في ظل اتهامات موجهة إلي الإدارة الأمريكية بأنها باتت بلا حيلة في مواجهة التعنت الإسرائيلي، وأخري تتهمها بارتجاف دبلوماسيتها بعد تسرب وثائق ويكيليكس، يبدو ان الأمريكيين يحاولون نفي ذلك، عبر تكثيف اتصالاتهم من أجل استئناف مفاوضات السلام "الميتة" بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فبعد يوم من وصول المبعوث الأمريكي جورج ميتشل إلي المنطقة، وصل إلي إسرائيل، ليل الأربعاء الماضي، دينيس روس، كبير مستشاري الرئيس الأمريكي لاجراء مباحثات سرية مع قادة جهاز الأمن الإسرائيلي. وذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية ان روس وصل إلي المنطقة بتكليف من الرئيس باراك اوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون لفهم الاحتياجات الأمنية الإسرائيلية للمفاوضات علي التسوية الدائمة من خلال سلسلة لقاءات مع رئيس الاركان جابي اشكنازي، ورئيس المخابرات يوفال ديسكن وكبار رجالات الاستخبارات العسكرية "أمان". وأوضحت الصحيفة ان الطرفين حاولا الاتفاق علي الخطوط الحمراء لإسرائيل والبحث في الترتيبات الأمنية بعيدة المدي التي تريدها إسرائيل في أي اتفاق سلام مستقبلي، في اشارة إلي ان أي اتفاق قادم سيكون مفصلا حسب مقاييس إسرائيل فقط! وكان جورج ميتشل قد ذهب إلي إسرائيل في محاولة اخري لاستئناف المفاوضات، من اجل الوصول إلي اتفاق اطار لتسوية دائمة خلال سنة. ويعتقد البعض ان ثمة مهمة مقسمة بين ميتشل وروس، إذ يجري الاول مداولات في الموضوعات الجوهرية بين الرئيس الفلسطيني محمود عباس (ابو مازن) ورئيس الحكومة الإسرائيلي بنيامين نتنياهو واقتراح صيغ حل وسط، أما دور روس فهو معالجة الجوانب الأمنية للمفاوضات. ونقلت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عن نتنياهو قوله إنه تعهد امام ميتشل بمناقشة القضايا الجوهرية من خلال المفاوضات غير المباشرة التي ستجري معهم، بينما ذكرت ان نتنياهو يرفض اجراء مفاوضات مع الفلسطينيين حول قضايا الحدود والمستوطنات، وكذلك وضع مدينة القدس، قبل الاتفاق علي الترتيبات الأمنية. غضب أمريكي وتلي هذه المحادثات السرية تعبير عما يمكن تسميته بأنه غضب أمريكي من الحرج العالمي الذي لحق بواشنطن بسبب جمود عملية السلام، وهو ما عبرت عنه وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في خطابها في منتدي "سبان" بواشنطن، نهاية الاسبوع الماضي، حين استعرضت الوضع الحالي لمسيرة السلام الفلسطينية الإسرائيلية، علي خلفية فشل جهود الادارة لتجديد الاتصالات المباشرة بين الطرفين علي أساس استعداد إسرائيل لاستمرار التجميد ثلاثة أشهر. واكدت هيلاري أن أهداف الادارة لا تقتصر علي تسوية مرحلية محدودة بين الطرفين، وانما تستهدف تسوية كاملة شاملة، تتضمن تفاهمات وترتيبات مع العالم العربي عامة. وأكدت أنه قد حان الوقت لبحث الموضوعات الجوهرية للصراع: الحدود والأمن، والمستوطنات والمياه واللاجئين والقدس. وحرصت كلينتون علي اظهار ان الولاياتالمتحدة لا تكتفي بتوجيه المديح لإسرائيل في فترة ولاية الرئيس أوباما، فأشارت إلي تعميق وتوسيع العلاقات الاستراتيجية - الأمنية بين الدولتين علي نحو لم يسبق له مثيل، مؤكدة أن الولاياتالمتحدة ستقف إلي جانب إسرائيل في مواجهة اي تهديد لها، لان العلاقات بين الدولتين "صلبة كالصخر لا يمكن زعزعتها". كما دعت إلي ادماج التسوية الإسرائيلية - الفلسطينية في اطار تسوية سلام اقليمية شاملة، ودعت دول المنطقة إلي ان تمنح مبادرة السلام العربية جانبا أكثر تحديدا واتساعا، في اشارة إلي توسيع علاقات التطبيع مع إسرائيل. وبعد ذلك انتقلت هيلاري كلينتون إلي الحديث عن الحاجة إلي تقديم مسيرة السلام، وأكدت أن تحقيق مطامح الفلسطينيين الشرعية ليس مصلحة للفلسطينيين فحسب، بل مصلحة لإسرائيل والولاياتالمتحدة أيضا. وقالت انه برغم ضرورة مباركة التهدئة الأمنية والنمو الاقتصادي في السلطة الفلسطينية، إلا أن ذلك لا يعد بديلا للتسوية السياسية، "ومن يعتقد خلاف هذا يعبر عن تصور خاطئ وخطر". واكدت التزام الولاياتالمتحدة بالعمل علي تحقيق حقوق الفلسطينيين الشرعية. وقالت كلينتون إن الولاياتالمتحدة ستدفع الطرفين أيضا إلي عرض مقترحاتهما ومواقفهما من القضايا الجوهرية بالتفصيل وبلا تأخير، وأن واشنطن ستقدم مقترحاتها للتقريب بين مواقف الطرفين. وتحدثت كلينتون عن قضية الحدود، بما اعتبره البعض رسالة إلي إسرائيل تقول ان الادارة تميل إلي قبول موقف الفلسطينيين الذي يري أنه ينبغي قبل كل شيء بحث قضية الحدود، لا ترتيبات الأمن كما تريد إسرائيل، حتي تكون هناك حدود واضحة متفق عليها بين الطرفين. واكدت ان المنطقة بين الاردن والبحر يجب أن تُقسم بين الطرفين بحيث يعلم كل واحد أين هي ارضه وحدوده. ومع ذلك اشارت وزيرة الخارجية الأمريكية إلي تفهم صريح لاحتياجات إسرائيل الأمنية علي خلفية التجارب الصعبة للانسحاب من قطاع غزة ولبنان. أكدت كلينتون ان قضية القدس صعبة وحساسة، "يجب علي الطرفين، لا سيما إسرائيل، أن يفهما انه توجد مصلحة في القدس، لا لهما فحسب، بل لمؤمنين كثيرين في العالم، يجب أن تؤخذ مصالحهم في الحسبان في اطار الاتفاق الذي سيصاغ في هذه القضية". الامر الذي اعتبره محللون اشارة إلي نية أمريكية لوضع ترتيب دولي لقضية القدس. خطة كلينتون سعت هيلاري كلينتون إلي التأكيد علي عدم صحة التقارير التي تحدثت عن يأس الأمريكيين، وإهمال قضية الشرق الاوسط، وعبرت كلماتها عن تصميم أمريكي علي حسم المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية في اسرع وقت ممكن، مع صياغة مواقف واضحة من القضايا الجوهرية، مع استنتاج بأن المحادثات المباشرة بين الطرفين في الظروف الراهنة لن تؤدي إلي نتائج عملية فورية باتجاه التسوية، وان الولاياتالمتحدة هي التي يجب عليها أن تتحمل مسئولية صياغة مواقف وإقناع الطرفين بتبنيها، الأمر الذي أثار مخاوف لدي الإسرائيليين من فرض الأمريكيين حلا علي إسرائيل علي أساس معايير "مخطط الزوجين كلينتون" - الرئيس ووزيرة الخارجية. مأزق نتنياهو أكد المحلل السياسي الإسرائيلي بن كسبيت أن نتنياهو في مأزق حقيقي، لان الأمريكيين يطالبونه باعلان مواقفه الحقيقية، مشيرا إلي ان رئيس الحكومة الإسرائيلية سيسقط من منصبه علي يد اليمين الإسرائيلي، اذا ما اعلن مواقفه التي يقولها للرئيس الأمريكي، بينما سينبذه العالم وستشطبه الإدارة الأمريكية اذا اعلن عن المواقف التي يقولها للمستوطنين. أضاف في مقال له بصحيفة يديعوت احرونوت: "وضعه الحالي في الادارة الأمريكية في غاية السوء، بعد شهر العسل القصير في الصيف. هيلاري كلينتون تقول عنه كلمات قاسية، في احاديث مغلقة. الثقة الهشة التي بدأت تنبت، تبددت ولم تعد. الأمريكيون فهموا بأنهم لن يحصلوا علي أي عصير من هذه الشجرة". واكد بن كسبيت ان كل ما يعني الأمريكيين الآن هو الكشف عن الوجه الحقيقي لنتنياهو، واجباره علي الاختيار، متوقعا ممارستهم ضغطا هائلا عليه، مشيرا إلي ان ابو مازن ورئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض حظيا بعدد لا يحصي من الثناء، في مواضيع مختلفة، في خطاب هيلاري كلينتون، بينما لم يذكر اسم نتنياهو تقريبا. بينما سادت حالة من الغضب بين الإسرائيليين بسبب مقال للكاتب اليهودي الأمريكي توماس فريدمان، الذي هاجم إسرائيل في مقال بصحيفة "نيويورك تايمز"، حتي ان البعض اتهمه بالجنون وبمعاداة السامية وانه ليس يهوديا من الاساس، وانه عميل للمخابرات الأمريكية "سي آي إيه"!. وكان فريدمان قد انتقد الانباء التي ترددت عن منح الولاياتالمتحدة حزمة من الامتيازات لإسرائيل مقابل الموافقة علي تجميد الاستيطان 3 اشهر فقط، وهو ما اعتبره فريدمان "رشوة" لا ينبغي تقديمها، مؤكدا ان الموقف الإسرائيلي يثبت انفصال قادة إسرائيل "والفلسطينيين ايضا" عن الواقع. وقال فريدمان كيف تكون نسبة البطالة بين الأمريكيين 10%، ويجلس الإسرائيليون والفلسطينيون بانتظار الهدايا والرشاوي الأمريكية، من اجل اقناعهم بفعل امر هو في مصلحتهم هم، وهو الاتفاق علي حل الدولتين؟! واضاف: "إن هذا عار عليهم وعلينا ايضا! فكيف نكون أكثر رغبة في السلام من الأطراف الأصليين أنفسهم؟!". ودعا الكاتب الأمريكي إلي ترك الإسرائيليين والفلسطينيين مع انفسهم كي يعانوا نتاج اعمالهم، وان يدركوا ان أمريكا اليوم لم تعد كما كانت في السابق، مطالبا قادة إسرائيل وفلسطين بأن يكتبوا 4 كلمات في محرك بحث "جوجل" علي شبكة الإنترنت، وهي "خفض ميزانية ومحطات اطفاء"، وسوف يكتشفون ان قائمة طويلة من المدن الأمريكية، مثل: فنيكس، سينسينتي، استون، واشنطون، جاكسونفيل، سكارأمنتو وفيلادلفيا، تم اجبارها علي خفض ميزانيات محطات الاطفاء لديها! وتابع فريدمان مقاله للتأكيد علي تدهور الاوضاع الاقتصادية للولايات المتحدة، بشكل لم يعد يسمح لها بدفع أي اموال لاي احد، وقال مخاطبا الإسرائيليين، إن الولاياتالمتحدة، التي دفعت لإسرائيل مليارات الدولارات علي مدي الخمسين عاما الاخيرة، ودافعت عنها في عدد لا يحصي من المحافل الدولية، تطلب منكم وقف البناء في المستوطنات لثلاثة اشهر فقط لتحريك عملية السلام، " ولم يكن ينبغي ان يكون الرد هو "مقابل كم؟"، وانما "نعم، سننفذ ما تطلبون، لان الولاياتالمتحدة هي الصديق الحقيقي الوحيد لإسرائيل في العالم". ولم يفت فريدمان ان يوجه انتقاده إلي أبومازن ايضا، قائلا: لقد عرض عليك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ايهود اولمرت اتفاق الدولتين الذي يتضمن القدسالشرقية، ولم توافق. والآن بدلا من ان تركض خلف اوباما لتخبره انك جاهز للمفاوضات في أي مكان وتحت أي شروط يضعها الرئيس الأمريكي، تأتي انت الآخر وتريد وضع شروط؟!". وتابع فريدمان حديثه إلي ابو مازن: "ساعطيك نصيحة مجانية: اذا كنت تتخيل ان الصين ستجلب لك ما تريده من إسرائيل علي اساس ان أمريكا ضعيفة الآن، فأنت مخطئ، لأني أعرف الصين جيدا، فسوف تبيعك مقابل سفينة مكدسة بمعدات عسكرية إسرائيلية"!. وادعي فريدمان أن نتنياهو لن يحقق السلام دون التصدي للمستوطنين، ولن يفعل ابو مازن أيضا دون أن يتصدي لحماس ومن سماهم بالمتطرفين في حركة فتح، وان لكليهما أغلبية صامتة ستعلن عن تأييدها لهما، فقط حين يتخذان الخطوات الصحيحة.