جاءت مؤشرات الأيام الأولي من شهر المسلسلات مطابقة تقريبًا للتوقعات الكثيرة التي أحاطت بها.. صعدت أسماء وصمدت أسماء وتألقت أسماء أخري جديدة في ميادينها... تمثيلاً وإخراجًا وكتابة. لقد تحول شهر رمضان إلي مهرجان حقيقي للمسلسلات والبرامج التليفزيونية.. يراه أكبر عدد ممكن من المشاهدين.. والمتفرجين في غالبيتهم هم أعضاء لجنة التحكيم في هذا الخيار الشديد الصعوبة الذي يستحيل فيه أن تتوافق الأذواق كلها علي رأي. تحكيم الجمهور حتي جمهور السينما وهو أقل بكثير جدًا من جمهور التليفزيون يصعب عليه أحيانًا أن يتفق علي رأي حاسم.. في مجموعة الأفلام التي تعرض عليه. ولعل الخلافات التي تحدث بين الجمهور ولجان تحكيم المهرجانات واختلاف الأحكام والآراء والمقاييس خير شاهد علي ذلك وأنا لا أذكر طيلة أربعين عامًا أو يزيد ما شاهدته في المهرجانات السينمائية وتحكيمها إن رأيت نتيجة واحدة لهذه اللجان وافق علي مجموعها الجمهور والنقاد.. وإنما تشتد الخلافات.. ويتهم كل الآخر بأنه عاجز عن الوصول إلي (الحقيقة) التي تمكنه من الحكم الصحيح. هذا بالنسبة للسينما فما بالك بالتليفزيون الذي يجمع جمهورًا غفيرًا مكونًا من كل فئات المجتمع والذي يصبح فيه إبداء الرأي أشبه بالدخول إلي ساحة معركة لا حكم فيها ولا صفارة إنما أيادٍ تتقاتل وعقول تتصارع واراء تتباين أحيانًا حتي درجة التناقض. رأس الحربة منذ أن ابتدأت المسلسلات توالي في الأيام الأولي من الشهر الفضيل والأنوار كلها اتجهت إلي مسلسل واحد حاز علي انتباه الجميع وعلي إعجابهم وعلي قدرتهم علي أن يوضح بشكل لا لبس أن (الفن) هو المحك الحقيقي الذي نستطيع بواسطته الحكم علي الذوق الشعبي وعلي مواجهة الأحداث المهمة أو الجانبية التي تحيط بالأفراد والجماعات في بلد ما. هذا العام انتفضت الدراما المصرية انتفاضة قوية لتقف في وجه الهجوم المركز الذي قادته عليها منذ سنوات المسلسلات السورية وبعض المسلسلات التركية. دخلت مصر بجمعها وجميعها.. بفنانيها الكبار والصغار بكتابها الإعلاميين اللامعين والمبتدئين بنجومها المخضرمين والساعين إلي درب النجومية أي أنها شكلت جيشًا فنيًا جرارًا قررت أن تلتحم به بكل الجيوش الأخري المعادية التي تهددها. رأس الحربة في هذا الهجوم كله الذي أعتقد جازمًا أنه قد مكن لها النصر بالضربة القاضية وكان مسلسل (الجماعة) الذي يروي نشوء حركة الإخوان المسلمين وتطورها من خلال شخصية حسن البنا قائدها ومؤسسها. صعوبة الموضوع الموضوع بلا شك شديد الصعوبة ويتطلب من كاتبه شجاعة نادرة وجرأة غير مسبوقة لكي يقف في وجه كل هذه التيارات الشعبية والدينية التي تتعاظم يومًا بعد يوم وتميل إلي تشجيع هذه الحركة والوقوف إلي جانبها.. لأنها تشكل بالنسبة لهم الجبهة الوحيدة في المعارضة لنظام وصل إلي مرحلة الهرم.. وأصبح يحتاج أكثر من أي وقت آخر إلي تغيير فاصل وهواء جديد. وحيد حامد.. ربما كان هو الكاتب الوحيد بين كتابنا الكبار الذي يملك القلب الجسور والقدرة الفنية الفائقة، وقوة البناء الدرامي والنظرة في الحيادية إلي هذا الموضوع الناري الذي يهدد بالاشتعال في كل حلقة تمر من حلقاته. حيلة درامية وحيد حامد لجأ إلي حيلة درامية قديمة ليقدم فيها رؤيته عن هذا الموضوع إذا وضعنا بادئ الأمر مع الأحداث المعاصرة.. وما تفعله الجماعة المحظورة.. وقوتها وتنظيمها ووقوفها في وجه الدولة الشرعية وآراء رؤسائها والذين يوجهونها وموقف الشباب منها والاستجابة لها. إنه يضعنا منذ البداية أمام أسرة أرستقراطية مات عائلها ويتقلد الابن الأكبر فيها منصبًا حساسًا في أجهزة البوليس والمخابرات. تبدأ الأحداث عندما يأتي صديق العائلة القديم.. يرجو من ربة الأسرة السماح له بأخذ الشقة التي تستأجرها بثمن بخس منذ أكثر من خمسين عامًا والواقعة وسط البلد ولكي يتزوج بها ابنه.. الذي يجد صعوبة بالغة في الحصول علي شقة تأويه مع زوجته التي اختارها. وتوكل الأم الأمر إلي ابنها وهو كما يبدو منذ بداية الأحداث شابًا شهمًا يملك حسًا عاليًا من العدالة.. ويري أنه ليس من حقه الاحتفاظ بشقة مثل هذه بإيجاز زهيد كالذي يدفعه وهي ذات موقع متميز، الشبر فيه يباع بآلاف الجنيهات ولكنه مع ذلك لا يجد في نفسه القدرة علي الابتعاد عن مخزن الذكريات هذا الذي أودع فيه أجمل أيام ووقائع حياته والذي يمثل كل شبر فيه بالنسبة له كنزًا متدافقًا من الأحاسيس والرؤي والانفعالات والذكريات الصعبة عليه التخلي عنها مرة واحدة مهما كانت عدالة الأسباب وواقعية الطلب. لذلك يفكر في حل وسط يرضي جميع الأطراف ويعرض جزءًا من ثمن الشقة علي الشاب اللازم للزواج.. حل لا يحل الجرح القديم، في موضوع كهذا ولكنه يضع أمامنا سبلاً بسيطة لتحقيق شيء من العدالة.. في موضوع.. العدالة بأمس الحاجة إليه. وتتأزم الأمور عندما يقبض علي الآخ الأصغر لاشتراكه في المظاهرات التي دارت في صحن جامعة الأزهر.. واستعرضت فيها الجماعة المحظورة بشكل علني قوة تنظيماتها العسكرية والتدريب العسكري الشاق الذي يخضع له أفرادها ونهج الدين والساسية الذي تنتهجه هذه الجماعات وتنشره بين الشباب علي أنه هو الحل الأمثل لإصلاح البلاء وإعادة الحلم إلي موقعه من القلب. خيوط الماضي كما نري بناء درامي متقد يربط وحيد حامد بين ما يحدث وحاجته إلي استبانة الأمور من خلال أحداث الماضي وهكذا يذهب إلي استشارة هو صديق قديم للعائلة ليسأله المشورة.. وبادر هذا يربط خيط الماضي بخيوط الحاضر الخفية راويا له مسيرة (حسن البنا) رائد هذه الحركة وأبوها الروحي الدراما متقنة إلي حد بعيد وكما تقول الأمثال الشعبية (ما يخر منها الماء) والشخصيات المرسومة تضج بالحياة والفكر..غارقة في قلب الواقع المصري الحالي ممسكة بخيوطه المعقدة وملقية نورًا وهاجا علي حاضره وخلفياته. لتصورلنا بأسلوب (نوراني) وهذا هو الوصف الوحيد الذي يمكن إطلاقه علي المرحلة التي كتبها وحيد حامد وتمثل طفولة الشيخ حسن الأولي.. وبدء اهتماماته الدينية وبدء تشكل وعيه القوي ونظرته النافذة المستقبلية إلي ما يمكن حدوثه وما نستطيع أن نفجره.. في هذا المشهد المترامي الذي يحتاج أكثر من أي يوم مضي إلي استعادة الحلم الذي بدأ جبارًا في الخمسينات ثم تداعي وترهل وتحطم أشلاء بعد هزيمة 67. لا أريد أن أمتدح ما دار ويدور في هذه الحلقات الأولي التي اعتبرها دون شك أجمل وأرقي وأعمق ما وصلت إليه الكتابة الدرامية في العشر سنوات الأخيرة لقد خرج وحيد حامد منها نسرًا ملكيًا.. فرد جناحيه الهائلين.. علي سماء الدراما المصرية كلها توهجا وألقًا وموهبة. النص الدرامي ولا شك ورغم أن النص الدرامي في مثل هذا الموضوع الشائك هو البطل الأول بلا منازع.. وما أثبته وحيد حامد بذكائه وحياديته وموهبته علي أنه قادر علي أن يكون هذا البطل.. وقفت مجموعة فنية مدهشة إلي جانبه ساعدت في إعطاء هذه الماسة النادرة وهجها الكبير، محمد ياسين مخرجًا بقوة استثنائية وسيطرة كاملة علي أدواته تجعله واحدًا من كبار مخرجينا بلا منازع. وتصوير وموسيقي تتسلل إلي خلايا الجسد تثير فيه الرعشة والنشوة وتدعوه مرة أخري إلي الإيمان كان أن يكفر به.. لشدة الابتذال والنمطية والعشوائية والتكرار التي سادت عروضه الأخيرة. ومجموعة من الممثلين.. تفوقت علي نفسها وكأنها تولد أمامنا ولادة أخري حسن الرداد ويسرا اللوزي وعزت العلايلي وسواهم الذين أود أن أذكرهم واحدًا واحدًا وأخص بالذكر منهم هذا الشاب المتألق ذو الوجه النوراني الذي لعب دور حسن البنا وهو إياد نصار الذي انطلق كالصاروخ وسماء امتلأت أخيرًا بظلمة راكدة وأتي هذا التيار من النور ليكسر ظلمتها. الحديث يطول.. ولابد أن يطول كثيرًا حول الجماعة، فمازلنا في أيامنا الأولي.. ولكن في هذا السباق الشرس انطلقت (الجماعة) كالحصان الأسود الجامح.. متجاوزة كل الخيول التي وراءها حاملة فارسًا يملك ناصية القلب والعقل معا.. رافعًا ذراعه يمسك بها الشمس.