التصريحات والمقالات المتبادلة بين المسلمين والأقباط، هذه الأيام، تعيدنا إلي الخلف حوالي مائة عام مضت، وتحديدا في عام 1908، في تلك الفترة اشتعلت الحرب الإعلامية بين المسلمين والأقباط إلي درجة غير مسبوقة، كما أنها لم تصل في أي مرحلة من مراحل التاريخ المصري إلي تلك الدرجة من السخونة، إلا في الوقت الحالي، وهو ما يخشي من توارد تداعيات خطيرة، قد يصعب السيطرة عليها . ومما يزيد في خطورة الموقف أن ثمة رجال دين، أو محسوبين علي التيار الديني ، قد دخلوا في خط المواجهة، وباتوا ينفخون في الأتون المستعر . شكوي التمييز في بدايات القرن العشرين، كان الأقباط يشكون من تمييز إخوانهم المسلمين عليهم في الوظائف، واتهموا الاحتلال الإنجليزي بأنه قضي علي احتكار الأقباط للوظائف المهمة في مصر، وأنه أي الاحتلال الإنجليزي أوجد احتكارا جديدا للمصريين للوظائف الحيوية في البلاد . لأجل هذا وفي عام 1897 تم تشكيل وفد يضم كلا من ويصا بقطر، وسرجيوس بطرس، وأندراوس بشارة، والدكتور إخنوخ فانوس، وتادرس شنودة . توجه هذا الوفد إلي مكتب مصطفي فهمي باشا رئيس الوزراء . كما كلفوا أحد المقربين من اللورد كرومر، المعتمد البريطاني في ذلك الوقت، لعرض شكواهم عليه، بالفعل طلب اللورد كرومر مقابلة الوفد القبطي، وانحصرت طلباتهم في المساواة في الوظائف الإدارية، وتعطيل جلسات المحاكم يوم الأحد، وتعيين عضو قبطي ثالث في مجلس الشوري، وعضو في لجنة المراقبة القضائية، وتعليم الدين المسيحي للتلاميذ الأقباط في المدارس الحكومية . قام اللورد كرومر بالاستجابة الي مطلبين علي الفور: الأول تعيين نخلة الباراتي عضوا ثالثا في مجلس الشوري وواصف سميكة بلجنة المراقبة القضائية، والثاني هو تعطيل جلسات المحاكم يوم الأحد، أما باقي المطالب فقد طلب إمهاله بعض الوقت . نجاح لجنة الأقباط في مسعاها لدي المسئولين دفع إسماعيل أباظة باشا وهو من المطالبين بالإصلاح الدستوري، لكتابة مقال في جريدة الأهالي في يونية 1897تهكم فيه علي الأقباط، مما دفع باخنوخ يوسف إلي الرد علي أباظة باشا بمقالتين في نفس الشهر. في عام 1908 أسس أخنوخ فانوس "الحزب المصري"، وهو الحزب الذي طالب بضرورة وجود حياة نيابية في مصر، مسايرة للمطالب المصرية العامة في ذلك الوقت، كما نادي بمشاركة الشعب في الحكم من خلال نواب منتخبين، وقد سعي هذا الحزب لحث السلطة علي تأسيس مجلسي النواب والشيوخ. وفي عام 1908أحيل حكمدار بوليس قبطي، بمديرية المنيا إلي وظيفة مفتش، وهو ما اعتبره الإخوة الأقباط ماسا بهم، وعلي ذلك، نشرت جريدة مصر المتحدثة باسم الأقباط خطابا مفتوحا إلي الخديو عباس الثاني بتاريخ 21 مايو 1908 أعيدت فيه مطالب الأقباط بشأن الوظائف العامة في الدولة . عريضة ونتيجة لما نشرته جريدة مصر في خطابها المفتوح الي الخديو عباس، تشكل وفد قبطي من : أخنوخ فانوس، وتادرس شنودة المنقبادي، وحبشي مفتاح، وكتبوا عريضة برسم الجناب العالي الخديو، ثم توجهوا الي الديوان الخديوي طالبين مقابلة سمو الخديو عباس، وتمت المقابلة في الإسكندرية، وسلموا الخديو مطالبهم ووعدهم بالنظر فيها . أما صحف الأحزاب المصرية، فقد قابلت مقال جريدة مصر بالمقالات النارية . ومن تلك الأحزاب «حزب الإصلاح علي المبادئ الدستورية» حيث تهكمت صحيفة «المؤيد» التي كان يملكها ويرأس تحريرها رئيس الحزب الشيخ علي يوسف علي مطالب الأقباط بتاريخ 28مايو 1908، وجاء فيها أن الأقباط يتمتعون بكل الحقوق الوطنية في الوظائف والأعمال، ولم ينقصهم إلا هذا الشئ التافه الذي يرونه الكل في الكل، ذلك الشئ هو وظيفة المدير، ولا ندري لماذا لا يأخذون حصتهم من هذة الوظيفة . أما جريدة «اللواء» المتحدثة باسم الحزب الوطني الذي يرأسه مصطفي كامل باشا فلم تعترض علي مطالب الأقباط بتعيين المستحقين للوظائف الحكومية من المصريين ذوي الكفاءة دون تمييز بين طائفة وأخري ودون تمييز بين دين ودين . أما صحيفة الجريدة وهي المتحدثة بلسان حزب الأمة وكان يرأس تحريرها أحمد لطفي السيد فقد جاء فيها أنها تؤيد التسوية بين المسلمين والأقباط وأن كل مصري له حق المساواة دون تمييز . غير أن مقال الشيخ عبد العزيز جاويش الذي نشرته جريدة اللواء في يونيو 1908والذي كان يضم وقتها مصطفي كامل ومحمد فريد، وكان بعنوان " الإسلام غريب في دياره "، كله هجوم علي الأقباط . وقد أثار مقال صحيفة اللواء مشاعر الأقباط، وانهالت العرائض والشكاوي والبلاغات علي مكاتب النيابة العامة، تطلب محاكمة الشيخ جاويش، وكانت النيابة تحيل تلك العرائض والشكاوي الي وزارة الحقانية (العدل) لأنها اعتبرت أن تلك المقالات شأنا سياسيا، وليست مسائل شخصية . بعد مقال عبد العزيز بشهور قليلة وفي نوفمبر 1908 استقالت وزارة مصطفي فهمي، وجاء بطرس غالي رئيسا للوزراء، فهدأت مطالبات الأقباط قليلا . وفي عام 1909 عرضت حكومة بطرس غالي علي مجلس شوري القوانين مشروعا يقضي بإنشاء مدارس لمعلمات الكتاتيب، وفي هذا القانون نص صريح بأن تكون طالبات المدرسة عارفات بأصول الديانة الإسلامية، وأن يجري لهن امتحان قبل قبولهن في المدرسة . وعند عرض القانون علي المجلس لمناقشته اعترض مرقص سميكة، وطالب بأن تكون تلك المدارس عامة للمسلمات والقبطيات علي السواء، كان وزير المعارف وقتها سعد زغلول، قبل أن يصبح زعيما وطنيا لكل المصريين، فأجاب علي العضو سميكة بان تلك المدارس قد أنشئت في الوقت للمسلمات، وأنه سيتم في القريب العاجل إنشاء مدراس معلمات للمسيحيات . بالطبع لم يرض الأقباط بما قاله سعد زغلول، وأضافوا الي مطالبهم من الدولة بندا جديدا، وهو وجوب انتفاع الأٌقباط بأموال الدولة في تعليمهم الخاص تماما كإخوانهم المسلمين في معاهدهم وما شابهها . وفي يونيو عام 1909 عرضت نفس الحكومة علي مجلس شوري القوانين مشروع قانون مجالس المديريات، اقترح العضو مرقص سميكة إضافة مادتين جديدتين الي مشروع القانون هما : ضرورة تمثيل الأقٌباط في مجالس المديريات، وصرف جزء من الأموال الأميرية علي المدارس القبطية . غير أن المجلس رفض . الأمر الذي أهاج الأقباط، وطلب منه أحدهم أن يعترض علي مشروع القانون، فأجابهم سميكة بأنه ليس منتخبا منهم حتي أفعل ما تقولون، ولكن أنا معين من قبل الحكومة، وأنه ليس بإمكاني أن أتحدث بأكثر ما قلت . الحركة القبطية في ذلك الوقت كانت في ازدياد مستمر . وكان جمهور المصريين يستقبل مطالباتهم بنوع من الرقي والتحضر، ورغم المساجلات الكلامية في المقالات إلا أنها لم تخرج عن حدود المألوف، كما أن رجال الدين المسلمين كانوا صامتين، ولم يتكلم أحد منهم . أما الحكومة، وكان رئيسها قبطيا . والذي كان من رأيه أنه لا يمكنه الحديث في مطالب الأٌقباط، ربما كان يجد حرجا وهو قبطي رئيس الحكومة أن تطرح المسألة عليه، وتجنب الرجل تماما تلك المناقشات العنصرية . وحدثت بعدها تطورات خطيرة . منها اغتيال بطرس غالي رئيس الوزراء علي يد متحمس مسلم، ثم فكر الأقباط في عقد مؤتمر ديني لأول مرة، وهو ما عرف بالمؤتمر القبطي في فبراير 1911 . وله حديث آخر . حرب كلامية ومما لاشك فيه أننا الآن أمام نفس الوقائع ونفس المناقشات مع الفوارق الآتية : - أنه منذ قرن من الزمان كانت تلك المناقشات والمطالبات تخرج بطريقة مشروعة ومنظمة، وأقول إنها أكثر حضارية ورقيا مما يحدث الآن . فالأقباط حصروا مطالبهم أمام القنوات الشرعية، وهي رئيس الوزراء، ثم خديو البلاد، ثم المندوب السامي البريطاني .أقول إن مطالباتهم اتخذت الطريق الشرعي، خلاف ما يحدث الآن من اللجوء الي دور العبادة والتظاهر أمامها . - أن الحرب الكلامية علي صفحات الصحف كانت محصورة بين المثقفين فقط من أبناء الشعب المصري، وكانت حواراتهم حضارية، ليس فيها غمز في الديانات، ولا الكتب السماوية، ولم يتدخل أي من رجال الدين من الطرفين، ولم يحدث ما يحدث الآن من فوضي الأحاديث، أما الآن فقد دخل بعض رجال الدين في الخط، وبعضهم تحكمه مواقف سياسية سابقة من الدولة، فلا يوجد ما يمنعهم من إهالة التراب عليها . - ثمة أمور حديثة جاءت الآن لتزيد الاشتعال، وهي الفضائيات والانترنت . فالفضائيات أكثر انتشارا، وتصل الي الكافة، في البيوت والمقاهي، للمثقفين والغوغاء، المتعصبين والمتسامحين، القنوات الفضائية الدينية أججت المواقف، وأصبحت أخبار الفتن والنزاعات الطائفية تصل الي الناس في بيوتهم، وهم جالسون . - أما الانترنت، فهو وسيلة الشباب للتعبير عن أنفسهم، وهم متحمسون، لا يبصرون العواقب، مندفعون وراء أفكارهم، ويستخدمون كل ما هو متاح لديهم من التشهير والتحقير والازدراء، دون دراية بالعواقب، وفضلا عن هذا فلا رقابة علي الأنترنت، وكل من يكتب ينشر ما يكتبه . الأمر يحتاج الي تدخل العقلاء من المثقفين من الطرفين، أقول المثقفين لا السياسيين، ربما لأن السياسيين يهمهم في المقام أصوات الناخبين، ولا من سبق له أن أبدي رأيا منحازا في تلك الأزمة . أن يجتمع هؤلاء المثقفون، ويقرروا علاجا ناجعا، وأن تلتزم الحكومة بتلك التوصيات وعرضها علي المجالس النيابية . ضرورة إعلاء شأن الوطن، وأن تضع الدولة من التشريعات ما من شأنه إعلاء شأن الوطن والمواطنة . وضرورة تجريم بث الأفكار الهدامة، ومحاسبة من يدلي باتهامات دون دليل، خصوصا ما يخص الأديان . أن يصدر كل من الرجلين الفاضلين والحكيمين، فضيلة شيخ الأزهر وقداسة بطريرك الأقباط قرارا كل لأتباعه بعدم الرد علي ما يثار، وأن يلتزموا الحكمة والروية . أن تضع لجنة العقلاء في اعتبارها أن مسألة الحرية الدينية لم تعد مسألة ثقافية أو مصطلحا قانونيا يثار في منتديات القانون وحقوق الإنسان، ولكنها مسألة دينية ومنصوص عليها في جميع الكتب المقدسة .