لم يكن يوم 26 من يونيو الماضي يومًا عاديًا لقادة الجيش المصري؛ إذ التقوا الرئيس محمد مرسي، أول رئيس مدني منتخب، ودار الحديث بينهم صريحًا وبدرجة مؤلمة ووجهوه تجاه ما ينبغي قوله في الكلمة التي كان من المقرر أن يوجهها للشعب لتهدئة موجة الاحتجاجات السائدة في أنحاء البلاد. ووفقًا للتقرير الذي أعدته شبكة "رويترز" الإخبارية عن أحد الضباط الذي كان ضمن الحضور، فقد أكد قادة الجيش على ضرورة أن يكون الخطاب قصيرًا مُلبيًا لمطالب المعارضة بتشكيل حكومة ائتلافية وتعديل الدستور داخل إطار زمني محدد لهذين الأمرين. مرسي خرج كما تابعه الجميع بخطاب مطول مخيب للآمال وأدرك وقتها قادة الجيش أنه لا ينتوي تدارك الأزمة، لذا قاموا بتنفيذ المخطط البديل "كنا مستعدين لكل الاحتمالات من العنف في الشوارع إلى اشتباكات واسعة النطاق وجهزنا القوات لهذين الاحتمالين". الرئيس المعزول ظلّ طوال الأيام التالية متمسكًا بموقفه المتحدي، بل واستخف بالمظاهرات الحاشدة خلال مكالمة أخيرة مع القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبدالفتاح السيسي، يوم الأربعاء، "لم يكن يصدق ما يحدث"، وتحطمت أيّة آمال متبقية لان يدعو مرسي إلى استفتاء على انتخابات مبكرة أو حتى التنحي في هدوء. الجيش يتحرك ونتيجة لما سبق قرر الجيش تنفيذ خطته فاحتجز الرئيس السابق في مجمع الحرس الجمهوري، وألقى القبض على قيادات رئيسية في جماعة الإخوان المسلمين وتولى السيطرة على عدد من الأجهزة الإعلامية، وبتلك الخطوة الاستباقية انتهت أول محاولة للتوفيق بين الإسلام السياسي والديمقراطية في مصر، بعد عامين ونصف من الإطاحة بالرئيس المخلوع مبارك في انتفاضة شعبية عام 2011. سقوط مرسي وجماعته وبتلك السرعة والسهولة أظهر هشاشة الربيع العربي الذي أطاح بعدد من الحكام العرب في العام المذكور سالفًا، وذلك على الرغم من أن التجربة مازالت تحقق تقدمًا في تونس. كما أن سقوطه جدد النقاش فيما إذا كان من الممكن أن يتعايش الإسلام السياسي مع الديمقراطية؛ حيث لم تستمر تجربة الإخوان في السلطة سوى أكثر قليلًا من عام واحد، ولكن أعضاء بالجماعة أشاروا إلى مفارقة تشجيع الغرب للديمقراطية وفي الوقت نفسه منح التأييد في هدوء لانقلاب عسكري. كذلك كشفت خطوة الجيش الكثير من الصعوبات التي واجهها الاخوان في الحكم إذ يشكو المصريون والمستثمرون على السواء من الفوضي التي سادت بعض الوزارات ودفع الإخوان برجالهم من ذوي الخبرات المحدودة لشغل مواقع قيادية. وكانت أخطاء مرسي نفسه جسيمة على النقيض من الطريقة التي صعد بها الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا إلى قمة هرم السلطة في جنوب أفريقيا حاملًا رسالة الوحدة والتسامح. استياء عسكري لم يكن مرسي زعيمًا سياسيًا بطبعه كما أنه تم الدفع به بعد رفض ترشيخ المهندس خيرت الشاطر، نائب المرشد العام، في الانتخابات الرئاسية ومع ذلك فقد أبدى بعض الحسم عندما تولى منصبه وجمع في يده سلطات كثيرة، الأمر الذي أدى إلى استعداء قطاع عريض من خصومه الليبراليين والإسلاميين على حد سواء. بل واتخذ قرارًا بإحالة اثنين من كبار قادة الجيش للتقاعد أحدهما هو المشير حسين طنطاوي، الذي ظل 20 عامًا وزيرًا للدفاع في عهد مبارك في خطوة بدا أنها تمثل فكاكًا من أسر الماضي، ليُعين بعده الفريق أول عبدالفتاح السيسي قائدًا جديدًا للجيش. وقد بدا أنه اختيار جيد للعمل مع مرسي وجماعة الإخوان التي تريد إبعاد الجيش عن الساحة السياسية بعد أن تصدر المشهد عشرات السنين، لكن العلاقات بين مرسي وقادة الجيش الجدد تدهورت خلال شهور من تنصيبه، بل إن نجاح مرسي في التفاوض على وقف لإطلاق النار بين اسرائيل وحركة حماس الإسلامية التي تدير قطاع غزة أثار إستياء العسكريين. مصدر أمني ذكر أن تدخل مرسي في حرب غزة جعل مصر ضامنًا لعدم قيام حماس بأيّة هجمات على اسرائيل، وهذا يمثل تهديدًا للأمن القومي المصري لأنه إذا شنت حماس هجومًا فقد يدفع ذلك اسرائيل لرد انتقامي منا. كما تحدث مرسي بلا مواربة عن احتمال مشاركة مصر في "الجهاد" للإطاحة بالرئيس السوري بشار الاسد وأثار احتمال القيام بعمل عسكري بسبب سد تبنيه إثيوبيا على نهر النيل، ونتيجة لذلك زاد ارتياب قيادة الجيش فيه إذ رأت أنه يخاطر بإشراكها في صراعات دون التشاور الواجب مع كبار القادة. وشعر القادة العسكريون بقلق لا يقل شدة إزاء الاستقطاب السياسي والطائفي في مصر في ظل التدهور الاقتصادي الحاد. وكانوا قد أمنوا وضعهم في الدستور الجديد الذي وضعه حلفاء مرسي وتم استفتاء الشعب عليه في ديسمبر الماضي فضمنوا بذلك أن تظل مراجعة البرلمان لموازنة القوات المسلحة وعقود التسلح والسيطرة على قناة السويس محدودة. لكن قلقهم تزايد لما رأوه من خطر وصول الأمر إلى حد الحرب الاهلية. خطر اقتصادي وعندما تولى مرسي منصبه كان الاقتصاد المصري الذي زاد الاثرياء ثراء والفقراء فقرًا في سنوات مبارك الأخيرة في أزمة بالفعل. لم يكن المجلس العسكري الذي حكم مصر في فترة انتقالية استمرت 16 شهرًا عقب سقوط مبارك قد أجرى أيّة إصلاحات لنظام دعم السلع الغذائية والوقود أو التفاوض على اتفاق قرض مع صندوق النقد الدولي خشية اندلاع احتجاجات جديدة. وجفت موارد السياحة والاستثمار أو كادت بسبب الاضطراب السياسي. ثم جاءت حكومة مرسي المرتبكة لتزيد الوضع سوءً؛ فبينما ظلت جماعة الاخوان أكثر القوى السياسية تنظيمًا ونفوذًا من خلال إدارة شبكة للدعم الاجتماعي وتقديم خدمات للفقراء والمحتاجين، شعر ملايين المصريين أنه لا يوجد من يمثل مصالحهم. رفض مرسي ثم أطلقت مجموعة من النشطاء حركة "تمرد" في أول مايو الماضي لجمع التوقيعات للمطالبة برحيل مرسي، واكتسبت هذه الحركة زخمًا حتى أعلنت أنها جمعت أكثر من 22 مليون توقيع ودعت إلى تنظيم مظاهرات ضخمة في مختلف أنحاء البلاد يوم 30 يونيو التالي بمناسبة مرور عام على تنصيب مرسي. وانطلاقًا من الغضب الذي شعر به المصريون إزاء مساعي الاخوان للاستحواذ على السلطة وسوء أدائهم في إدارة الاقتصاد خرج الملايين مرددين هتاف "ارحل". واجتذبت المظاهرات المضادة التي نظمها مؤيدو مرسي بضعة مئات الآلاف فقط. وفي اليوم التالي لمظاهرات 30 يونيو حدد السيسي مهلة مدتها 48 ساعة لمرسي فإما الاستجابة لمطالب المتظاهرين باقتسام السلطة مع المعارضة وإما إفساح المجال أمام الجيش لطرح خريطة طريق أخرى. مصدر عسكري اطلع على التفاصيل أكد إنه في لقاءين آخرين مع الرئيس في الأول والثاني من يوليو كان القائد العام أكثر صراحة لكن مسعاه قوبل بالرفض"توجه السيسي إليه وقال لنا عندما عاد إنه لا يصدق ما يحدث، حيث قال له مرسي إن المحتجين بين 130 و160 ألفًا فقط، فأجابه بانهم أكثر بكثير من ذلك وعليك أن تستمع لمطالبهم". وأضاف المصدر: "في الاجتماع الثاني ذهب السيسي ومعه تسجيل فيديو للاحتجاجات أعده الجيش قائلًا له: " الوضع خرج عن السيطرة واقتراحاتك لتغيير الحكومة وتعديل الدستور الآن فات أوانها ولن ترضي الشارع. أقترح أن تدعو لاستفتاء على استمرارك في الحكم. لكنه رفض وقال إن ذلك غير دستوري ومخالف للشرعية." وأمام رفض الرئيس كثّف السيسي اتصالاته بمحمد البرادعي، الذي اختارته جبهة الإنقاذ الوطني المعارضة للتفاوض مع الجيش وبالقيادات الدينية للمسلمين والمسيحيين متمثلة في الإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر، والبابا تواضروس رأس الكنيسة القبطية، وكان الاثنان قد أيدا حركة الاحتجاج علانية. كما أشرك قائد الجيش مؤسسي حركة "تمرد" وزعيم ثاني أكبر الأحزاب الاسلامية هو حزب النور السلفي الذي ينافس الإخوان على أصوات المسلمين، والتقى الجميع بمقر المخابرات العسكرية يوم الأربعاء الثالث من يوليو الذي انتهى فيه إنذار الجيش لمرسي، واستمر الاجتماع نحو ست ساعات وتبنى الجيش الخطة التي اقترحتها الحركة ووافقت عليها الجبهة. المصدر العسكري أكد محاولة السيسي الاتصال بزعيم الإخوان المسلمين لاقتراح خيار الاستفتاء لكنه رفض الحضور هو وآخرون، كما عرضها على الساسة وغيرهم لكن أعضاء تمرد رفضوها واتفق الآخرون تقريبًا على كل شيء اقترحته تمرد. قلق خارجي أطراف خارجية كانت تشعر أيضًا بالقلق لأسباب ليس أقلها أن مصر تحصل على قدر كبير من المعونة الامريكية وأن مرسي كان يمثل فرصة للديمقراطية في المنطقة؛ فقال البيت الأبيض إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما اتصل خلال زيارته لتنزانيا بمرسي يوم الاثنين الأول من يوليو وحثه على الاستجابة لمطالب المحتجين. بينما صرح وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، للصحفيين خلال جولة في الشرق الأوسط الأسبوع الماضي "قدمنا توصيات كثيرة لأصدقائنا في مصر. نحن نحاول المساعدة مثلما تحاول دول أخرى لإيجاد مكان للمعارضة في العملية السياسية لتنفيذ بعض الإصلاحات الاقتصادية التي تسهم في جذب الأعمال ورأس المال وبدء تحريك الاقتصاد". لكن مسؤولين أمريكيين آخرين أبدوا تشككًا في قدرة مرسي على توحيد البلاد والخروج من الأزمة. وخلف الكواليس اتصل وزير الدفاع الأمريكي، تشاك هاجل بالسيسي، حسبما أعلن البنتاجون. وامتنعت الوزارة عن الافصاح عما دار بين الرجلين لكن المصالح المشتركة بينهما كثيرة؛ فمصر تتحكم في قناة السويس التي تمر عبرها نسبة كبيرة من شحنات النفط المتجه للغرب كما أن واشنطن تقدم للقوات المسلحة المصرية مساعدات قيمتها 1.3 مليار دولار سنويًا. هذا ويكتنف الغموض حتى الآن القدر الذي كانت تعلمه الولاياتالمتحدة مسبقًا عن نوايا الجيش المصري. وفي الشهور الأخيرة حثت السفيرة الأمريكية في القاهرة، آن باترسون، الرئيس مرسي في السر والعلن على إتاحة مساحة أكبر للمعارضة في إدارة شئون البلاد لكنها ظلت تشدد على أنه الرئيس الشرعي مما أثار اعتقادًا شائعًا في مصر أن الولاياتالمتحدة تدعم الإخوان وكذلك قطر التي دعمت مصر في ظل حكم مرسي بنحو سبعة مليارات دولار. الواضح أنه رغم تصريحات السفيرة العلنية تأكيدًا لشرعية مرسي وهي التصريحات التي أدت إلى انتقادات حادة لها في وسائل الاعلام المصرية فلم يكن هناك أي ضوء أحمر من واشنطن تحذيرًا من استيلاء الجيش على السلطة.