مشروع فيلم عن مدينة الموتي يتحول إلي فيلم عن مدينة الحياة ! وإرادة الحياة! كانت المخرجة الفرنسية «إيمانويل ديموريس» قد حصلت علي منحة من إحدي الهيئات لإعداد فيلم تسجيلي عن مدينة الموتي أو ما تبقي من مقابر العصر الاغريقي - الروماني بالإسكندرية، فإذا بها تكتشف علي انقاض المدينة «القديمة» حياً عشوائيا اسمه «مفروزة» يثيرها حياة أهلها وهم يستمتعون بالحياة رغم فقرهم يتكافلون ويتصادقون يلهون ويرقصون رغم معاناتهم، حواري ضيقة بيوت تطل عليها بلا أبواب، تلتقي بشخصيات تثير اهتمامها تستعين بشاب سكندري مترجما ومرشدا للحي اسمه «أمير»، تترك الناس يتحدثون أمام الكاميرا بلا أي تعليمات يفضفضون ويكشفون عن مكنونهم كأنهم يتحدثون إلي صديق محل ثقة، بعد ساعات تصوير بكاميرا ديجيتال طويلة ومتقطعة بين 2002 و 2004 تخرج إلينا بفيلم «مفروزة» من خمسة أجزاء كل جزء حوالي ساعتين ونصف الساعة كل جزء يمكن أن يقدم مستقلا بذاته شخصيات رئيسية تظهر في أكثر من جزء، كل الأجزاء الخمسة عناوين «آه يا ليل»، «قلب»، «ما العمل؟»، «الفراشة»، «فن الكلام». الجائزة الكبري شاهدت الجزء الأخير «فن الكلام» بمهرجان لوكارنو السينمائي الدولي الأخير «أغسطس 2010» الذي يقام في القسم الإيطالي في سويسرا وقد فاز بالجائزة الكبري في قسم «مخرجو الحاضر» . شخصيات تظل شخصيات في الذاكرة منها «أم إبراهيم» التي نراها أمام فرن أقيم بين مقبرتين وهي تعد العيش وتنظر بين حين وآخر إلي السماء المتلبدة بالغيوم خوفا علي الفرن. وهذه امرأة أخري تنطلق تحكي عن كرم بعض الأهالي معها ولكنها غالبا ما تتأبي، يطلون أصحاب قص ويكسرون عيني..! ترضع ابنتها وترعي ولدا صغيرا يلعب بجوارها تنهره برفق من حين وآخر، إنها مؤمنة بالقدر .. الله دائما يسترها. عادل .. الشاعر .. الذي ظل يكتب شعرا غراميا في امرأة أحلامه حتي تتجسد أمامه في النهاية ويتزوجها ويعيشان معا بسعادة. الشاب الذي هرب من الجيش لأن والده مريض وعليه أن يعمل لرعاية أسرته. الشيخ محمد خطاب الشخصية الرئيسية هي «محمد خطاب» البقال والواعظ بالجامع .. نراه في محل بقالته الضيق وهو ليس إلا حجرة بالبيت تطل علي الشارع.. وهو يتحدث أمام الكاميرا.. كما صديق قريب - عن حياته وكيف ظل يقوم صلاة الجمعة.. كل الناس يحبونه ويحبون حديثه المتبسط فهو نفسه إنسان بسيط، خلال حديثه إلينا يأتي الزبائن.. مشتروات بمبالغ بسيطة يقطع شرائح البسطرمة.. يختار لطفل لا يملك إلا القليل شيئا من الحلوي ويمنح سيجارة ل«عابر سبيل» لا ينقطع عن الحديث عن محاولته الإطلاع والتثقف .. استمع إلي أحاديث الشيخ الشعراوي واعتبره نموذجا له .. يحاول التبسط مع أهل الحي في عظة الجمعة .. يضرب الأمثلة من سيرة الأنبياء يتوقف عند سيرة السيدة مريم يطيل الحديث حول ولادتها للسيد المسيح وهي العذراء البتول.. الناس يحبونه حتي إذا انصرف أكثرهم عن الجامع الصغير الذي كان يخطب فيه وقد تحكم فيه أحد السلفيين وذهبوا إلي جوامع بعيدة وهم يتمنون أن يعود إليهم الشيخ محمد خطاب. شخصية محورية في لحظة تجلي يكتشف للكاميرا لنا عن حياته زمان كشاب حيث كان يعمل طبالا مع راقصة .. أيام شقاوة زمان! احتفالية شعبية مشهد ذبح خروف العيد يتحول إلي احتفالية شعبية يتجمع حولها الأهالي والأطفال .. بدلالة اجتماعية عن التكافل الاجتماعي .. حيث يقوم محمد خطاب بقطع الخروف إلي أجزاء كل منها في كيس.. هذا لأم علي .. هذا لأم إبراهيم .. هذا لأم عبدالله.. دائما أم . قد يبدو تسائل كيف حصلوا علي الخروف أو الخراف؟! تجيب إيمانويل: تبرع بها رجل كريم يعمل في التجارة .. أصر أن لا يذكر أحد اسمه! الديش يلعب التليفزيون - الأطباق الهوائية دورا مهما في حياة أهل «مفروزة» بدون تكاليف من الخط 120جنيهاً داخل زحام البيت وكراكيب يأخذ مكانه .. تحدث امرأة أنه وسيلة لتقضية الفراغ الكبير .. من مشاهد الأفلام الكوميدية القديمة إلي أخبار العالم.. حرب العراق .. وأحداث فلسطين .. البعض يفضل أفلام الرعب! حينما التقيت إيمانويل في مهرجان لوكارنو سألتها هل شاهد أهل مفروزة فيلمك هذا ؟ أجابت إن إعداد الفيلم وموناچه استغرق وقتا طويلا ولم ينته إلا منذ وقت قليل ولكنها تتمني أن تعود للإسكندرية ويعرض الفيلم لأهل «مفروزة» الذي اندثر وذهب سكانه إلي مناطق أخري مثل أولاد يوسف والعامرية. كانت المفاجأة مع عرض الجزء الأخير من «مفروزة» بالمركز الثقافي الفرنسي بالإسكندرية حضور محمد خطاب بنفسه عادل - الشاعر تحدث عن حياة أهل مفروزة في المناطق الجديدة البيوت تغلق أبوابها ونوافذها .. لم تعد مفتوحة دائما كما في مفروزة، حيث كان الناس متقاربين الكل يعرف الكل يعايشه ويصادقه بروح ودودة صرنا نعيش كغرباء وأضاف عادل أن الرجال والشباب يعانون من المشوار البيعد إلي مقار أعمالهم أو مدارسهم. أشار الناقد السكندري إبراهيم الدسوقي إلي الجدار العالي الفاصل الذي يطوق مفروزة .. جدار يفصل بين مجتمعين مختلفين ولكنه لا يقيم جيتو بل خلف السور هناك مجتمع متكامل يتميز بإنسانية ويخلو من الجريمة التي قد توجد في أحياء عشوائية أخري، ولعل مجيء إقليم من الصعيد - الطارد طلبا للرزق من عوامل توحدهم عرض للجزء الخامس - من مفروزة ثم مع جمعية نقاد السينما المصرية، قمت بتقديم الفيلم أبدي في النقاش البعض نقده لطول الفيلم ساعتان ونصف الساعة مما يدعو للملل .. دافع الناقد سمير فريد عن الفيلم بأنه يقدم لنا الحياة .. في إيقاعها الحقيقي وأن الفيلم مصنوع من منطلق الحب ومن هنا كانت تلقائيته المتميزة وواقعيته المذهلة وطوله يحسب له لا عليه، تؤكد المخرجة أن فيلمها ليس عن أهل مفروزة.. بل معهم. إنتاج فقير وسئلت المخرجة عن تكاليف إنتاج الفيلم، دهش الحضور أن التكلفة لم تزد علي 150.000 يورو .. ولم يكن يمكن تدبير هذا المبلغ لولا دعم كاتب السيناريو الفرنسي جان جراوك وقد عمل مساعدا للمخرج الكبير روسليني ، كما كتب سيناريو بعض أفلام فرانسوا تروفو وعمره ثمانون عاما.. وقد أعجب لدرجة كبيرة بمشروع إيمانويل فحول الفيللا الخاصة به إلي مقر شركة إنتاج واتخذ من البدروم مكانا للعمل، والعرض كان يقوم بمثل هذه المغامرات الطموحة، ستعيش السينما في مواجهة السينما التقليدية وأصبحت مثل هذه الأفلام غذاء طيبا لكثير من المهرجانات .. وأسعده أن يستحق فيلم مفروزة جائزة مهرجان لوكارنو الكبري. ماذا تقول الصحافة الغربية؟ عن شخصية محمد خطاب يكتب الباحث الأمريكي جابي كلينجر في مجلة «سينماسكوب» أنه صاحب كاريزما، يصفه أنه أحد ابطال السينما المعاصرة بسبب رقي روحه في المشاركة وأن تبسيط حديثه وتأكيده علي سماحة الإسلام يعطي صورة مهمة مغايرة عن الإسلام الذي يساء إليه بسبب اخبار الإرهاب والقاعدة! ويكتب نفس الباحث الأمريكي في مجلة ويكتب إميل بريتون في صحيفة «ليوماتينيه» الفرنسية للكاميرا هنا شخصية رئيسية في الفيلم كأنما تحاور الشخصيات وتسري خلال كل الفيلم قوة إرادة الحياة، والمقدرة البشرية علي الابتكار، من مباراة الشعر والزجل بين الشباب وأغانيهم التي يزفون بها العروسين أو السيدة التي تخبز العيش في الفرن تحت المطر، إرادة الحياة في مدينة الموتي أي درس!