المهاجرون مثلي يجب أن يتقبلوا ويتأقلموا مع عادات وقواعد الدول التي تستضيفهم مهما كانت غير محببة لهم. نعم، هكذا كنت أفترض في المهاجرين الذين يصلون بلدي أستراليا قبل ان أهاجر بدوري قبل سنوات عديدة لأعمل مراسلا صحفيا حرا في إسبانيا وأقمت في منزل قديم في منطقة كاتالونيا. وبعد عشرين عاما، أعيش حاليا في منطقة إكستريمادورا ذاتية الحكم (جنوب غرب إسبانيا) وصرت أشعر باندماج كامل مع زملائي الإسبان وبما فيه الكفاية لكي أقول في بعض الأحيان بصراحة وجرأة: «كلا، هذا خطأ». ومن الأمثلة علي ذلك فرقة المدينة ، التي أعزف معها آلة الفلوت. والقضية المزعجة هنا هي كون هذه الفرقة الموسيقية هي جزء لا يتجزأ من لعبة مصارعة الثيران. ولكن في حين يعزف زملائي في الفرقة بحماس: ليجريو ودومينجيز وأنطونيو وعازف البوق عيسي ذي العشر سنوات ويعرقوا بشدة تحت الشمس، أقبع في بيتي بحزن. في البداية عندما قلت لبلاس قائد الفرقة: إنني سأستقيل إذا كان يجب علي حضور مصارعة الثيران، قال: حسنا، لا داعي لحضورك، كان الأمر علي مايرام معه. ولكن أعتقد أن الآخرين اعتبروا الغياب نوع من الغرور والازدراء لثقافة وتراث الإسبان من قبل ذلك الغريب النباتي أو «آكل الخس» كما كانوا يسمونني لكي يتهكموا علي وجود شخص نباتي في أشهر منطقة لتصدير لحوم الخنزير. ولكن في هذين العقدين الماضيين ارتفع عدد الإسبان الذين يحبون لحوم الخنزير ولكنهم، مع هذا، صاروا يمقتون بشدة مصارعة الثيران. فمثلا: وقع 180,000 شخص العام الماضي ما يعرف باسم مبادرة تشريع شعبية، والتي طلبت من البرلمان الكاتالوني مناقشة فكرة إلغاء مصارعة الثيران. البرلمان أنهي مؤخرا سلسلة من المناقشات الساخنة حول هذه القضية ، ومن المقرر أن يتم التصويت النهائي بعد عطلة صيف 2010 ومن اللافت أن معظم الأحزاب السياسية تركت لأعضائها حرية التصويت حسب القناعات الشخصية لنوابها. تلك المناقشات الساخنة ألهمت رئيس حكومة منطقة مدريد المحلية الانتهازي إسبيرانزا أجيري ، بإصدار قرار يعتبر فيه مصارعة الثيران لأول مرة «تراثا وطنيا ثقافيا»، وهو مصطلح خاص بالمعالم المعمارية الطبيعية الأثرية فقط. ولكن تلك المناقشات الجريئة المستعرة شجعت وأعطت ثقة معنوية أيضا لنشطاء كثيرين معارضين لمصارعة الثيران خاصة من الأطباء البيطريين الذين كبتوا طوال سنوات عديدة ومنعوا اجتماعيا وسياسيا من الجهر بمثل هذا الموقف الإنساني البديهي، حيث قام سبعون طبيبا بيطريا قبل سنتين بتشكيل جمعية مناهضة وإلغاء مصارعة الثيران سميت بالإسبانية (أفات)AVAT ليضعوا حدا لصمت معيب حضاريا. وقدم رئيس الجمعية خوسيه أنريكي زالديفار شهادة دامية وأدلة مفصلة أمام البرلمان الكاتالوني عن الجروح التي تصيب 12,000 ثور سنويا حتي الموت. ولحسن الحظ انخفض هذا الرقم المرعب للثيران القتيلة عام 2009 بثلاثة آلاف بفضل الأزمة الاقتصادية العالمية مشكورة. وكما يقول موقع جمعية (أفات) AVAT علي النت : «نحن لا نستطيع فهم كيف يمكن في القرن 21، وباسم تقاليد وعادات مزعومة ، أن تكون مصارعة الثيران عنصرا من ما سمي زورا ثقافتنا وتراثنا». المعارضون للحظر، كما هو الحال دائما وكما هو متوقع، دافعوا مرة أخري بقوة عن هذا التقليد: «إنه تراثنا الوطني» كما يجادلون دائما، ويضيفون: «بل هذا هو سبب خلق وتناسل الثيران التي تمتعت دائما بحياة عظيمة في الريف قبل مصارعة الثيران. وماذا عن السمك المسكين؟ أو الدجاج؟ وأوووه، وماذا عن شجاعة مصارع الثيران الأشهر خوسيه توماس، الذي أوشك علي الموت بعد ان جرحه ثور في المكسيك في 24 أبريل 2010 . ورغم أن هذا الدفاع كان متوقعا من الغوغاء، فوجئت كمثقف من عدم قدرة المفكرين والفلاسفة الإسبان من إعلان موقف محدد وواضح من القضية. فمثلا: كتب البروفسور الكاتالوني فيكتور جوميز بن وزميله فرانسيس وولف من جامعة باريس مقالا مشتركا في جريدة «إل بايس» التي تعتبر أهم جريدة إسبانية. وبينما بدي أن المقالة لا تؤيد الوحشية والتعذيب بذاتها ولكنها، مع هذا، كانت مقالة ثعلبية وملتوية لأنهما أيضا صرحا بخصوص ما سمياه «محاولات فكرية لتحرير الحيوانات من أي نوع من الألم وبالتالي الخضوع للإنسان قائلين: «هذه الجماعة الفكرية الجديدة المدافعة عن الثيران خطرة. فكلما برز الدفاع عن الطبيعة كحتمية مطلقة، تنخفض قيمة الإنسان. وعندما يقدس هذا الإنسان حياة الحيوان كقيمة عليا يتوقف عن الإيمان بالله وهذا الأمر ليس بالضرورة خبرا جيدا». كما بدا مفكر إسباني مهم آخر فرناندو سافاتر بنفس هذا القدر من البلادة وعدم الفطنة والخوف من الغوغاء. لقد شعر بالرعب لاحتمال قيام البرلمان بالتشريع في قضية علي أسس أخلاقية وتهكم قائلا: «إن حضور مصارعة الثيران ليس إجباريا». وفي مقال لسافاتر أزعج كل الاتجاهات، جادل ضد منع مصارعة الثيران لينزل إلي مستوي وضيع عندما قال: «إن أول قانون بيئي لحماية أمنا الأرض والحيوانات والنباتات وضعه شخص نباتي اسمه أدولف هتلر» لكن لحسن الحظ، في حين تعاني إسبانيا من فقر مدقع للمفكرين أصحاب المواقف التي لا تعجب الغوغاء، إلا انها مليئة برسامي الكاريكاتير الشجعان والملهمين. فرسام جريدة «إل بايس» السيد إلروتو رسم كاريكاتيرا شجاعا بل مذهلا يظهر فيه ثور وعلي رقبته وظهره العديد من الرماح والسهام الحادة والدماء تسيل بشدة ورد علي المفكر الكبير فرناندو سافاتر بكلمات ساخرة موجزة وأكثر عمقا وبلاغة من مقالات عشرات المفكرين والفلاسفة والكتاب حيث كتب علي الرسم: «بالفعل، لا أحد يجبر علي حضور مصارعة الثيران... سوي الثيران!!!». ملاحظة: هذه مقالة بقلم الكاتب الصحفي رود أوشر نشرت في مجلة تايم الأمريكية في 28 يونية 2010 قبل أن يوافق برلمان مقاطعة كاتالونيا الإسبانية مؤخرا علي حظر لعبة مصارعة الثيران.