الفنون كافة هي المرآة التي تعكس أحوال الأمم، والفنون التشكيلية واحدة من أهم الفنون التي تعمل علي التعبير عما يصير في الحياة السياسية، فقد شهدت حركة الفن التشكيلي في الستينات فترة ازدهار حتي قال عنها النقاد مرحلة العصر الذهبي للفن التشكيلي، والمقصود بهذه الفترة هو فترة "مابعد ثورة يوليو"، لكنني في الحقيقة أري أن الفن وعلاقته بالحياة السياسية لم يزدهر في أعقاب ثورة يوليو فقط بل إنه بدأ منذ ثورة 1919عندما اكتتب الشعب المصري كله في تمثال نهضة مصر للمثال العظيم محمود مختار ليزاح عنه الستار رسميا في 20 مايو 1928، حيث جاءت فكرة نحت تمثال ليمثل "نهضة مصر" في تلك الفترة السياسية المهمة من تاريخ مصر إلي الفنان محمود مختار في عام 1917 . فبدأ خلال 1918- 1919 في نحت تمثال كبير يبلغ حجمه نصف حجم التمثال الحالي وعندما أكمله عرضه في عام 1920 في معرض الفنون الجميلة السنوي في باريس ونال إعجاب المحكمين والرواد من المهتمين بفن النحت. وحدث أن ذهب سعد زغلول ورفاقه من رجال حزب الوفد إلي فرنسا وتحديداً باريس لأول مرة ، قاموا بزيارة معرض الفنون الجميلة وشاهدوا التمثال المصري وأعجبوا به وكتبوا إلي مصر يشجعون علي إقامته في القاهرة، ووافق مجلس الوزراء في 25 يونية 1920 . كما أسهم الشعب المصري في اكتتاب عام لإقامته ثم أكملت الحكومة النفقات ، وفي 20 مايو عام 1928 أقيمت حفلة كبري في ميدان باب الحديد - (رمسيس حاليا) لإزاحة الستار عن التمثال . ثم نقل التمثال من مكانه الأول إلي ميدان جامعة القاهرة في عام 1955 . ونلمح نفس الحس الملحمي عند الفنان محمد ناجي الذي بدأه أيضا في عام 1919 وبنفس العنوان أيضا "نهضة مصر "، وهو العمل الذي جمع فيه رموز الأمة أمثال ابن رشد ومصطفي عبدالرازق ولطفي السيد ومحمود سعيد وهدي شعراوي وغيرهم . ومن عباءة هذا الجيل أيضا خرج جيل جديد من النحاتين والرسامين في الثلاثينات، ظل أمينا علي تقاليد أساتذته، متحفظا في اشتقاق أساليب جديدة أو فتح نوافذ واسعة علي حركة الفن العالمي الحديث، لكنهم- في المقابل- كرسوا طاقاتهم ومواهبهم الخصبة لتجويد مهاراتهم، هذا الجيل أطلق عليه جيل الوسط والذي ميزته كلاسيكيته، كما أكدوا ارتباطهم بالحركة الوطنية والفكرية من خلال تخليد بعض الزعماء والقادة والمفكرين بتماثيل نصفية مثل تماثيل عبد القادر رزق، وأخيرا أكدوا تواصلهم مع المجتمع من خلال الرسوم الصحفية للكتب والمجلات مثل رسوم حسين بيكار والحسين فوزي والإخراج الفني الجيد للمجلات والمطبوعات مثل إنجازات عبدالسلام الشريف. الجيل الثالث وعلي عكس جيل الوسط، جاء الجيل الثالث، منذ أوائل الأربعينات، متمردا علي الجيلين السابقين اللذين فقدا- في نظر أبناء هذا الجيل- روح الخلق والابتكار، ورأي هؤلاء الشباب الثوريون أن الفن ينبغي أن ينبع من داخل النفس بتفاعلاتها ومخزونها في العقل الباطن، وأن يرتبط في نفس الوقت بالتحولات الدرامية الهائلة التي تزلزل العالم الحرب العالمية قد اشتعل أوارها ووجدوا في المدرسة السريالية بأوروبا وأفكار "فرويد" وأشعار "أندريه بريتون" ، الإطار الذي يستوعب رؤاهم التعبيرية وأساليبهم التحررية، كما وجدوا أنهم لن يستطيعوا كفنانين شبان في العشرينات من أعمارهم في ذلك الوقت، أن يثبتوا وجودهم فرادي أمام فطاحل الحركة الفنية الذين يهيمنون علي مقدراتها، ابتداء من الأساليب الفنية حتي النظم السياسية، ولم يكن أمام أبناء الجيل الجديد إلا تكوين جماعات فنية مستقلة تضم شملهم وتكسبهم قوة أمام المجتمع عندما يواجهونه بصدمات معارضهم الجماعية. وكانت أول جماعة علي هذا الطريق هي " الفن والحرية" التي تأسست عام 1939 وأقامت معرضها الأول عام 1940 بزعامة ثلاثة من الفنانين الشبان هم: "رمسيس يونان وكامل التلمساني وفؤاد كامل"، ومع تزايد عددهم وتأثيرهم في الحركة الفنية والثقافية وانضمام كثير من الشعراء والمفكرين والموسيقيين إليهم وتصاعد نبرتهم الثورية المعادية للديكتاتورية والاستغلال والتخلف فأصبحوا مستهدفين من السلطات الحاكمة، وتعرضوا لمطاردة أجهزة الأمن وإغلاق صحيفتهم "التطور" ومصادرة كتبهم، حتي انفرط عقدهم في أواسط الأربعينات، لكنهم واصلوا إنتاجهم فيما بعد كأفراد، وقد نجحت حركتهم في إطلاق مواهب جديدة لعبقريات تألقت من خلال معارضهم مثل "إنجي أفلاطون ومنير كنعان وسامي علي حسن". وما لبثت أن ظهرت في الساحة جماعة أخري من الفنانين الشبان 1946 تحت اسم " جماعة الفن المعاصر" بقيادة حسين يوسف أمين، اتخذت أيضا من السريالية أسلوبا، ومن التراث الشعبي والرموز السحرية والأسطورية الكامنة في الوجدان الجمعي موضوعا ومنطلقا، ومن كشف أوجه القهر والتخلف مضمونا لأعمالهم، متطلعين إلي مجتمع جديد يحقق للإنسان إنسانيته وتقدمه.. وكان من فرسان هذه الجماعة: "عبدالهادي الجزار، حامد ندا، ماهر رائف، سمير رافع". وقد تطورت رؤاهم وأدواتهم مع الزمن واتخذوا مسارات شتي أثرت حركة الفن الحديث وساعدت علي ظهور اتجاهات جديدة لأجيال متعاقبة، ولعل أصداء هذه التجربة كانت من عوامل بزوغ جماعة ثالثة في أواخر الأربعينات هي "جماعة الفن الحديث"، تسلحت بموقف سياسي ينحو نحو التغيير الاجتماعي والثوري، وسعت إلي امتلاك أساليب جديدة أكثر تلاحما مع المجتمع بطبقاته الشعبية، فيما تزودت برؤي الفن الحديث في الغرب، مثل التعبيرية والرمزية والتكعيبية والتجريدية، وكان من بين فرسان هذه الجماعة: النحات جمال السجيني، والمصورون حامد عويس وسعد الخادم ويوسف سيده وعز الدين حمودة وزينب عبدالحميد وجاذبية سري، ولم تقتصر نزعات التجديد والتحرر لدي ذلك الجيل علي أصحاب الجماعات الفنية، بل انطلقت علي ضفافها مواهب أخري لا تقل ثورية ومقدرة وتأثيرا في الأجيال التالية، مثل:حامد عبد الله، تحية حليم، عفت ناجي، سيف وأدهم وانلي وغيرهم، ممن رفضوا السير علي الطرق المعبدة وآثروا أن يشقوا- مستقلين- طرقا جديدة، في مخاطرات إبداعية أثبتت وجودها بجدارة في المحافل الدولية. ما بين يوليو 52 ويونية 67 وبقيام ثورة 1952 تحرر الفنانون التشكيليون من وطأة الأساليب القديمة، ليتخذوا أساليب جديدة ومتنوعة تتميز بالتحرر، وذلك بحكم اختلاف نوعية المتلقي الجديد "إذ أصبحوا يتوجهون إليه" عن المتلقي السابق "الذي كان ينتمي إلي الطبقة الحاكمة الأرستقراطية"، فلجأ بعضهم في الاتجاه الفني إلي القرية المصرية، أو الفن المصري القديم، واتجه البعض الآخر إلي الفن الإسلامي، أو الفن الشعبي، وتتميز هذه الاتجاهات بكونها كانت تلتقي حول القضية التي طرحتها الثورة، وهي تدعيم بناء الشخصية الفنية المصرية القومية الطابع، ومن فناني تلك الفترة: تحية حليم، إنجي أفلاطون، حامد ندا، جمال السجيني، وغيرهم. لكن هل استمرت الفنون التشكيلية في مصر في حركة صعودها، أم أنها تأثرت بنكسة 1967م؟ يؤكد الفنان "عز الدين نجيب" في ورقة تقدم بها في ندوة عقدت تحت عنوان "مستقبل الفنون التشكيلية في مصر" في الفترة من 13-14 مارس 2007 بالمجلس الأعلي للثقافة، حيث قال عز: "إنه مع الهزيمة العسكرية كان هناك انهزام لمشروع النهضة المصرية، وانهزمت معه تجارب العديد من الفنانين الذين تألقوا في الستينات، كما أن نصر أكتوبر 1973م لم يحقق -علي أهميته- تأثيرا واسعا في مجال الفنون التشكيلية، فقد ابتلعت معاهدة "كامب ديفيد" هذا النصر، وباغتته سياسة الانفتاح، بالإضافة إلي المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي أثرت سلبا علي الروح المصرية". ونحن الآن في انتظار النتاج الفني لجيل ال"فيس بوك" بعد انطلاق انتفاضة الشباب في الخامس والعشرين من يناير، من علي صفحات الفيس بوك التي تعج بالفنانين في كل المجالات.