اعتذر بدايةَ للصديق العزيز المخرج وكاتب السيناريو محمد دياب لأنني ساقتبس منه اسم فيلمه "678" مقلوبا لأضعه على مشاهد فيلم وثائقي قصير منزوع الرأي والتوجه يُجسد مأساة التحرش بأنثي على قارعة الطريق وفي وضح النهار وكيف تم هتك وفتك كل من حاول حمايتها، هي بالأدق طفلة لا يتجاوز عمرها ثلاث سنوات ثم كيف انقلبت بعد ذلك كل الآيات وكيف تحول الجناة والمتورطين والداعمين إلى محتفلين وحٌماة وكيف تحول "كبار المتنصلين" إلى جناة وثوار …وبين هذا وذاك محاولات لدهس الحقوق تحت الأقدام ودفنها حيث ولدت… محاولات لتجميل الكذب بمساحيق ثورية ووطنية واستعطافية… مجرد مشاهد توثيقية ميدانية وإعلامية وإنسانية جعلتها "سبعة"، مشاهد تشكل ملامح الصورة الإنسانية الكاملة لما جرى ب"عيون الحرية": إنسانا ومكانا… يقتلون ويكذبون ويتجملون…ينكرون ويكذبون ويتجملون… يزايدون ويكذبون ويتجملون… *** المشهد الأول : شاشة منقسمة إلى أربعة نوافذ…أصوات متداخلة… النافذة الأولى : اللواء هاني عبد اللطيف المتحدث باسم وزارة الداخلية – الأحد 17 نوفمبر 2013 (في ظل دعوات العديد من التيارات السياسية والحركات الثورية لإحياء ذكرى شهداء محمد محمود، فإن وزارة الداخلية وهي تقوم بدورها في حماية مقدرات الوطن وتضحي بزهرة شبابها من أجل أمنه واستقراره وأمان أبنائه، فإنها تؤكد احترامها لإحياء ذكرى جميع الشهداء تخليدا لدورهم في مسيرة العمل الوطني وحرصها على إتمام الاحتفاء بفعاليات تلك الذكرى في الإطار الذي يتناسب مع وعي وتحضر المشاركين فيها…. وبهذه المناسبة فإن وزارة الداخلية تقدم تعازيها لكل شهداء الثورة الذين سالت دماؤهم الزكية لتروي "شجرة النضال الوطني" الذي سطره التاريخ في تلك المرحلة الفارقة من عمر الأمة… عاشت مصر حرة أبية والمجدة لشهدائها…) النافذة الثانية : بيان جماعة الإخوان المسلمين – الأحد 17 نوفمبر 2013 (هناك مخططات عديدة فى مسار ثورة 25 يناير 2011 يقف الناس أمامها يستفيدون من دروسها، من هذه المحطات المهمة أحداث شارع محمد محمود فى 2011/11/19م، هذه الأحداث التى أسف لها كل الثوريون والوطنيون المخلصون، والتى استغلها طرف -لم يكن يريد التنازل عن السلطة للشعب- فى الوقيعة بين شركاء الثورة، وظلت مواقف الأطراف فى هذه الأحداث محل جدل من يومها، ونحن نثق أنه سيأتى اليوم الذى تنكشف فيه كل الحقائق للجميع ويزول سوء الظن وخطأ التفسير، وتعود اللحمة والصفاء بين المخلصين لهذا الوطن. أصبح الواجب الوطنى الآن يفرض على الشعب كله أن يتصدى لهذا الانقلاب العسكرى الفاشي الدموي، لكي يسترد حريته وكرامته وسيادته، ويعيد الجيش إلى مهمته المقدسة في حماية الوطن بعيدًا عن التدخل فى السياسة، ويُسْيَّر حياته فى إطار من الديمقراطية الدستورية، وأن يتعاون الجميع فى مسئولية بناء الوطن والمشاركة فى نهضته، فذكرى محمد محمود ليست يومًا يعبر فيه الثوار الأحرار عن غضبهم مما مضى ولكنها روح تدفعهم للثورة ضد ما هو قائم على الباطل من سرقة الثورة واغتصاب السلطة وإهدار إرادة الشعب، حتى يزول هذا المنكر ويندحر الانقلاب ويعود الحق للشعب." النافذة الثالثة : الاثنين 18 نوفمبر 2013 ميدان التحرير (أمام شارع محمد محمود حيث كانت الأحداث منذ عامين) وضع حجر الأساس للنصب التذكاري لشهداء 25 يناير … و30 يونيو ( التي لم يمت فيها أحد!) النافذة الرابعة : (جديدة قديمة) (من يتصور أن الديمقراطية لعبة حشد وأغلبيات مصطنعة، يؤسس للاستبداد متعمدا أو جاهلا…) د. المصطفى حجازي 18 نوفمبر 2011… (حجر رشيد – صفحة 179- الطبعة الأولى 2012 ) ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( *** المشهد الثاني : فلاش باك… نوافد أربعة مجددا…الأحد 20 نوفمبر 2011 " جات في عين الواد… جات في عين الواد… جدع يا باشا…جات في عين الواد…" " عدد كبير من شباب الإخوان السابقين والحاليين في الميدان ومنهم مصابين بالخرطوش وإصابات في العين – الكبار يرتاحون كالعادة شبابكم في التحرير " (دكتورة هبة رؤوف عزت – تويتر – الواحدة صباحا) الرسالة رقم "81" من المجلس الأعلى للقوات المسلحة: (إيمانا من المجلس الأعلى للقوات المسلحة باستمرار التواصل مع الشعب المصري العظيم وشباب الثورة…شهدت مصر خلال الساعات الأخيرة أحداث وتطورات بالغة الدقة تنذر بتداعيات سلبية على الاستقرار والأمن الأمر الذي يدعونا إلى التأكيد على الآتي…ويؤكد المجلس الأعلى للقوات المسلحة على ثوابته التي لا تتغير والتي أعرب عنها منذ توليه المسؤولية من أنه لا يسعى لإطالة الفترة الانتقالية وأنه لن يسمح لأي جهة بعرقلة عملية التحول الديمقراطي وبناء مؤسسات الدولة…والله الموفق) " التحرير يستعيد الكثير من مصريته ونقائه وفي طريق نضجه ليستعيد العصمة السياسية في يده مرة أخرى…! إلى المجلس العسكري اقرأوا التحرير بذات القلوب والعقول المصرية التي كنتم عليها ولا تقرأوه بتقارير الأمن… فهذا ما أودى بمبارك وما سيودي بغيره…!" (د.المصطفى حجازي – فيسبوك) ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( *** المشهد الثالث… السبت 19 نوفمبر 2011… أرجوك لا ترهق نفسك في عدّ النوافذ فالدم غطى كل شئ… الثالثة عصرا… إشارة حمراء… أقف على مشارف التحرير في السيارة… هجوم قوات الداخلية على ميدان التحرير ومحاولاتها لفض الميدان بالقوة… لا أفهم ما يحدث…!!! سيدات يرتدين ثياب سوداء وشباب يبدو عليهم أثر تعب و إصابات… بدء محاصرتهم في " الصينية الموجودة في التحرير" …لا أفهم ما يحدث…!!! انطلقت السيارة… وصلت إلى حديقة الأزهر، انفصلت عن العالم للبدء في عمل ما… حتى تنبهت في الثامنة مساء لمكالمة من أمي… تصرخ " أنتِ فين ارجعي…الدنيا مقلوبة…الناس بتموت في التحرير…" لم أفهم ماذا يحدث…!!! كل الأخبار تتحدث عن اشتباكات…تركنا صلاح سالم… وصلنا إلى مشارف القصر العيني بصعوبة…رائحة غاز قوية جدا وارتباك شديد… وصلت المنزل… محاولة لمتابعة ما يحدث… الآن فهمت …!!! كانت الضربة القاضية مع محاصرة وضرب من كانوا معتصمين من أهالي المصابين والشهداء…! مداخلة من السيد(ة) المدير(ة) التنفيذي(ة) لما كان اسمه "صندوق المصابين والشهداء (ت) يتحدث عما حدث، وأنه قد تم تقديم بلاغ للشرطة للتعامل… فحدث ما حدث…!!! وسقطت الثمار الأولى…ضحايا… قتلى… أغلب الإصابات في العين والرأس والوجه!!! أصيب مالك مصطفى في عينه، نانسي عطية صحفية في الشروق بخرطوش في وجهها…!!! أحمد عبد الفتاح مصور بالمصري اليوم في عينه…وغيرهم عشرات… وراحت عين حرارة الثانية… ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( *** المشهد الرابع : الاثنين 21 نوفمبر 2011… يسري فودة…. آخر كلام (لكن هؤلاء هم الذين ضحوا بأرواحهم وبأطرافهم وبعيونهم عسى أن تكون لمصر عيون…عسى أن يمر النور إلى الأجيال مرة… آن الأوان أن توقفوا مهزلة الضلال والتضليل ليعلم شعب مصر ولتعلم شعوب العالم من هو البطل ومن هو الخسيس… طيب الله أوقاتكم… ولا طيب الله أوقات من يقتلون الحياة ويفقأون المآقي ويأخذون مصر رهينة الظلم والفساد والاستبداد والفجر.. ثلاثة وعشرون شهيدا على الأقل في أقل من يومين ومئات الجرحى فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر… لكن للحرية ثمن لا يقبله إلا الشرفاء والأحرار ومصر مليئة بالشرفاء والأحرار… واحد من هؤلاء قدم إحدى عينيه راضيا يوم جمعة الغضب وقدم الأخرى أمس ولا يزال في ميدان الحرية راضيا مرضيا بشوشا صافي النفس…يختار أن يقدم نور عينيه ولا أن يحتفظ بها مكسورة… الدكتور أحمد محمد علي… ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( *** المشهد الخامس: وكان آخر ما كتبته عنه في أول ما كتبته عنه منذ عامين ومعهم أسبوعين أنني و " بالمناسبة لم أتشرف بلقائه… كم أحمل هم هذا اليوم"… وجاء هذا اليوم أو الهم بعدها بأيام قليلة… في الطريق إلى منزله… مهما كان استعدادك ومهما كانت بلاغتك وفصاحتك وحنكتك في التعامل مع الأمور فستظل كما أنت لا تعرف ما تقول وما تفعل أمام شاب أول ما قدمه لبلده دون تخطيط وبكل رضا كانت "عين" مقابل أربع شعارات " عيش…حرية…كرامة إنسانية…عدالة اجتماعية" وسرعان ما لحقت بها "العين" الأخرى… !! حيرة وارتباك وخوف… كيف ساستقبله، هل سأبكي؟ هل سأعطيه كلمات وعظات في الصبر والتبصر لا تتعدى كونها مسكنات لطمأنة النفس أنك لازلت بخير يا صغيرته ؟ هل سأبادر بتقبيل رأسه لكن يجب أن أتنبه للحدود والفروقات؟ ماذا سأفعل؟ وصلت…دخلت…سلمت على أم – ومثلها آلاف – تحاول أن تتشبث ببقايا عقل لها…تحاول أن تستوعب الواقع برضا وسعادة… ابتلاء وبطولة… جاء من أهابه… قالوا أنه فقد عينيه لكن نسوا أن يقولوا أن مكانها ألف… "حرارة" .. يٌسلم عليك باسمه…يتحدث كاسمه .. هل يحمل اسمه أم أن اسمه هو من يحمله؟؟؟ وجه مبتسم بالرضا…لسانه وقلبه لا ينطقان إلا بالرضا " الحمد لله…قدر الله وماشاء فعل… سبحانه هو المقدر" عينان تراك .. حتى لو لم تكن تراك !!!… حاولت كثيرا أن اختبئ منها لقوة صبرها وصمودها حتى ولو غاب نورها… عقل مهموم ب" الحرية والكرامة .. مش قليلين…أنا موضوعي خلص… وأنا محظوظ فيه مصابين حالتهم أصعب!!!… احنا عايزين البلد تتطهر… عايزين حكومة بجد تخاف على الثورة وتخاف على البلد…" تحاول مع حرارة؟؟؟ ستفشل ثم ستفشل ثم ستفشل طالما فكرت أن تجعله هو محور القضية… القضية بالنسبة له ألا يكون هو محورها لأنها أكبر من شخصنتها فيه… ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( *** المشهد السادس: لا أتذكر من هوله سوى أنه كان في ديسمبر 2011 وكانت محادثة تليفونية… ياه يا الميدان كنت فين من زمان… معاك غنينا ومعاك شقينا وحاربنا خوفنا ….. ودعينا… إيد واحده … نهار وليل … ومفيش معاك … شئ مستحيل… صوت الحرية بيجمعنا … خلاص حياتنا … بقى ليها معنى… مفيش رجوع … صوتنا مسموع … والحلم خلااااااااص …. مبقاش ممنوع… سمعتها لأول مرة بremix ثلاثي الأبعاد والنغمات…التوزيع الأصلي تدعمه نبرات هادئة واثقة راضية بصوته وهو يبلغني بكل ثقة أن حالته hopeless ولا أمل في عودة الإبصار وينتهي التوزيع بمحاولتي البائسة لأوقف دموعي المنهمرة ولأكتم أنفاسي وضربات قلبي المتلاحقة…. سمعتها من طبيب فرنسا أنه " لا أمل " وأرسلها لي طبيب أمريكا أنه أيضا " لا أمل " وألقاها في وجهي جراح العيون الشهير حسن مرتضى ودموعه تلمع في عينيه وأنا أضع يدي على فمي حتى لا يخرج صوت بكائي أنه " لا أمل "… وهو بكل حرارة يقوينا " الحمد لله…المهم البلد…الكرامة والحرية " ) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ( *** المشهد السابع… اثبت مكانك … هنا عنوانك … ده الخوف بيخاف منك …. و ضميرك عمره ما خانك اثبت مكانك … ده نور الشمس راجع …. يا تموت و انت واقف …. يا تعيش و أنت راكع اثبت مكانك …. ده عينيك شايفة الدليل …. أبعد عنهم و سيب ……. الحيطة عليهم تميل اثبت مكانك …. قلب الوطن اتجرح ….. و صوت الحرية …. خلاص اتنبح يناير 2012… يوم شتوي قاسي البرودة… راديو السيارة… في الطريق إلى المستشفى… أحمد يستعد لدخول غرفة العمليات ليخرج ما تبقى من الشظية… وليستأصل عينه، فآلام الشظية لم تعد تحتمل…! دخل غرفة العمليات واختلع ما خرج من سلاح " الباشا الجدع" ….. جات في عين اللي (بقى أجدع مننا كلنا)…!!!"… يضع عين صناعية لتكون شاهدة علينا إلى يوم الدين مكتوب عليها :