عام 1994، ولقد اكتشف علماء الآثار أثناء التجديد أطلالا أثرية يعود تاريخها للقرن الرابع أو الخامس الميلادي . 3- كنيسة الملكة هيلانة :- وتقع في الطابق الأرضي من مبني البطريركية القبطية، ويقال في التقليد القبطي إن الملكة هيلانة قد استخدمت بئر المياه التي بداخل الكنيسة في بناء كنيسة القيامة خلال القرن الرابع الميلادي . 4- كنيسة السيدة العذراء :- وهي تقع بداخل كنيسة القيامة، ولهذه الكنيسة أهمية روحية خاصة، فهي ملاصقة للقبر المقدس مباشرة بل وتعتبر جزءا من بنائه ويرجع قدم هذه الكنيسة إلي قدم كنيسة القيامة نفسها . 5- خان الأقباط :- بني خان الأقباط في عام 1837م في عهد نيافة الانبا أبرآم (1820- 1854 ) 6- دير السلطان :- وهذا الدير يستحق مقالا مستقلا، غير اننا في هذه العجالة سوف نشير إليه سريعا، فهو يقع بجوار كنيسة القيامة، وتبلغ مساحته حوالي 1800 متر مربع تقريبا، أما عن سر تسميته بدير السلطان، فأرجح الآراء ترجع أصل التسمية إلي السلطان صلاح الدين الأيوبي، حيث وهبه للأقباط الأرثوذكس مكافأة لهم علي الشجاعة التي أظهروها أثناء الحروب الصليبية، وتقع ساحته فوق كنيسة القديسة هيلانة . وبالرغم من ثبوت ملكية الدير تاريخيا للأقباط الأرثوذكس، إلا أن السلطات الإسرائيلية وكنوع من النكاية في مطران القدس الراحل الأنبا باسيليوس ( 1959- 1991 ) بسبب مواقفه المؤيدة للقضية الفلسطينية، وأثناء قيام نيافته بصلوات قداس عيد القيامة المجيد في كنيسة القيامة يوم 25 إبريل 1970، قامت قوات الجيش الإسرائيلي بتغيير مفاتيح دير السلطان، ووضعوا الحواجز الحديدية أمام أبواب الدير، ومنعوا الأقباط من الاقتراب من الدير، وفي صباح اليوم التالي قامت القوات الإسرائيلية بتسليم مفاتيح أبواب الدير للرهبان الأثيوبيين، فسارعت مطرانية الأقباط إلي رفع قضية ضد السلطات الإسرائيلية مطالبة إياها برد ملكية الدير إلي الأقباط، وبالفعل أصدرت المحكمة الإسرائيلية قرارها رقم 109/71 بتاريخ 16 مارس 1971 برد ملكية الدير إلي الأقباط الارثوذكس ، وطالبت رئيس الشرطة الإسرائيلية بإعادة المقدسات المغتصبة إلي أصحابها قبل يوم 6 إبريل من نفس السنة (1971 )، كما أصدرت حكما بتوقيع غرامة مالية علي كل من وزير الشرطة الإسرائيلي ومطران أثيوبيا في القدس، لكن وللأسف الشديد لم تستجب السلطات الإسرائيلية لهذا الحكم حتي الآن، ولقد بذلت الدبلوماسية المصرية بالتعاون مع الكنيسة القبطية جهودا مضنية من أجل عودة الحق إلي أصحابه دون جدوي . أما عن احتفالات عيد القيامة في مصر، فهي تتمتع بمذاق خاص، فلقد ربط الأقباط بين عيد شم النسيم وعيد القيامة، فالأصل في شم النسيم أنه عيد فرعوني قديم ، يرجع تاريخه إلي نحو عام 2700 ق.م تقريبا، واسمه بالفرعونية "شمو" ومعناه "خلق العالم "أو "بداية العالم، وكانوا يعتبرونه عيد بداية أول الزمان، وهو مايقابل موسم الربيع حاليا، وكانوا يحتفلون به خلال شهر برمهات من الشهر القبطي، ومع دخول المسيحية إلي مصر ، وجد الاقباط أن شهر برمهات يوافق موسم الصوم الكبير عند الأقباط غالبا، فقرروا نقله إلي اليوم التالي مباشرة لعيد القيامة المجيد، ولما كان عيد القيامة لابد أن يأتي يوم أحد، فترتب عليه بالتالي أن عيد شم النسيم لابد أن يأتي يوم اثنين، ثم قام الأقباط بإضفاء معني مسيحية خالصة لهذا العيد، ففي موسم الربيع تتفتح الزهور بعد ذبولها في موسم الشتاء، فوجد فيها الأقباط معني رمزيا جميلا يشير إلي القيامة، كذلك البيض وخروج الكتكوت منه وجدوا فيه وسيلة إيضاح مناسبة تشرح القيامة، ولقد قيل إن مريم المجدلية عندما خرجت لتبشر بالمسيحية، سألها أحد الملوك الوثنيين: كيف قام السيد المسيح من القبر بعد موته ؟ فأجابته: مثلما يخرج الكتكوت من البيضة . كذلك هناك سبب آخر لأكل البيض في شم النسيم، فالمعروف أن شهر برمهات هو شهر تفريخ البيض، ولكن شهر برمهات هو شهر الصوم الكبير كما ذكرنا سابقا وهو لا يسمح فيه بأكل البيض، ولهذا السبب ظهر المثل العامي الذي يقول "عاش القبطي ومات ولا كلش البيض في برمهات " فكنوع من التعويض عن الحرمان من أكل البيض خلال فترة الصوم، يأكل الاقباط البيض في شم النسيم . أما السمك المملح والفسيخ والرنجة، فلقد وجد فيها الأقباط رمزا جميلا للخلود وعدم الفساد حيث يحفظ الملح السمك المائت من الفساد، وهذا يعطي وسيلة إيضاح قوية للقيامة، أما البصل والخس والملانة، فاللون الأخضر فيها يعطي معني جميلا للخضرة والجمال المرتبطين كأشد ما يكون الارتباط بشم النسيم وموسم الربيع بصفة عامة . وهكذا حمل عيد شم النسيم الفرعوني رموزا مسيحية جميلة ، وزاد من جمالها توحد المسلمين والأقباط في خروجهم معا للحدائق والمتنزهات العامة في وحدة وطنية جميلة تعمق المحبة بين المسلمين والاقباط علي مر الزمان وإلي منتهي الأزمان إن شاء الله .