منذ عام تقريبًا كتبت هذا المقال، وكان في أول أيام عيد الفطر بعد مرور شهر على فض اعتصام التحرير في أول أيام رمضان الماضي، وكان للاعتصام أهداف ونتائج، وكان لفضِّه أهداف ونتائج. وما زلت أرى أن المقال صالح اليوم، بتغيير قليل من الأسماء وقليل من الأحداث: «اليوم تمرُّ ثلاثون يومًا على فضِّ القوات المسلحةِ وقوات الأمن المركزي اعتصامَ ميدان التحرير، من أجل عدد من الأهداف التي أعلن عنها المجلس العسكري الموقَّر، مثل تسيير المواصلات خلال شهر رمضان في القاهرة حيث يتوسطها ميدان التحرير، وإشاعة الطمأنينة والأمن بين المواطنين بسبب انتشار أعمال البلطجة، وتشغيل -لا مؤاخذة- عجلة الإنتاج. وبالطبع سجَّل عدد كبير من الكاميرات -رغم حرص قوات فضِّ الاعتصام- طريقة الفض، التي كانت أشبه بالاغتصاب لا بمجرد الفض، فمِن إطلاق رصاص الصوت، إلى الضرب بالهراوات، إلى اقتحام مسجد عمر مكرم وضرب اللاجئين إليه خوفًا من الفاضِّين، إلى كشف أوجه المنتقبات في المسجد للتأكد من أنهن نساء! (يذكِّرُني هذا بكشوف فضِّ البكارة). … حسنًا… لقد انفضَّ الاعتصام، وعاد بلطجية التحرير إلى بيوتهم، وبكى منهم من بكى، واستحمَّ منهم مَن استحم… المهم أن الميدان انفض… ولكن ممَّا نراه حتى الآن، بعد ثلاثين يومًا من الفضِّ، يبدو أنه لم يتحقق شيء من أهداف فضِّه، ولا حتى تسيير المواصلات! لي أمل وحيد بسيط أرجو أن يتحقق في الإنسان المصري بكامله قبل البتِّ في أي أمر: أن يبحث عن لُبِّ الأمر الذي يفكِّر فيه؛ لقد كانت المجموعة القليلة المعتصمة في التحرير تثير في نفس مَن يسمع عنهم أو يراهم مجموعة من التعبيرات: مخرّبون، كَفَرَة، لا يعرفون مصلحة البلد، عملاء، خَوَنَة، بلطجية… حسنًا، لا مانع عندي من هذه الأوصاف، وسأتفق مع أخي المواطن الشريف الذي يطلقها على أنها أوصاف صحيحة… ولكنْ لي تساؤل: هذا المخرِّب الكافر العميل الخائن البلطجي الذي لا يعرف مصلحة البلد… ينادي بمحاكمة القَتَلَة واللصوص وتطهير مؤسسات البلد من الأذناب، فلماذا تتجاوز أخي المواطن الشريف عن كل ما ينادي به هذا المخرِّب الكافر العميل الخائن البلطجي الذي لا يعرف مصلحة البلد، وتقف هاتفًا بصفاته التي لا تعجبك، والتي قد تتجاوز وصف طريقة تفكيره وطريقة حياته إلى وصف شكله (شعره منكوش ووجهه عليه غضب الله)؟! والله إنك أخي المواطنَ الشريف لَتذكِّرُني بهذه النكتة الطريفة: - على فكرة، مراتك ماشية مع الواد حسين الكهربائي. - ولا بيفهم في الكهربا. نفس التجاوُز عن القضية الأساسية والتعلق بأذيال وأطراف لا تؤدي إلا إلى مزيد من البعد عن لُبّ الموضوع. … فلنعُد إلى فضِّ الاعتصام، هذه النقطة الفارقة في التاريخ المصري المعاصر! لقد قام الاعتصام أساسًا بسبب ما حدث من إهانة أهالي الشهداء في موقعة "البالون" وما تبعَها، ونعتهم ومَن معهم بالبلطجية والمخرِّبين. قبل هذا الاعتصام كانت الأمور كالتالي: - محاكمات قَتَلَة الثوار تتمّ في الخَفَاء، ونُفاجَأ بإطلاق سراح ضباط السويس المتَهمين. - محاكَمات الوزراء الفاسدين في حكومة مبارك يُبَرَّأ فيها أربعة وزراء في يوم واحد. - البلطجة وعدم الأمن في كل ربوع مصر. - الغلاء الفاحش في كل السلع. - … (تقدر حضرتك تكمّل أكثر من هذا بكثير). وفي بداية الاعتصام لم يرضخ المجلس العسكري ولا الحكومة لمطالب "البلطجية"، الذين لم يجدوا بُدًّا من أمرين: - إغلاق مجمَّع التحرير. - إضراب بعضهم عن الطعام. نتيجة القرارين واستمرار الاعتصام: - ما سُمِّيَ ب"تطهير" الداخلية. - تغيير عدد كبير من المحافظين. - علَنيَّة المحاكَمات. - نقل المحاكمات على الهواء للجميع في البيوت. - عقد عصام شرف لجنة من أربعة وزراء لتقليل أسعار السلع في مصر مع دخول شهر رمضان الكريم. أما بعد فضِّ الاعتصام، الذي حدث من أجل تسيير المواصلات خلال شهر رمضان في القاهرة حيث يتوسطها ميدان التحرير، وإشاعة الطمأنينة والأمن بين المواطنين بسبب انتشار أعمال البلطجة، وتشغيل -لا مؤاخذة- عجلة الإنتاج، أما بعد هذا فقد حدث ما يلي: - قرار منع نقل المحاكمات على الشاشة. - ازدياد نسبة البلطجة والقتل والتفجير والتدمير لأتفه الأسباب (راجع صفحة الحوادث في أي جريدة مصرية). - ازدياد أسعار السلع طوال شهر رمضان (وسلِّم لي على لجنة شرف لتخفيض أسعار السلع). - قتل الجنود المصريين على حدود إسرائيل، وما تبعه من قرار سحب السفير، الذي اتضح أنه لم يُقرَّر، ثم اتضح أنه مسوَّدة، ثم لم يُسحَب سفير، ولم يُطرَد سفير، ولم نصل إلى شيء، وعُوِّمَت القضية كبقية قضايا البلد. - لم نرَ حتى اليوم مكانًا دارت فيه عجلة الإنتاج، إلاّ القنوات التليفزيونية التي احتلَّها فلول النظام السابق من ممثلين ومذيعين، إلاّ مَن رحم ربي. … هذه هي الأمور بشكل واضح، قبل، وفي أثناء، وبعد، الاعتصام… فهل ما زلتَ أخي المواطن الشريف ترى أن المعتصم في التحرير هو ذلك المخرب الخائن العميل الكافر البلطجي الذي لا يعرف مصلحة البلد؟ وهل ما زلت ترى أن المجلس العسكري هو أمل البلد في الاستقرار؟ وهل -وهو الأهم- أحسست بدوران عجلة الإنتاج التي صدَّعونا بتعطيل الاعتصام لها؟ هل أحسستَ بالأمان بعد فض الاعتصام؟ هل أحسستَ بأي تغيير بعده؟ أم أنك مشغول بسماع شيوخ السلفيين وقادة الإخوان وهم يكفِّرون مَن يعتصمون كما كنتَ مشغولاً بسماع بعضهم وهم يُفتون أيام يناير بكفر مَن يخرج على الحاكم ولو كان ظالِمًا، أم أنك ممن ينشغلون بسماع المثقفين والمتثاقفين وهم يحلِّلون كل ما يحدث ويتوقعون ما سيحدث، ثم يصدِّعونك بعدها ببضعة أيام ليحلِّلوا سبب عدم حدوثه؟ … أرجوك أخي المواطن الشريف، تجاوز الأمور الشكلية، وانظر إلى اللُّبِّ، فهو الأهم والأخطر لمصلحتك ومصلحتي ومصلحة بلدنا، ولا تغلق أذنيك عن سماع غيرك ولو كان مختلفًا معك، بل ولو كان كافرًا، فإن الحكمة ضالَّة المؤمن أنَّى وجدها فهو أحقُّ الناس بها، ولو كانت من لسان كافر، فإن كانت مصلحتك ومصلحة أهلك وبلدك ينطق بها المخرب أو الكافر أو الملحد أو العلماني أو الليبرالي أو البلطجي… فاستمع له. وإن كان الفساد من لسان أخيك في الدين والرأي والدم فاستمع إليه ولا تستمع له. فإن المفسد مفسد ولو كان من دمك، والمصلح مصلح