من أحدث كتابات الناقد الأدبي الكبير الأستاذ الدكتور جابر عصفور صدر حديثا عن مكتبة الاسرة لعام 2010 كتاب "الهوية الثقافية والنقد الأدبي " والكتاب عبارة عن سلسلة مقالات تتناول قضايا الثقافة الوطنية والهوية الثقافية والأدب القومي، كما يتناول مفهوم العالمية وأهمية التنوع الخلاق . فحول مفهوم الثقافة الوطنية يرصد المؤلف الارهاصات الأولي لهذا المصطلح من خلال "مجلة الثقافة الوطنية " التي صدرت في بداية الخمسينات، وهي المجلة التي نشر فيها عبد العظيم أنيس سلسلة مقالاته التي تجمعت بعد ذلك في كتابه "في الثقافة المصرية "تأكيدا لمعني الثقافة الوطنية التي حددها المقال الافتتاحي للكتاب بأنها ثقافة التحرر من الاستعمار، وظهر بعدها كتاب أنور عبد الملك "دراسات في الثقافة الوطنية " الذي صدر قبل هزيمة يونية بأشهر معدودة، وتحددت طبيعة الاستعمار الثقافي في كتاب أنور عبد الملك في المحاولات التي يبذلها الاستعمار لعزلنا عن المنابع الثقافية المغايرة لطبيعته في العالم المعاصر من ناحية، والعالم الثالث الساعي إلي الاستقلال من ناحية ثانية .يضاف إلي ذلك محاولة الاستعمار عزلنا عن تراثنا القومي وقطع صلاتنا بجذورنا التاريخية، وفي هذا السياق نفسه، صدر كتاب فتحي خليل "دفاع عن الثقافة العربية " عام 1959 . الأدب والفكر واستهل المؤلف صفحاته بكلمات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يقول فيها "التحرر الفكري ضروري لنا في الحرب الباردة التي تحارب بكل الأسلحة، والأدب والفكر سلاحان أساسيان في هذه الحروب " وفي عصر السادات كونت "لطيفة الزيات " من داخل حزب التجمع ما عرف ب"لجنة الدفاع عن الثقافة الوطنية " وكانت نشأة هذه اللجنة كرد فعل علي توجه الرئيس السادات نحو الصلح مع إسرائيل . وفي نفس السياق خرج بعض مفكري اليسار مثل "سمير أمين "و"محمود أمين العالم " و" إسماعيل صبري عبد الله " بالتنبيه ضد مخاطر العولمة . ثم تناول الدكتور جابر عصفور قضية فكرية مهمة وهي قضية "الهوية الثقافية " وهو يري أن الهوية الثقافية تتكون من عناصر ثابتة، وعناصر متغيرة، أما العناصر الثابتة فهي :العنصر الفرعوني الذي لا يزال ممتدا بمعني أو غيره، والعنصر المسيحي الذي لا يزال ميراثه المادي والمعنوي متجسدا في الطرف الثاني للأمة التي لا يزال يجمعها شعار "الدين لله والوطن للجميع " أما العنصر الثالث والأخير فهو العنصر العربي الإسلامي الذي يجمع ما بين دين وهوية قومية. أما العنصر المتغير فهو يجمع المؤثرات الثقافية الوافدة علي هذه العناصر، وهي تتلخص في الحملة الفرنسية علي مصر عام 1798، والاحتلال البريطاني لمصر الذي امتد من ( 1882 - 1954) والتي يطلق عليها مرحلة "الاستعمار الاستيطاني" أو الكولونيالي، قبل أن تتغير المرحلة التاريخية ويأتي استعمار بشكل جديد، هي المرحلة الامبريالية . ولكن ماذا يحدث حين يطغي عنصر من العناصر المكونة للهوية الثقافية للأمة علي الآخر، النتيجة المتوقعة هي حدوث خلل في هذه الهوية نفسها، ويصيبها الضعف الذي يفقد الثقافة نفسها القدرة علي الاتزان، وصنع إبداع جديد تتباهي به بين الثقافات، خصوصا بعد الثورة المذهلة في تكنولوجيا الاتصالات التي حولت كوكب الأرض إلي قرية كونية لا مجال فيها للنكوص أو التقهقر . فلا سلام ولا تقدم في أية أمة من الأمم، إلا حين تتوازن عناصر الهوية الثقافية وتتفاعل سلميا في سياق شروط تاريخية مواتية .عندها تتحول الهوية الثقافية إلي مصدر قوة متجدد، وتقدم متواصل . ولقد شهدت ثورة 1919 التلاحم الحقيقي بين العناصر الثلاثة المكونة للأمة، ففيها اتحد الهلال مع الصليب، وبعدها حدثت الكشوف الأثرية المتمثلة في مقبرة توت عنخ امون عام 1922، وفي ظل وهج ثورة 19 نحت محمود مختار تمثاله الشهير "نهضة مصر" وأزيح عنه الستار في عام 1928، وقبل ذلك بسنوات قليلة صدر دستور 1923 الذي أكد فيه حقوق المواطنة وأسس الدولة المدنية، وهتف سيد درويش باسم المصريين جميعا "قوم يا مصري مصر دايما بتناديك " كما غني أغنيته الشهيرة "أنا المصري " أما عن علاقة الهوية الثقافية باللغة، فاللغة ليست مكونا حاسما في كل الاحوال فالنوبة في مصر تندرج تحت الهوية المصرية، ولكن أهلها يتحدثون لغة غير اللغة العربية. الهوية اللغوية حين قام الاستعمار الفرنسي في الجزائر بتعليم اللغة العربية، ظهر كتاب جزائريون يكتبون بالفرنسية التي أجبروا علي تعلمها، ولكنهم أنتجوا أدب مقاومة بكل معني الكلمة، كما قال الأديب الجزائري "مولود معمري" "إن لغتنا فرنسية ولكن التعبير جزائري " .وعندما ننظر إلي الدول التي تكتب وتبدع باللغة الإسبانية، لا يمكن أن نصفها أنها كلها ذات هوية واحدة، فالهوية الثقافية الإسبانية محصورة جغرافيا في شبه جزيرة أيبريا، لكنها لغة الأدب والثقافة في المكسيك والأرجنتين وشيلي وأورجواي وكوبا وبنما وفنزويلا وبيرو والأكوادور وبوليفيا وجواتيمالا وكولومبيا ..... الخ . ولكن لا يمكن أن نجعل من آداب هذه البلاد فروعا وأغصانا من الهوية الثقافية الإسبانية . فلقد ذهب الاستعمار وبقيت اللغة علامة علي كيانات ثقافية متعددة، فليست اللغة وحدها هي العامل الحاسم في تحديدها . أما عن الهوية الثقافية والدين، فلقد قام المتطرفون الإسلاميون بتقليص الهوية الثقافية في الدين الإسلامي وحده، متحدثين عن ثقافة إسلامية ثابتة في هويتها، وبدأنا نقرأ عن طب إسلامي، وعلاج بالقرآن، واقتصاد إسلامي، وعلم نفس إسلامي، وتحريم للفنون والآداب . بينما الفكر الإسلامي نفسه ضم في تاريخ ازدهاره، ما أنجزه فكر الديانات الأخري، فطلب العلم فريضة ولو في الصين ومن هنا دعا الدكتور جابر عصفور إلي هوية منفتحة تحقق أكبر قدر من التوازن والتفاعل والتناغم بين مكوناتها الأساسية دون أن ينفي أي عنصر غيره أو يهمشه، وفي هذا الإطار أصدر اليونسكو تقريره المهم "التنوع البشري الخلاق " عام 1995، وهو تقرير يهدف إلي تأكيد هدف اليونسكو ضد أن تتسلط ثقافة علي أخري، وفي هذا الإطار نتذكر عبارة غاندي الخالدة "إني علي استعداد لأن أفتح نوافذ بيتي لأستقبل الرياح الوافدة من كل اتجاه، شريطة ألا تقتلع هذه الرياح جذور بيتي " ولعل عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين خير من قدم نموذجا متكاملا عن الهوية الثقافية المنفتحة في كتابه الخالد "مستقبل الثقافة في مصر"الذي صدر عام 1938، فهو يقول "إن هناك ثقافة مصرية موجودة ما في ذلك شك، قد تكون ضعيفة أو ناقصة، أو تحتاج إلي التقوية والتنمية والإصلاح، ولكن ذلك لا يمنع وجودها، وأول ذلك أنها تقوم علي وحدتنا الوطنية التي تؤكد حقوق المواطنة كاملة، مقرونة بشعار "الدين لله والوطن للجميع " ...... إننا نري هذه الثقافة في الذوق المصري الذي ليس هو ابتساما خالصا ولا عبوسا خالصا، ولكنه شيء بين هذا وذاك، فيه كثير من الابتهاج وفيه قليل من الابتئاس، وبقدر ما تجسد الثقافة المصرية وسطية الذوق، وعدم الميل إلي التطرف في المواقف، فإنها تجسد بالقدر نفسه الاعتدال الذي ينتج عن اعتدال الجو والذوق والاستجابة التي لا تخرج عن مدي الوسطية في النهاية . العناصر التكوينية يري الدكتور طه حسين أن العناصر التكوينية للثقافة المصرية هي : التراث المصري الفني القديم بكل مراحله وتجلياته التي تظهر حتي في المأثورات الشعبية المادية والمعنوية، وثانيها التراث العربي الإسلامي الذي أكسبته مصر خصائصها التي جعلته يتطبع بطابعها في أشياء كثيرة كما حدث مع فقه الشافعي قبل مصر وبعدها، أما العنصر الثالث والأخير فهو ما كسبته مصر وتكتسبه كل يوم من خير ما أثمرت الحياة الأوروبية الحديثة . وعن وحدة الآداب الإنسانية وعالميتها كتب الدكتور طه حسين في أحد كتبه " إنه ليس ضروريا أن تكون رومانيا أو فرنسيا او إنجليزيا، لتجد اللذة الأدبية عند "هوميروس " أو "سوفوكليس " أو "فرجيل " أو "هوجو" أو "شكسبير " أو "جوته " وإنما يكفي أن يكون لك حظ من ثقافة وفهم وذوق، لتقرأ وتلذ وتستمتع، وليس ضروريا بالقدر نفسه، أن تكون عربيا أو فارسيا لتجد اللذة عند "أبي نواس " أو "الخيام" أو "ابي العلاء " أو "جلال الدين الرومي " . إن الآداب أشبه بالديانات تؤثر في أمم متعددة " وينتقل الدكتور جابر عصفور بعد ذلك إلي قضية أخري هي مفهوم "الأدب القومي " وأول من صك هذا المصطلح هو الدكتور محمد حسين هيكل (1888-1956) ولقد تأثر هيكل في دراسته بفرنسا بأفكار المدرسة الطبيعية التي ردت كل شيء إلي قوانين حتمية في علائقها السببية، وجاء مفهوم الأدب القومي عند هيكل نتيجة الاستجابة الوطنية التي مثلها كتاب قاسم أمين بعنوان "المصريون " الذي نشره عام 1894 والتي صار بها "حب الوطن دينا جديدا، من اعتنقه ربح، ومن بعد عنه خسر " بجانب الزعيم مصطفي كامل الذي قال "لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا " وترانيم من قبيل " لو انتقل فؤادي من الشمال إلي اليمين، أو تحولت الأهرام عن مكانها المكين، لما تغير لي مبدأ ولا تحول اعتقاد، بل تبقي الوطنية رائدي ونبراسي، ويبقي الوطن كعبتي، ومجده غاية آمالي " ثم جاءت بعد ذلك إسهامات أحمد لطفي السيد من خلال كتاباته في "الجريدة "، ثم الاكتشافات الأثرية للحضارة الفرعونية التي بدأت مع اكتشاف شامبليون لأسرار اللغة الهيروغليفية، واكتشاف هوارد كارتر لمقبرة توت عنخ آمون، ولقد سجل هيكل هذا الحدث وآثاره المهمة من خلال سلسلة مقالات كتبها في جريدة السياسة عام 1922، والتي أكد فيها علي أهمية تمثل التاريخ القديم يمكن أن يكون نبراسا لإقامة حضارة جديدة لا تقل ازدهارا، وضرورة قيام "أدب قومي " يصل مصر الحديثة بمصر القديمة .كما أعلي من شأن النزعة الوطنية، ومضي في دعوته إلي تقديس الطبيعة المصرية، ونهرها الذي أنشأ الله به مصر وأنشأنا بفضله عليها. وتمثلت هذه النزعة في تماثيل محمود مختار (1891-1934) وبعض أشعار أحمد شوقي أمير الشعراء مثل قصيدة "أيها النيل " و"أنس الوجود" "وتوت عنخ أمون " واشعار محمود حسن إسماعيل ( 1910- 1977) وخاصة ديوانه الأول "أغاني الكوخ " الذي صدر عام 1935 . حتي نجيب محفوظ الذي بدأ بترجمة كتابه عن "مصر القديمة " (عام 1932) وروايات عبث الأقدار(عام 1939) "و"كفاح طيبة "(عام 1944).