ارتبكت - أمي - أثناء نشرها الغسيل، فقد تعودت علي أصول وقواعد لنشر الغسيل، حيث تأتي بالبيضات الرجالي ( الفانلة واللباس) وتضعهم في المقدمة، أي في أول حبل كي يدل علي مدي رجولة وفحولة أهل الدار ومدي سطوتهم وسيطرتهم، يلي بعد ذلك الجلباب والبيجامات والقمصان - الرجالي أيضا - من كبير الأسرة حتي المفعوص الصغير، ثم يأتي بعد ذلك ملابس الحريم سواء العادية أو الداخلية - وهي التي تنشر في الحبال الداخلية أي التي من الصعب رؤية ما بها، حيث الملابس الحريمي وملابسهن الداخلية والتي تعتبر عورة وفضيحة أن يراها أي أحد. وسبب ارتباك أمي، هو المسلسل الجميل - أهل كايرو - والذي قلب حياتنا رأسا علي عقب، فلأول مرة منذ زمن بعيد، نشاهد مسلسل ناعم وهو يحمل كل هذه الخشونة، جارح وفاضح لدرجة الاستئصال وهو يحاول أن يداري وجه أهل كايرو بالماكياج الزاعق ورائحة البرفانات المزيفة. أعترف أن بلال فضل - قد نجح في هذا المسلسل الشيق والفاضح، وانه قد كتبه بمزاج، ومن قلبه، وقد وضع فيه كل خبرته ورؤيته منذ أن كان سكرتيرا لصحيفة الدستور حتي الآن، أي وضع فيه تجربته ومقابلاته بالكثير من البشر والكتّاب وأهل الرأي والفن والمال في هذا الوطن، انه فن مسك السيرة والنميمة عندما تصبح دراما حياة. ومع أن المسلسل يبدو بسيطا جداً، حيث يدور عن حادثة قتل فنانة شابة ليلة زفافها في احد الفنادق الكبري بالقاهرة، لكن هذا ما يظهر علي السطح فقط، أي أول حبال نشر الغسيل، حيث نري الملابس وقد أصابها التمزق والثقوب والرتق، يلوح بها الهواء كيف يشاء، ولنكتشف بعد عدد من الحلقات أننا - نحن - جميعنا معلق ومربوط بهذه الحبال ويتم التراقص بنا، وتبدأ الأسئلة، من يمسكها.. لا نعرف، من أتي بها.. لا نعرف، من يمسك أول الحبل ومن يمسك آخره: الله أعلم، فأهل كايرو جميعهم أصبحوا: متهمين وقضاة ومجني عليهم وشهودا. نماذج شخصيات أهل كايرو أهل كايرو: يقدم شخصية الفتاة (صافي سليم) والتي قامت بدورها الممثلة رانيا يوسف، تلك الشخصية التي صنعناها جميعا بأيدينا وربينها في حجرنا، ( كما نصنع ونربي الكارثة ) وهي الفتاة التي تشعر بجمالها وسط قبح وزحام وفقر الحارة المصرية، فجأة أصبحت ملكة جمال كلية الإعلام، وتكمل الحلم بالتمثيل، والاختلاط بأهل الفن بالمال، ولتتحول إلي الممثلة الوصولية التي تستغل أنوثتها في عمل علاقات مع الرجال حتي تصل إلي القمة، لتكون الدرة والجوهرة التي يهرول أو ( يرُيل) خلفها رجال المال والنفوذ، فهي تعشق أن تلقي في أحضان الحبيب، منذ حبيب الحارة حتي أغني رجل في العاصمة، وهي تقتنص ما تقتنصه، لأنها اعتقدت انها فهمت قواعد اللعبة، لا يوجد شيء اسمه فن في هذه البلد، يوجد مال فقط، ويجب الحصول عليه، وهي لا تمتلك غير الجسد - أقصد اللحم، والدين هنا يحلل، سواء زواج مسيار أو عرفي أو أي شيء آخر، المهم أن الجميع يقنع نفسه بما يفعله وشرعيته، فالحرامي يبرر السرقة بالاحتياج والجوع، والنصاب يريد أن يثبت كفاءته وذكاءه. وعلي الحبال الأخري (المُخلص) ضابط الشرطة: حسن، دور العمر (لخالد الصاوي)، شخصية رئيسية تتجسد فيه كل المتناقضات في نفس الوقت، أنه ينفجر من الداخل ولكنه يبدو متماسكاً وهادئا كي يصل للحقيقة، وهو يعلم انه يتعامل مع بشر متقلبي المزاج، يخافون عند ذكر كلمة حكومة، لا يتكلمون إلا من خلال الضرب والتعذيب، أو يكونون ( بجحين) وأصحاب نفوذ فلا يسمحون لك بلقائهم أو سؤالهم، وأصابه الضابط حسن برشح دائم وانسداد في التنفس له الكثير من الدلالة لدوره كمحقق يجب أن يدس انفه في كل شيء، وان يشم أي اثر كي يصل إلي الجاني في تلك الجريمة. إن الضابط حسن بأنفه المسدودة يتشمم غابة ممتلئة علي آخراها من لحوم البشر، وكمية العظم كبيرة واللحوم النتنة تفح منها العفونة، تلك القاهرة التي نراها في تقلبات أمزجة نماذج من البشر، كالصحفي ورئيس التحرير الداهية، والذي لعبة (احمد حلاوة)، فلا يهمه أي شيء غير الإعلان في الجريدة والتوزيع كي يرضي رئيس مجلس الإدارة، وفي احد الحوارات بينه وبين الصحفية داليا غنيم: تقول له إنها تعمل في ورشة وليس مؤسسة، هذا هو الفكر السائد، ويجاوره نموذج الصحفية ورئيسه قسم الحوادث- والذي قامت به الممثلة السورية : كاندي علوش، (وهو دور أعجبت به جدا ، فهي الجميلة الهادئة ،التي ما أن تظهر علي الشاشة حتي تشعر إنها حبيبتك التي فقدتها منذ لحظات)، والتي فهمت أن دورها هو السبق الصحفي ولكنها تريد أن تظهر الدور الإنساني لها، نعم هي المرادف الحقيقي - لبلال فضل نفسه - أثناء عمله كصحفي، وننتقل لدور (احمد وفيق) والذي يلعب هنا نموذج الحبيب الذي تركته حبيبته كي تصعد سلم الشهرة، وهو الذي لا يعمل أي شيء طوال أحداث المسلسل الا أن يهلل، فقط، تهليل المثقف المصري والذي لا يشعر به احد، لقد تركته حبيبته ولم تغامر معه وتشاركه أحلامه ( جميعنا مر بهذه التجربة الأليمة القاسية )، لذلك يظل مشهد الفراق مع حبيبته وهما جالسان علي حافة سور القلعة من المشاهد الخالدة في الذاكرة، كذلك دور الوزير الجبلي، قام ببطولته ( صبري عبد المنعم)، ذلك الوزير الذي يشعر دائماً انه مراقب مما يزيد من توتره وقلقه علي منصبه القيادي الحساس، وهو دور جعلنا نفكر كثيراً، هل هذا تعبير عن رجال السياسية في مناصبنا القيادية أو هذا حال رجال الحكم، وماذا يفعل رجل قلق ومتوتر مثل هذا الوزير أمام كارثة مرتبطة بمصير الناس، وهل كل همه الخوف علي مقعد الوزارة، وصورته أمام القيادة السياسية العليا؟ ن هذا المسلسل مليء بالرموز المباشرة والتي لو وضعت كل اسم لما يرادفه في الحقيقة لأصبحت متهما. مزاج أهل كايرو هذا هو الفكر المسيطر علي مزاج عقول في أهل كايرو، وهذه حالة كلاسيكية في حد ذاتها، لقد كان الجميع علي مستوي خرافي في الأداء من اكبر الأدوار حتي أصغر دور، شخصيات من لحم ودم، حقيقية لدرجة انك تري نفسك داخلها، لقد لعب بلال فضل علي حبل غاية في الصعوبة، حبل غسيل دائماً نخجل أن يظهر ما به من ملابس، ومنذ زمن كبير لم نر أنفسنا بهذا الوضوح، أن نتعري ونكتشف أن ملابسنا لم تعد تداري أي شيء بنا، بل لو إننا سرنا عراه سوف نصبح أكثر حرية وأكبر وضوحاً، ان جلباب أهل كايرو به الكثير من الرقع والثقوب، والتي لم يعد يصلح أي ثوب لهذه المدينة العظيمة، وكل ما نستطيع أن نفعله هو تمزيقه وإلقائه أو إحراقه حتي لا يستغله احد الأعداء المنتشرين علي قارعة العالم ويصنع منه (قطر) أي (عمل) لأهل القاهرة، ونأتي بثوب يكون علي مقاس أهل كايرو، يظهر جسمهم وملامحهم وبرأتهم ومفاتنهم التي شوهتها أموال وأفكار الغير. لكن الغريب والمدهش أن وسط هذا الجو من التشويق والحبال والمشاكل، استطاع - بلال فضل - أن ينسج من بين كل هذه الحبال (قصة حب)، افتقدناها كثيراً علي الشاشة المصرية، قصة الحب المعدم أو الحب في الوقت الضائع، بين الصحفية الجميلة: داليا غنيم، لمحارب قديم، الضابط: حسن، والذي شعر انه يهرول ويجري خلف القطار منذ ثلاثين عاماً وعندما اقترب منه، تحرك القطار بأقصي سرعة، وتركه وحيداً وسط الصحراء، إن الإحساس بالأمان يأتي بالحب، وهذا الذي لم توفره له الفلوس من زيجته السابقة بابنة المحافظ المتعالية المزيفة، انه لم يكن يصدق أن يقابل هذا الحب في تلك الرحلة وخلال هذا الجو. كلمات الأغنية الأغنية العبقرية التي كتبها ايمن بهجت قمر، تدل علي أن هذا الشاعر قد قرأ وفهم ما يدور في عقل بلال فضل، لذلك كتب أغنية واحدة - لتتر - المقدمة والنهاية، صريحة وفاضحة وناعمة، كلامات شعبية لحد الفجاجة ورومانسية لحد القبح: هنا حرامي قالوا عصامي عمالي للشرف محامي.. وفي الليل هات نفس يا سامي، ومع أن غناء حسين الجاسمي لم يكن موفقاً، بل الأفضل أن يكون الغناء بصوت ( ابو الليف ) علي الأقل لأنه يعبر عن المرحلة الحالية لأهل كايرو، فالكل مبطوح علي رأسه لكن لا احد يداري الجروح، أو يخجل منها، فلم يعد أحد من أهل كايرو يشعر بالعار أو الخزي لما يفعل، لان البديهيات قلبت، ولم يعد أحد يخشي شيئاً في هذه العاصمة، لقد أصبحت حياتنا سلطة ومحدش داري، والدكتور النفساني لن يصلح العقول والنفوس، كما أن مجبر الكسور لم يعد يستطيع أن يرمم كسور العظام والوجه. الإخراج ونأتي للمخرج: محمد علي، أنه يعرف معني مسلسل تشويق أو مسلسل بوليسي أسود، لقد اهتم بالتصوير المفصل والدقيق للعمليات الجنائية من تحقيق رجال الشرطة ومسرح الجريمة والمتهمين ومساكنهم، لذا يرتبط المسلسل من ناحية الشكل البصري بالكثير من سمات (الفيلم الأسود) خاصة من ناحية الإضاءة التي استغلت إلي حد كبير من خلال الصورة الغامقة ومن خلال الستائر المعدنية في إلقاء ظلال متعارضة علي خلفيته أو علي وجوه المتهمين، فلا يوجد فرق بين حجرة نوم أو مكتب الضابط أو زنزانة سجن أو مسرح جريمة أو قاعة الفرح أو مكتب رئيس تحرير، مما يؤكد الإحساس بالمصيدة التي يتخبط فيها بطل المسلسل، وهو هنا الضابط الباحث عن الجاني أو القاتل، كحيوان حبيس يحاول الخروج من جدران وطرق المدينة دون فائدة، أو الحبال الكثيرة التي يمسك بها والتي سرعان ما تتشابك وتصبح متاهة كبيرة، إنها مصيدة القدر أو المهنة وقد أطبقت بإحكام علي الشخصية أو الشخصيات الرئيسية، كما اعتمد المخرج - علي أسلوب الفلاش باك، (الرجوع إلي الماضي) وذلك من خلال سرد كل متهم لما حدث له وقت وقوع الجريمة (ونلاحظ أن الكثيرين كانوا في مسرح الجريمة أو بالقرب منه) أي أن الجميع كان في مكان الجريمة، وهي حيلة تقنية جيدة ومشوقة، للكشف عن الجوانب الخفية للأحداث، تساهم في توليد المزيد من التشويق والمفاجأة. التتر الأسطورة أن الختم الذي يبدأ وينتهي به المسلسل في كل حلقة يجعلنا نتساءل: هل هو ختم المرور أم ختم السلخانة، لأننا جميعنا مذبوحين، سواء بالسكين من أعناقنا، أو مطعونين في قلوبنا، الجميع جزار، والجميع الذبيحة، لأننا قد بلغنا مرتبة عالية لم تصل إليها أي مدينة في العالم من النفاق والكذب والفساد، مدينة غليظة القلب، لا ترحم. إن مسلسل أهل كايرو عبارة عن رحلة ادويسية خلابة، ينطلق فيها الضابط المحقق (حسن) والصحفية النشطة (داليا غنيم) للبحث عن الجاني أو عن الحقيقة، ليتضح أن الحقيقة أو الحق دائما يهتز في تلك المنطقة الساحرة المسحورة الملعونة، وأقصد مدينة القاهرة الساحرة الملعونة، حينما يتجول الحق بين العين والفم والقلب، يهتز ويسقط ويتحول إلي حقائق أخري، يمكنك أن تنتهي فيها إلي أن الواقعة - الجريمة - الأخيرة لم تكن هي الأولي، وأن المقتول ليس المقتول، وأن الصباح ليس الصباح، وأن القاتل بالتأكيد لم يعد هو القاتل، لنكتشف في نهاية الرحلة إننا جميعا جناه، وجميعا الضحية. إن الموت والحياة معا في كائن واحد، وهم: أهل كايرو، إنهم نبلاء مائة بالمائة، وضعفاء مائة بالمائة، وعند هذا الحد لن تفيد الكتابة كثيرا، حتي لو وصفنا المسلسل كله، فالإحساس بالتراجيديا يتغلغل في كل شيء، لذلك سوف يعيش هذا المسلسل كثيراً، وهو الأمر الذي يبدو صعبا علي - أمي - كي تتعود علي طريقه جديدة لنشر غسيلها، بعد رؤيتها لهذا المسلسل الجارح البديع.