كنا في أوائل تسعينات القرن الماضي نمر علي أرجاء مصر ، مثل قاطرة صاخبة نجأر بكل ما في رئاتنا من هواء بأشعار أسلافنا الأولين ، ونغني خلف زعماء تحرير شعوب بعيدة كل البعد عنا ، كنا بصوتنا العالي ورغبتنا في المشاركة في ثورة ما علي شيء ما لا نلتفت لما حولنا، وإنما نلوك المفردات دون أن نختبر الفرق بين مذاق الأرض ومذاق الدم، أو الفرق بين رائحة سنابل القمح ورذاذ مصانع النسيج ، كنا نُعيد كتابة كلّ ما كُتبَ من قبل علي إيقاع عجلات قاطرة طائشة وعلي إيقاع سنابك يقين غبي ، وكان هو منتشرا هناك ...... أبدٌ من الحقول الخضراء والصفراء .. نخلٌ سامق وشجيرات قصيرة تستطيع منح الظل لكل عابري السبيل .. ورودٌ هادئة ألوانها .. علي مدي البصر، كان يمتد حولنا ويجبرنا علي الوقوف أمامه فنترجل عن صخب القاطرة. في حضرة " محمد عفيفي مطر" كان علينا أن نجتهد كثيرا لمحاصرة نصه ، كان علينا أن نجتهد لكي نحتضن هذا التنوع الشاسع وأن نتعلم منه الأسماء، علي حدود عالمه الشعري الوسيع عرفت لأوّل مرة ما متعة فهم الغموض وما متعة الاستماع لهسيس الوطن وزقزقة لياليه عبر مئات الأعوام وما طعم بهجة ألوانه المتعددة ورائحة طميه وعذابات أهله، وجدت نفسي أري بوضوح تام ...( كثافة الرشاقة في موت الظباء) ، ووجدتني أتفق معه حين يردد (أعلنت ميثاق الإقامة بالرحيل ) ، ووجدتني أكاد أغني خلفه ( كنا مُتقابلين تقابلَ الخيمة والعراء ) وأتساءل معه ( هل الغزالات للعشق أم للردي يتوالدان ؟) في حضرة "محمد عفيفي مطر" تعلّمت أن الشعر حقا عال سُلمه ، وأن علي أن أزداد خجلا كلما باغتتني قصيدة ، تعلمت خطورة أن يخرج النص من قلمي إلي كتاب مطبوع دونما أدني بارقة أمل لإعادته إلي قلمي مرة أخري وكأنه رصاصة ، بت أكثر حرصا مع كلماتي وأكثر تواضعا أمام الملكوت اللا محدود ، وكلما رأيته أهمس بيني وبين نفسي : السلام عليك أيها الخِضر، السلام عليك أيها الشاعر، أو لم يكن مثل الخِضر عليه السلام يمر أمامنا وكأنه هواء .. كان نحيلا كما رمح متجها إلي الفضاء متخلصا من كل تزيد حتي ولو كان في جسده .. وجه منحوت بزهد منقطع النظير في التفاصيل وكأنه خارج من أحد جدران الفراعين ومنذوراً مثلهم للخلود .. عينان لامعتان ثاقبتان وطيبتان طيبة فلاح مصر الفصيح .. هالة من البياض تُحيط برأسه كالقديسين ، تحسبه حين تلقاه عابرا نازلا من سماء ما للفرجة علي العالم إلي حين ، ولا تملك أمامه إلا أن تحسده علي تخلصه من متع كثيرة وترفعه عن الخوض في أي صراع أرضي حتي بالكلام . ما زلت أبتسم كلما قرأت له ( كان من علامات العدل الجميل أن يصف المُبصرللأعمي روعة الليل ونقوش السماء بالكواكب والنجوم ونعاس القمر الفضي بين أغصان الشجر وسجادات الوادي ومرايا الماء وجواهر الندي ) وأتذكر كم عاني وسُجن لأنه كان مبصراً حاول أن ( يشاكس جبروت السيف بصدره العاري ويجالد القبائل بالقصيدة) وأواصلُ القراءة فتدمع عيناي ولا أستطيع إلا ان أرددَ : السلام عليك أيها الخِضر يوم مررت بيننا كالضوءِ شفيفاً ويوم رحلتَ وكتابك في يمينك فلا عليك لأنه سيحميك دون شك من طول الرحلة وسينير لك ظلمات أشك كثيرا أنها ستعترض طريقك.