في يوم الأربعاء الموافق الثاني من شهر أكتوبر عام 1996، رحل عن دنيانا المخرج المصري محمد شبل عن عمر يناهز ال 47 عاماً، ويعد شبل واحداً من أكثر مخرجي الثمانينات تجديداً وتفرداً، إذ قدم فكراً وأسلوباً راقياً وغير تقليدي، منقلباً علي القوالب الجامدة التي اتسمت بها السينما المصرية في أغلب فترات تاريخها الطويل. وتعود علاقة محمد شبل بفن السينما إلي عام 1960 ولم يكن قد تجاوز الحادية عشرة عندما ظهر في مشهد عابر في فيلم «بين إيديك» ليوسف شاهين، بعدها اضطر للسفر مع والده السفير فؤاد شبل خارج مصر، وأثناء غيابه بالخارج درس الإخراج السينمائي بالولاياتالمتحدة وصنع فيلماً تسيجيلياً اسمه «يوم في حياة نيويورك». فانتازيا الرعب وعقب عودته إلي الوطن مباشرة شرع في تقديم فيلمه الأول «أنياب» عام 1981، وقد وضع فكرته علي ما يبدو وهو لا يزال في الولاياتالمتحدة إذ سيظهر من تحليل أفلامه عموماً مدي تأثره بالنموذج الأمريكي في الإخراج والمونتاج.. «الأحداث اللاهثة- القطع المفاجيء»، واختار لفيلمه عنواناً من كلمة واحدة هو «أنياب»، - لاحظ كذلك أسماء أفلامه التالية وعلاقتها بأساليب الدعاية الرشيقة في السينما الأمريكية-، واختار للتمثيل كلاً من علي الحجار ومني جبر وأحمد عدوية، وقام حسن الإمام بدور الراوي. وتدور قصة الفيلم في إطار فانتازيا غنائية عن شاب وزوجته في طريقهما لقضاء ليلة رأس السنة عند أصدقاء لهم، وتتعطل بهم السيارة في طريق منعزل خارج المدينة وحيث لا وسيلة للعودة وسط ليل عاصف وجو ممطر، لا يبدو انه سيتحسن فيضطر إلي اللجوء لقصر غامض كئيب بحثاً عن مأوي لكنهما ما ان يدخلاه حتي يتضح ان مالكه أحد أفراد عائلة دراكيولا مصاص الدماء، يخرج ليلاً من قبره متجولاً بحثاً عن ضحاياه التعساء الذين يملكون الدماء الكافية لاستمراره في الحياة والا تحول إلي روح هائمة، ويواجه الشابان رعبهما الخاص طوال إقامتهما الجبرية خلال الليل داخل القصر ممتزجاً بفزعهما العام في الواقع الذي أصبح مسيروه وواضعو قيمه ذوي مهن مختلفة فها هو السباك والطبيب وصاحب العقار وسائق التاكسي.. إلخ، فلا فرق بين وهم الرعب «دراكيولا» وبين شرور المستغلين في الحقيقة، إنه بالتأكيد ليس فيلماً عن خروج دراكيولا من قبره ليزيد اتباعه بل عن الشر الموجود والكامن في النفس البشرية والذي لا نراه مادامت لم تتوفر له الظروف للخروج. قدم شبل فيلمه بأسلوب سينمائي فريد يمزج الدراما بالغناء بالرعب ويستخدم كل أشكال الفنون بدءاً من الغناء والرقص والموسيقي «المتميزة» وانتهاء بالرسوم المتحركة في التعبير بشكل تجريبي، فائق الجودة يحمل الكثير من الاسقاطات الاجتماعية والسياسية، الأمر الذي جعل الرقابة في البداية تنظر إليه بعين الريبة. وإذا كنا قد اعتبرناه فيلماً عن الهموم الاجتماعية ومدي تأثيرها في تماسك نظامنا الأخلاقي فيمكن اعتباره أيضاً عملاً تشويقياً خالصاً بالدرجة نفسها فباستثناء بانوراما المقدمة والنهاية التي يقدم فيها، أبطال الفيلم وصور الانتهازية داخل المجتمع، سنجد أنفسنا أمام فيلم رعب غريب المذاق، فالحبكة المشوقة موجودة والغموض علي أشده والأبطال عند محمد شبل دائماً واقعون تحت ضغط عصبي بالأساس من البداية للنهاية، والفيلم يحفل بالرموز السينمائية المعتادة في نوعية أفلام الرعب كالمنزل المنعزل الذي يملكه شخص غريب الأطوار «هل يوحي بفيلم سايكو» وكذلك الأبطال المحاصرين داخل مكان بواسطة شرير ولا طريق للخلاص، قبل أن ينقض عليهم الشر بشكل مفاجيء، داخل منزل ربما لو زاروه نهاراً لقتلهم الملل والضيق «قصر الرعب 1963 لروجر كورمان». لقد وضع محمد شبل في هذا الفيلم الأصول والأنماط التي سينتهجها بإخلاص في أعماله التالية فالبطل دوماً عنده إنسان مسالم يرغب في أن يترك وشأنه يوضع غالباً بسبب ظرف طارئ تحت ضغط خصم لايرحم ويزداد الضغط مع ذروة الفيلم. ولعل الجائزة المعنوية التي نالها والتي منحتها له جمعية نقاد السينما المصريين قد خففت قليلاً من حدة الفشل الجماهيري، ولكن هذا الفشل سيعلم محمد شبل درساً هائلاً «كما سيأتي فيما بعد» إذ يتذكر الجميع المخرج سمير نوار صاحب فيلم «X علامة معناها الخطأ» 1980 ذلك الفيلم الذي أدي فشله إلي اعتزال مخرجه واكتئابه. القوي الخفية ظل محمد شبل عاطلاً عن العمل الروائي عدة سنوات حتي صنع فيلمه الثاني المثير «التعويذة» 1987 وقام بالأدوار محمود ياسين ويسرا وفؤاد خليل عن سيناريو للمخرج التقطه من خبر بالجريدة. وتدور القصة حول شخص غامض يلجأ إلي أعمال السحر لإفزاع عائلة مسالمة لاجبارها علي بيع وإخلاء المنزل لهدمه واستغلاله في مشروع تجاري فتصاب الزوجة بانهيار وتذهب للمستشفي حيث تقع لها أحداث دامية بينما يحاول الزوج دون جدي فيلجأ إلي الأم رمز الصمود والإيمان. اعتمد محمد شبل هنا علي ممثلين لهم شعبية جارفة علي النقيض من فيلمه الأول كما تخلي عن التجريب فألغي الراوي الذي كان عماد فيلمه الأول «والمستوحي في الواقع من فيلم بيتر ساسدي ابنة جاك السفاح 1971» واقترب من الواقع محققاً فيلم رعب من الطراز الأول مستمراً في تركيبته التقليدية «شخصان أو أكثر في مأزق ولا طريق للخلاص إلا مع النهاية وليس قبلها قط» كذلك القصة المشوقة المحسوبة بدقة والحافلة بالمفاجآت والقلق حيث القوي غير المرئية المطاردة للمسالمين رابضة ومهيمنة، ان الشخص الشرير الذي يسخر الشر الخفي للإيقاع بقاطني المنزل ماهو إلا شخص هش لا يملك قوة أسطورية لذلك لا يظهر في الواجهة بل عن طريق شر خفي مخطط فهو يستعين بعالم لا واقعي كي يشعل النيران في المنزل أو ليحطم الأثاث أو ليحدث هزة أرضية، ولا ينسي أحد مشهد القوي الشريرة وهي تغتصب الزوجة التي تجد نفسها عاجزة ضد هجوم غير مرئي انه فيلم غرائبي مخيف عن هواجس الإنسان تجاه إيمانه أو عدم إيمانه بقدرة الشعوذة علي إيقاع الضرر به، ويبدو محمد شبل في فيلم التعويذة كأي تلميذ نابغة يسير في البداية علي هدي أساتذة عظام ثم يتفوق عليهم ويسبقهم، وهو هنا يصنع أجمل وأجود أفلامه بلا جدال. عالم الغيبيات استكمالاً لحلقات الرعب قدم محمد شبل فيلمه الروائي الثالث «كابوس» 1989، من تمثيل يسرا وأحمد عبدالعزيز وشارك المخرج خيري بشارة في دور رجل العصابات وكتب سيناريو الفيلم محمد شبل كعادته. وتدور الحبكة حول صحفية شابة ينتابها كابوس مخيف يتكرر يومياً يتلخص في اختطافها وتعذيبها في قبو موحش وعندما تستيقظ كل مرة تجد ما يثبت أن ماحدث كان حقيقياً ولكن كيف؟ أهي هلوسة مخدرات دست لها عن قصد أم ماذا؟ ان الكابوس يستكمل أحداثه كلما نامت.. انها في النهاية لا تحل اللغز وتكاد تنزلق إلي الجنون. في كابوس يعيد محمد شبل صياغة قصة التعويذة بتنويعة أخري جديدة مستلهماً الشر الخبيث نفسه الذي يتسلل مفسداً حياة عائلة بسيطة والسيناريو هنا يسير علي غرار الفيلم الأمريكي «عيون شارلز ساندس 1972» عن الفتاة التي تري مشاهد مفزغة مماثلة لما رأته فتاة أخري قتل حبيبها أمام عينيها. وكابوس يفتتح بمشهد مقبض مثير كأغلب أفلام الرعب فالبطلة في البداية تتعرض لحادث غريب لا تجد له تفسيراً ان كابوساً يراودها عن عصبة من المجرمين تحبسها في قبو تحت الأرض وهذا الكابوس قد يهاجمها من قبل بل انه في كل مرة يزيد تفصيلاً فها هي تكبل بالحبال ويهم أحدهم باغتصابها ولكنها تدافع بكل قوتها حتي تستطيع إيقاظ نفسها فتفاجأ بآثارالحبال علي يديها وكدمات علي وجهها بل تجد رداء الرأس الذي كان يرتديه الرجل في يديها. وفي مرحلة متقدمة من الفيلم تكتشف ان زعيم العصبة في الكابوس كان صديقاً حميماً لوالدها في الواقع وكانت تحبه وهي صغيرة ولكنها تتذكر أيضاً انه أرغم والدها علي التنازل عن شيء ما، انها في الكابوس دائماً سجينة تري العصبة من ثقب الباب ولا تدري ماذا ينوون! ولأن نهاية الفيلم لاتحل اللغز فإن كابوس أصبح لغزاً في حد ذاته يشبه المتاهة، فهل هو هواجس للحياة المعاصرة أم أنها تراكمات تاريخية في العقل الباطن؟ لا أحد يدري! وربما يعود نجاحه إلي غرابته الواضحة أكثر مما يعود إلي الرعب. ويعد الفيلم من حيث التكنيك في المرتبة الثانية بعد التعويذة وأيضاً من حيث الاتقان والكمال فرغم أن شبل حافظ فيه علي تدفق السيناريو ونقلات المونتاج الحيوية إلا أن التعويذة كان أكثر أصالة وانطلاقاً وخيالاً وجموحاً. ونهاية الأفلام الثلاثة تعني أن الشر باق ومستمر بشكل أو بآخر وان القضاء علي رمز من رموزه لا يعني أننا استأصلناه. غرام وانتقام وإذا كنت قد أغفلت عمداً فيلمه الروائي الرابع والأخير «غرام وانتقام بالساطور» 1992، فبسبب أنه لم يأت بجديد بالنظر إلي أفلامه الثلاثة الأولي كما انه مأخوذ عن قصة حقيقية وكأنه اكتشف أخيراً ان الواقع أكثر رعباً من الخيال وان في الحياة من فحيح الشر ما يغني عن شرور الأفلام. لقد بدأ شبل فانتازيا ثم مرعباً ثم غرائبياً ثم واقعياً وترك روح الهاوي متحكمة به فترك لنا حصيلة قليلة الكم متخمة بالكيف، مقدماً لنا سينما نظيفة وجيدة فحتي العنف لم يكن صريحاً ولا دموياً، وبوفاته المفاجئة وضع أمامنا العديد من علامات الاستفهام حول تفسير أفلامه!!