سحر النادى التحرير في مليونيته يوم الجمعة 29 يوليو أظهر عورة يجب أن نسترها سريعا: أن هناك من يعتبر حرية التعبير حكرا عليه ويريد تفصيل ديمقراطية على مقاسه! في رأيي أن تضخيم الفزع من "الإسلاميين" يوم الجمعة الماضية -سواء كان عفويا أو مقصودا- كان مبالغا فيه لحد كبير، وذلك لعدة أسباب: بداية، كما أوضحت في مقالي السابق إني "باشجع اللعبة الحلوة" حتى لو من فريق "التانيين"، ولذلك أحب أن نعامل جميع التيارات السياسية بنفس القدر من الاحترام، ونعترف لكل مصري -من أقصى اليمين لأقصى اليسار- بحقه في إبداء رأيه حتى لو اختلفنا معه في هذا الرأي أو في طريقة التعبير عنه. فنحن لو نجحنا في تطبيق ديمقرطية سليمة، فالغلبة في النهاية ستكون لرأي الأغلبية، ولذلك لا يجب أن نفزع من التعددية الفكرية والأيديولوجية التي هي علامة صحية في أي مجتمع حر. ولهذا، أستنكر الأسلوب الهابط الذي تعامل به البعض مع ظهور التيارات الإسلامية في التحرير. فمع اختلافي معهم في الكثير من النقاط الجوهرية، لا يمنعني ذلك من احترامهم واحترام حقهم كمصريين في التعبير عن أفكارهم علنا، ولا أوافق مطلقا على التعامل معهم ببذاءة وسخرية، أو بصدمة واستهجان كأنهم كائنات هبطت على التحرير من كوكب آخر، فما هكذا يعامل المصري المحترم أخيه، وليست هذه أخلاق الميدان. كما أزعجتني جدا لغة الخطاب العدائية المشحونة بالكراهية والاستعلاء كأنها صادرة عن جورج بوش بعد هجمات سبتمبر، ولكن المخيف أنها تأتي الآن من مسلمين مصريين ضد مسلمين مصريين مثلهم، فلماذا نلوم الغرب إذن على تعامله السئ مع كل ما هو إسلامي إذا كانت هذه هي نظرتنا لبعضنا؟ في رأيي أن تضخيم الفزع من "الإسلاميين" يوم الجمعة الماضية -سواء كان عفويا أو مقصودا- كان مبالغا فيه لحد كبير، وذلك لعدة أسباب: فمن حسنات ظهور التيارات الإسلامية علنا لأول مرة (مع تحفظي على بعض الأفكار واختلافي التام مع البعض الآخر) أن الطيف السياسي المصري كان ينقصه تيار اليمين، وهو وضع غير طبيعي كان يضع ثقلا غير حقيقي في خانة اليسار لعدم وجود ما يقابلها على الطرف الآخر. ولذلك، اكتسب الوسط أهمية كبيرة بعد المليونية باعتباره الآن بوضوح رمانة الميزان بين طرفي النقيض، بالإضافة إلى أن الوسط يمثل بوضوح غالبية الشعب المصري الذي لا يميل بطبعه للتطرف يمينا أو يسارا. ولذلك آلمني أن يخاطب بعض المثقفين جموع المصريين على أنهم قطيع من المواشي يساقون لما لا يفهمون ليقيموا نموذجا للحكم منقول من دولة أخرى بدون عقل أو تمييز. فسمعنا من يصرخ محذرا من تحول مصر إلى السعودية أو إيران بسبب كثرة "الدقون والجلاليب" في التحرير، وهذه نظرة استعلائية وسطحية للأمور في رأيي، فعلينا التفريق بين نظم الحكم في السعودية وإيران وبين نظام الحكم في مصر: فالسعودية ملكية أسرية تحكم مجتمعا قبليا محافظا، بينما مصر دولة ديمقراطية تسعى لانتخاب رئيس يمثل الأغلبية، وشعبها يقبل التعددية بطبعه منذ آلاف السنين. كما أن علينا أن نفرق بين المذهب الشيعي في إيران الذي يؤمن بولاية الفقيه (رجل الدين الشيعي المعصوم) وهو غير موجود في المذهب السني المتبع في مصر. فحتى لو أفلح الإسلاميون في أن يأتوا بأحد مرشحيهم رئيسا منتخبا، فهؤلاء المرشحين للرئاسة من المحسوبين على التيار الإسلامي المصري ليسوا "رجال دين" بالمعنى المفهموم، فمنهم المحامي والحقوقي والطبيب، وهم بذلك "تكنوقراط" وليسوا "فقهاء" بالمفهوم الشيعي. كما أن الفكر الوهابي الكلاسيكي -وهو يميني متشدد- ليس فيه آليات للعمل السياسي في إطار ديمقراطي تعددي. وبما أن هذا هو الإطار السياسي الذي تسعى إليه الأغلبية في مصر والذي قامت من أجله الثورة، وبما أن التيارات الإسلامية تشكو من الإقصاء وتحاول الاندماج في الحياة السياسية، فأتوقع أن يصلح الوضع نفسه في وقت قصير، بحيث يتطور التيار السلفي المصري ويتعلم أن "يلعب سياسة" ويربي مرشحين للبرلمان والرئاسة، ويطور برامج انتخابية صالحة للاستخدام الديمقراطي. وهكذا، فبدل أن نرتعد خوفا من الفكر "الوهابي" الوافد إلى مصر، قد ينقلب الوضع قريبا ليرتعد غيرنا فزعا من نضوج التيار السلفي المصري وامتداد تأثيره السياسي إلى خارج الحدود. ما أحاول أن أوضحه أن فزاعة "الإسلاميين" اختراع تم فرضه علينا من نظام فاسد لا يعمل لمصلحتنا، وقد احتاج هذه الفزاعة السخيفة ليبرر وجوده الممقوت، تارة للغرب باعتباره حائط الصد الوحيد أمام "الإرهاب الإسلامي" ، وتارة ليفرق بيننا ويخوفنا من بعضنا، فعار علينا إذن أن نكرر نفس لغة الخطاب العفنة بعد إسقاط النظام الذي زرعها في عقولنا، وعلينا أن نتحرر من أفكار جلادينا ونكوّن قناعاتنا بأنفسنا. ففي ظل الديمقراطية الحقيقية يصبح الخطاب الإقصائي مرفوضا مع أي تيار لأي سبب، ويجب استبداله باحتواء جميع التيارات ودمجها في العمل العام المعلن في أُطر مقننة، لأن البديل هو العمل السري غير المقنن، بما في ذلك من أخطار لا تخفى على أحد. ولكن للأسف ما شاهدناه من التيارات الليبرالية كان التعامل مع الاختلاف بمنطق "حلال علي حرام على غيري" وأتوقع أن يفقدهم ذلك الكثير من النقاط. فالديمقراطية التي أعرفها ليست مظلة ضيقة تتسع فقط لمجموعة بعينها وتستبعد بقية الشعب، كما أنها ليست امتيازا "شيك" يستحقه فقط بهوات البيزنس ومدّعو الثقافة ومناضلوا الميكروفونات، بل هي حق أصيل لكل مصري مهما اختلفنا معه. وكما سمحنا لمراهقي السياسة من كافة التيارات أن "يتعلموا فينا" ألف باء العمل السياسي ويخطئوا أخطاءا شنيعة كادت تودي بنا وبالثورة، فبالمثل، يجب أن يكون حق التجربة والخطأ مكفولا أيضا لجميع التيارات الإسلامية التي استُبعدت من أي ظهور عام لعقود طويلة، وعلينا أن نتوقع أن أداءهم السياسي لن يكون مثاليا لفترة حتى يوفقوا أوضاعهم وتخف حدة حماسهم وتهدأ مفردات خطابهم. ولن يحدث هذا بمزيد من الإقصاء والسخرية، بل الحل العاقل المنطقي هو الاحتواء والتصحيح من خلال إطار ديمقراطي يطبق على الجميع بنفس الاحترام وبدون تفرقة. أنا أثق في المصريين وأحترم وطنيتهم وذكاءهم، وأومن تماما أنهم جميعا -رغم بساطة بعضهم- مؤهلون لإقامة مجتمع ديقراطي حر، ونموذج حضاري خاص بهم لا يقلدون فيه غيرهم، بل يقلدهم فيه من حولهم، وإن غدا لناظره قريب.