خسرت السينما العربية التسجيلية أبرز رموزها ومبدعيها... وخسرت السينما السورية صوتاً حاداً ومبدعاً اقترب من هموم البشر بصدق، وجاءت شهادات بعض أصدقائه وزملائه تعبيراً حياً عن حجم هذا الفقدان. حيث لا يزال الجرح طازجاً، والإحساس بالخسارة كبيرا... فماذا قالوا عنه... وكيف أكملوا صورته بكلماتهم؟ الفارس الشجاع النقي! المخرج نبيل المالح: فقدت سوريا فارسا شجاعاً نقياً من فرسانها، الذين تكالبت عليهم الضغوط لمنعهم من التنفس في وطنهم، لقد كان عمر أميرلاي صاحب مشروع ثقافي حقيقي ونزيه ضمن محيط ثقافي انتهازي وصولي وقزمي في معظم الأحيان. لقد كانت حربه مثل سينمائيين آخرين ضد أشباح ظلامية، صحيح أنه قد مات بجلطة دماغية، ولكنه كان معرضاً للقتل اليومي باستمرار؛ إذ كانوا يقتلون مشروعه الإبداعي الاستثنائي والعالمي النكهة والطموح. بالرغم من كل الإحباطات والضغوط وبالرغم مما لم يستطع تحقيقه فإنه سيبقي أميرلاي وعمله تاريخاً مبدعاً في وقت سيلفظ فيه التاريخ كل من حاول كتم أنفاسه... وأنا كسينمائي أعرفه منذ منتصف السبعينات، أفخر دائماً بكونه زميلا رائعاً ورفيق درب جابهنا فيه أقزاماً سرقوا حياتنا وحلمنا ولم نتوقف. خسارة للديمقراطية المفكر ميشيل كيلو: غاب اليوم عنا رجل كبير، فنان وأستطيع أن أقول مفكر، ورجل ذكاء هو المخرج عمر أميرلاي. عمر أميرلاي هو كما أعتقد أول سينمائي عربي يأخذ السينما إلي الواقع... دون تحفظات، ودون توسطات، ودون احتيالات. أخذ الكاميرا ونزل إلي الواقع السوري في أكثر تجلياته موضوعية... وأكثر تجلياته واقعية. ذهب أولا إلي سد الفرات حيث كان يبني عام 1969 وصنع فيلماً من 12 دقيقة، هو أعظم أنشودة تمجيد لعمل الإنسان.. أنشودة هائلة عن العمل، عن التقدم، عن التغيير، عن الإنسان العادي الذي تتفتق طاقاته وقدراته فيواكب التقنية ويساهم في تغيير حياته، وتغيير واقعه، أنشودة عن هذا الإنسان الذي يبدل عاداته السيئة لمجرد أنه احتك بالتقنية الحديثة، كالكسل والركون إلي القدرية في الحياة وانتظار الرزق من غير أبوابه.. هذا كان فيلمه الأول، وقد لفت الأنظار إليه حتي كتبت فيه مؤلفات.. ثم كتب سيناريو هو والمسرحي الراحل سعد الله ونوس عنوانه: (الحياة اليومية في قرية سوريا) وذهب وعاش ثلاثة أشهر في قرية تبعد كيلو مترا واحدا عن نهر الفرات، لكنها لا تشرب ماء، عطشي، أراضيها جافة، والناس فيها ينتظرون الفرج من الغيب... جلس في القرية، صورها، تحدث عن صراعاتها، عن مشكلاتها، عن العوائق التي تحول دون لقاء البشر بعضهم ببعض، عن وضع المرأة، عن وضع الأطفال، التعليم، عن المورثات التاريخية التي تكبل أيدي وأرجل البشر وقبل كل شيء عقولهم. وعندما انتهي الفيلم منع في سوريا بحجة أنه يظهر سوريا في غير الصورة الحضارية المتقدمة التي هي عليها... بالرغم من أنهم كانوا يقولون في ذلك الزمن دائماً، إننا عملنا الثورة (يقصد الثامن من آذار) لأن المجتمع متخلف، وعندما جاءهم مخرج بصورة عن المجتمع المتخلف، رفضوها بحجة أننا لسنا متخلفين... ثم توجه عمر بسينماه التسجيلية إلي مختلف مناحي النشاط الإنساني، بما في ذلك: المرأة والطفل والعادات وأنماط التفكير، حتي أنه عمل فيلماً عن رجل غني يمسك بمقاليد دولة هو رفيق الحريري... عمل فيلماً في جزءين عنه وكان من الأفلام التسجيلية المهمة جداً. كان الرجل فناناً مبدعاً في اختيار الزوايا، وفي استخدام الكاميرا كأداة سرد، وفي بناء الكادرات، والمنظورات والصور، وفي اختيار الحوار، وفي اختيار الموسيقي في بعض الأحيان. ثم عمل أفلاماً كثيرة عن الريف، وعما كان يقال عن التطور الذي حدث بعد الإصلاح الزراعي في الريف... والتصنيع في الريف. عمل فيلماً مهماً اسمه (الدجاج) عن قرية (صدد) بين فيه كيف دمرت المداجن تلك القرية عن بكرة أبيها، وقضت علي الزراعة فيها، وعلي أي نوع من الدخل والنشاط الموجودين في القرية، وكيف بدأ أهلها يعيشون من الهجرة والتهريب.. كيف تنحط المشاريع التاريخية الكبري إلي فساد وإلي فوات، وتنحرف عن مساراتها الحقيقية، وتصبح ضد الإنسان الذي تدعي أنها تراهن عليه، وتكبته بحجة أنها تراهن عليه. حتي عندما أنجز فيلماً عن اصطياد سمك القرش في جنوب اليمن كان الفيلم فعلياً يدور حول معضلة صراع الإنسان مع الموت الذي يمثله سمك القرش كي يكسب عيشه.. علماً أن ظروف الإنسان كما بدت في الفيلم، أسوأ بكثير من ظروف سمك القرش... وضحايا الإنسان علي يد سمك القرش، أكبر بكثير من ضحايا سمك القرش علي يد الإنسان. هكذا كان عمر رجلا للناس وللواقع وللتقدم، مفتوح العقل، فهيماً، مطلعاً علي الثقافات، عارفاً باللغات، كان يتحدث الفرنسية والإنجليزية بطلاقة... وكان يملك معرفة كافية لمخرج مهم عن تطور الثقافة والواقع، وكان آخر همومه - وهذا سر- أن يؤرخ لمرحلة الثمانينات في سوريا، مرحلة التغيير الكبري التي كانت مرحلة واعدة، ثم أجهضت ودخلنا بعدها في النظام السلطوي المغلق الذي أوصلنا إلي المأزق حيث نحن الآن. بغياب عمر تخسر الديمقراطية في سوريا رمزاً مهماً، وبغيابه نخسر نحن أصدقاءه إنساناً مهماً، وصديقاً مهماً ومثقفاً مهماً، وتخسر السينما العربية واحداً من الناس، الذين صنعوا سينما للناس، ليس بتقديم تنازلات لهم وإنما بكشف حقيقة حياتهم ووجودهم، ووضع اليد علي نقاط الضعف فيها، ومحاولة مساعدتهم كي يخرجوا من الورطة التاريخية التي يعيشون فيها... عمر أميرلاي غاب. لقد غاب رجل شديد الأهمية، رجل سنتذكره علي الدوام. مشروع فنان لم يكتمل! مدير التصوير حنا ورد:أهم ميزة نستطيع أن نقولها عن عمر استقلاليته وموضوعيته. أنا أعتبر تجربتي معه في الجانب المهني والإنساني من أهم التجارب، مرت بلحظات جميلة جداً، ومرت بلحظات أخري دخل فيها البعض علي الخط، ولكن أنا أتفهم أنه في خضم العمل الإبداعي لا بد من حالة مد وجزر في كل علاقة. بدأت علاقتي مع عمر أميرلاي حين قمت بتصوير فيلم معه في نهاية الثمانينات في اليمن بعنوان: (سيدة شبام) يرصد حياة امرأة أجنبية تعيش هناك... ثم فيلم آخر عن صيد القرش بالطرق البدائية ومعاناة الإنسان في صراعه المرير من أجل لقمة العيش... ثم ذهبت وإياه إلي الباكستان مطلع التسعينات حين أنجز فيلماً عن بينظير بوتو، وعندما رفضت بوتو التعاون، أصبح الفيلم عن بينظير بوتو لكن في غيابها. وكانت المفاجأة أنه عندما انتهي الفيلم وشاهدته، أعجبت به إعجاباً شديداً، وقررت الموافقة علي تصوير مقابلة للفيلم، لكن عمر أميرلاي - وكان ذلك مفاجئاً واستثنائياً- رفض عمر تغيير أي شيء في الفيلم، وكان أقصي ما قبل به أنه وضع مقابلتها في نهاية الفيلم.. كان هذا موقفاً جريئاً لم يتخذه أحد سوي عمر أميرلاي الذي لم يكن يصنع أفلاماً لتمجيد أشخاص، ولهذا لم يكن يهتم لكبير أو صغير عندما يصنع فيلماً برؤاه وقناعاته متحدياً كل المعوقات التي توضع في طريقه. لم أعمل مع عمر كمصور فقط، بل كنت مستعداً للتعاون معه علي الدوام، لذلك صممت له إضاءة الفيلم الذي أنجزه عن الفنان السوري فاتح المدرس، والذي أحب أن يصوره مع مصورة فرنسية، لكن تجربتي الأهم معه كانت في الفيلم الذي أنجزه عن الراحل رفيق الحريري (الرجل ذو النعل الذهبي) فقد ذهب عمر إلي الفيلم وهو مملوء بالقناعات والأفكار المسبقة عما كان يقال عن الحريري من آراء سلبية في معظمها، فهو رجل أعمال غني، حليف السعودية، دخل السياسة من باب تحالف المال مع السلطة... وكانت هذه قناعاتي أيضاً، لكن الحريري لم يخف علينا شيئاً، وكان يتصرف بعفوية آسرة، وقد وصل العمل إلي مرحلة تحول حاسمة في الرؤية أثناء التصوير، كنا نضع الكاميرا في الممر ونصور بعض اللقطات... وفجأة خرج الحريري وقال له: (تعال يا عمر.. إذا كنت رجلا غنياً فهل يعني هذا أنني إنسان سيء وعدو للشعب؟!) ثم أدار حواراً عفوياً وجريئا غير محضر مسبقاً، ووضعت أنا الكاميرا وراء كتف عمر وبدأت أصور، واحتدم النقاش ومالت كفته لصالح الحريري... لكن عمر وضع المقابلة بكل أمانة، لم يحذف منها شيئاً، وقرر التراجع عن قناعاته المسبقة، ذاهباً لبناء قناعات جديدة ولدت من رحم الحوار الجريء جداً، والصريح جداً. وقد عاش عمر صراعاً مع نفسه: كيف يهاجم هذا الشخص الذي لم أستطع أن أمسك دلائل إدانة ضده علي النحو الذي كان يتصوره؟! لقد كان عمر أميناً مع نفسه ومع الآخرين... وجريئاً في كسر الأفكار النمطية والقناعات المسبقة، لأنه كان يريد أن يذهب إلي واقع الأشياء وحقيقتها. رغم كل ذلك أقول، وبعد كل تلك المسيرة من الأفلام التسجيلية العظيمة، إن عمر أميرلاي مشروع فنان لم يكتمل. يظن الناس أن حصل علي كل شيء وأنه كان مدللاً، هو لم يحصل علي ما يستحق، نحن حصلنا منه علي أعمال تثري حياتنا، عمر كان مشروع مخرج روائي مهما، وكان يتعامل بالصورة في أفلامه الوثائقية بشكل أرقي وأهم من كثير من المخرجين الروائيين السوريين، وقد دخل في موضوعات شائكة منها ما لم يتحقق كالفيلم الذي كان يود إنجازه عن القرامطة، ومنها ما تحقق بعضه كفيلم (أسمهان) الذي كان أول من فكر فيه. هل كان خطأه أن دخل في موضوعات شائكة لا يمكن أن تري النور، هل كان خطأه أنه كان سابقاً لعصره... لا أدري لكن حياة عمر وإبداعه درس لنا كسينمائيين: ليس لنا إلا بعضنا فلنتكاتف من أجل ألا تموت مشاريعنا الكبيرة في خضم خلافات ومعارك سخيفة، ولنتكاتف كي لا نقتل قبل أن نحقق أحلامنا... كما قتلت الكثير من أحلام عمر الكبيرة والعظيمة!