تلقي الغربة بظلالها علي الفنان المهاجر.. وهي ظلال كثيفة من الحنين والأشواق ووجع البعاد.. قد تصل أحيانا إلي حد الوحشة والاغتراب.. ولكن مع هذا تمثل حالة شعورية تمتزج بثقافة بصرية جديدة تتأكد بالوعي والتأمل في صياغاتها غير مسبوقة.. قد يخطو من خلالها الفنان من الخصوصية المحلية إلي العالمية. وهناك العديد من طيور الفن المهاجرة.. ممن غادروا الوطن وحققوا إنجازات تضاف إلي الإبداع المصري.. بدءًا من الراحلين حامد عبدالله وسمير رافع.. إلي آدم حنين وجورج البهجوري المقيم حاليا بين القاهرة وباريس.. ومدحت شفيق وجمال مليكة وعصام معروف وعبدالرازق عكاشة ووهيب نصار ويوسف ليمود وغيرهم. ويعد الفنان حمدي عطية المقيم بين مصر وأمريكا من طيورنا المهاجرة وهو يخطو بأعماله نحو العالمية.. وقد جاء معرضه بقاعة المسار بالزمالك «جماليات تجريد الفوتوغرافيا إعادة عرض» بمثابة إضافة إلي الفن المعاصر تنتمي لفنون ما بعد الحداثة. بين النحت والفيديو وأعمال عطية تمتد بتجارب عديدة ومتنوعة يستخدم فيها وسائط من الفيديو والخرائط التوضيحية والرسوم والنحت والتصوير. وهو في أعماله في فن الفيديو.. يبحث في الثقافات العالمية.. وخطاب الغرب الذي مازال محافظا علي نبرة التفوق والهيمنة والذي يسيطر علي الثقافات الغربية.. وهو ينقلنا أيضا من ثقافة إلي أخري.. من مناخ السياسة والاقتصاد إلي المناخ الديني كما في الثقافة العربية. يقول في حوار له مع زميل دراسته بالفنون الجميلة يوسف ليمود: صحيح أن الفيديو بدأ من حوالي نصف قرن وهو نصف عمر السينما تقريبا.. لكن التواجد الملموس لهذا الفن بدأ يتزايد في العشرين سنة الأخيرة.. وفي منتصف الستينات.. بدأ الفن التشكيلي يتعامل مع الصورة المتحركة كوسيلة للتعبير الفني وهنا يتعامل مع هذا الفيضان السينمائي التليفزيوني وألعاب الفيديو وبرامج المونتاج ومجالات الكمبيوتر وغيرها كمفردات لغوية من أجل استكشاف وترسيخ حساسية جديدة للتعبير الفني. وحمدي عطية فنان يرغب في فهم العالم الحديث.. هذا العالم الذي تكتنفه الفرقة وتسيطر عليه بؤر الصراع.. وهو يهدف إلي حلم جديد تتغير فيه صورة الإنسانية الممزقة.. وهو من هنا ومن خلال خبراته في الميديا يعيد تقديمها من جديد كوسيلة للإشارة والمعرفة.. وهو يتحدث بلغة شاعرية حول الحياة السياسية وقيم الحضارة الآن متمثلا المواد التي يستخدمها الباحث والصحفي واللغوي وحتي الجغرافي. ولا شك أن عمله المفاهيمي «خريطة العالم» يمثل نموذجا لما يهفو إليه من تغيير طقس الأشياء.. واختفاء أماكن وظهور أخري.. بلدان وقارات بل وتغيير خطوط الطول والعرض.. بمعني آخر الانتقال بالعالم إلي حالة أخري من خلال خريطة افتراضية متخيلة.. يتحقق فيها حلم البشرية بمجتمعات آمنة تختفي فيها كل صور العنف وأجهزة الغشم والجهالة من الأجهزة القمعية. الحرب والكوارث الطبيعية جاء معرض حمدي عطية بقاعة المسار إضافة لهذا التراكم الإنساني الذي تبثه أعماله.. وهو هنا يغني للإنسان في كل مكان.. الإنسان المحقون بالوجع البشري والمسكون بالدمار والانهيار.. والذي يعيش الخوف والفزع والاضطراب.. من ويلات الحرب وصراعات الحدود والاشتباكات الطائفية.. ليس هذا فقط، بل يعيش أيضا نوعا من الترقب والحذر وخوف آخر من غضب الطبيعة.. وتلك الأحداث الكارثية التي تقع فجأة.. تحول شاعرية الطبيعة وجمال الوجود الإنساني إلي حطام ودمار.. والنبض الذي يتدفق بالعمل والأمل إلي جثث هامدة. وأعماله هنا تعد بمثابة وثائق تعبيرية مصورة.. سجل فيها بإحساسه وهج الحرب في مختلف أنحاء العالم وصور الكوارث التي حدثت بفعل الزلازل والبراكين.. سجلها نقلا عن صور حقيقية تبثها وكالات الأنباء عبر وسائط من الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية.. وهي صور جاءت من خلال كاميرات ضخمة عملاقة لمحترفين من مصورين صحفيين ومحررين عسكريين يلاحقون الأحداث في أماكنها.. وقد اختارها من بين مئات الصور. وإذا كانت الصورة الفوتوغرافية قد استخدمت كوسيط في فنون ما بعد الحداثة بدءًا من فناني البوب مثلما نري نحن أندي دارول واستخدامه للصور بالصحف النصفية «التابلويد» مثل صور ماوتسي تونج وإليزابث تايلور ومارلين مونرو وإلفيس برسلي وجمال عبدالناصر.. وأيضا ما نراه في اتجاه آخر من صور الفنانة الإيرانية شيرين نشأت التي تمزج فيها بين نساء وطنها وتلك الكتابات والهمهمات الحروفية التي تنقلها إلي عالم آخر وآيحاءات جديدة تخرج علي عالمها الواقعي. فقد استخدم حمدي عطية الصور.. صور الحرب والكوارث كمجرد إشارات فقط وعلامات علي أحداث دامية.. مستخدما وسائط أخري جديدة بعيدا عن عين الكاميرا.. مستخدما الألوان والأحبار والكولاج ومستحدثا عالما آخر من الأطياف موازيا للكاميرا.. من الخطوط والمساحات والبقع والانفجارات اللونية.. مع الحروف أو العبارات النصية التي تصاحب الصورة بمثابة تعليق كما يفعل المصور الصحفي. درامية اللون وربما أراد عطية أن يقول: إذا كان للصورة الضوئية التي تنتمي للميديا الحديثة قدرة نافذة علي نقل الحدث بآفاقه الدرامية المؤلمة.. إلا أن للصورة الفنية سحرا آخر.. من خلال تلك الملاحم التي أبدعها وهي ملاحم تجريدية تخفق علي السطح التصويري.. وقد جسدت زلزال هايتي تلك الدولة الصغيرة علي البحر الكاريبي.. والذي راح ضحيته 200 ألف في يناير من عامنا الحالي وأطاح من بين ما أطاح القصر الرئاسي والسجن الرئيسي ومستشفي بالكامل.. كما جسد أحداث غزة وصور الانهيار والدمار واغتيال الإنسان لأخيه الإنسان في وقت انعدمت فيه الإنسانية.. وانتقل في أعماله ذات الجمال التجريدي الذي يموج بالأشلاء والانهيار والتصدع إلي باكستان.. حيث تنهار كل قيم الحب والإخاء وحتي صلات الدم. وقد جاءت أيقونة المعرض تلك اللوحة.. التي تسبح فيها حشود من المظلات في سماء زرقاء داكنة.. مع طائرة مروحية.. سماء مسكونة بالأبخرة الحمراء مع ثنائية من الأزرق والأسود الفاحم. وحمدي عطية يمزج في لوحاته بين الانفجارات اللونية التي تجسد الأبخرة والأدخنة وألسنة اللهب.. وبين تلك الخطوط الرفيعة التي تختزل الأبنية المعمارية في سطوح تأكيدا علي عمق الهشاشة وفداحة الانهيار. ووسط الدمار والاحتراق والخراب.. نطالع في بعض الأعمال ثمة حياة وبعض بشر.. يتحركون علي مسرح المأساة.. وكأنه يريد أن يقول: سوف تستمر الحياة رغم كل شيء.. وتمتد الأعمال من المشاهد البانورامية التي تحفل بدنيا من العناصر.. إلي نقطة مركزية وحيوية من مشهد كما يفعل المصور الصحفي. وألوان حمدي عطية يغلب عليها الأحمر الوردي والناري والكريم والرمادي والأسود.. والبيج والبنيات مع تلك الألوان التي توحي بالطابع العسكري مثل الزيتي والأخضر الداكن والزيتوني مع الكحلي. وهو حين يصور الانفجارات في لحظات الحرب أو الكوارث تخف كثافة الألوان إشارة إلي انبعاث الغازات والنيران والأدخنة.. وحين يصور الأشياء بعد هدوء العاصفة يجسد المشهد في كثافة لونية ثقيلة تعكس لرسوخ الدمار والخراب. وإذا كان الفنان قد جسد مناظر للمدن المنهارة وانفجارات البترول وبقايا حطام الزلازل.. إلا أنه قد بلغ ذروة كبيرة في التصوير يضاف إلي هذا العالم الساحر المؤلم.. من خلال تلك الصور الشخصية التي تجسد وجوها مبهمة غائمة بلا تفاصيل.. ولكن تحمل من الألم ودرامية المأساة ما يجعلها وثائق إدانة للبشرية وهي وجوه بعمائم خضراء وصفراء.. وأحيانا بقبعات أو عارية الرأس.. وأخري من الظهر..وكلها تمثل ما حدث وشاهد إثبات. وفي النهاية.. لقد أراد حمدي عطية أن يبعث برسالة إلي الإنسان في كل مكان.. في صورة شفرات تصويرية تدعو إلي الكف عن الحرب وأن يعيش العالم في سلام.. حتي تكون الطبيعة أكثر رفقا بنا وأكثر خجلا منا.