[صبحي موسى]لا بد من أن العالم الغربي والعربي وربما الإفريقي والأمريكي لاتيني يضحك الآن أعماقه على سخرية القدر التي وقع فيها المصريون، فلا أحد يتخيل أن البلد التي علمت الدنيا بأسرها الطب والفلك والهندسة والدين يمكنها أن تقف عاجزة عن صياغة عدة مواد دستورية، البلد التي كان دستورها مكوناً من عبارة واحدة يقولها الميت أمام ريشة ماعت ( أقسم أنني لم أكذب ولم أسرق ولم ألوث ماء النهر)، هذه البلد تقف الآن حائرة وهي تختار لجنة تأسيسية لدستورها، وكأنها تخترع العجلة من جديد، تلك العجلة التي اخترعتها هي بنفسها منذ ما يقرب من سبعة آلاف عام، وقدمتها لغيرها من الأمم، فلقبت بأثينا السوداء، ولقبت بهبة النيل، وأم الدنيا، وحضارة السبعة آلاف عام، لكنها ويا للعجب غارقة في شبر مية، وكأنها تخترع الذرة، وليست ستكتب ما كتبته مئات المرات على مدار تاريخها، كتبته قبل توحيد القطرين وبعده، وكتبته حين أنشأت الأهرامات في الدولة القديمة، وحين نهضت من عصر الفوضى الأول، وحين وضع بيبي الأول لوحاً تذكاريًّا له في عمان على ساحل الخليج العربي، وحين عقد تحتمس أول معاهدة سلام في التاريخ، وحين ارتدى الملك الفارسي تاج القطرين المصري، وحين جاء الإسكندر ليحمل نسب آمون، وحين أنشأ البطالمة معبد السيرابيوم، وحين كتب الآباء الأوائل أبحاثهم حول طبيعة المسيح، وحين خط يوحنا الذهبي قواعد الرهبنة، وحين وقعت الكرة في حجر عمرو بن العاص فتنبأ له الكهنة بأنه سيكون حاكماً لمصر، وحين خرج المصريون من بلادهم إلى مدينة رسول الله ليثوروا على خليفته الثالث، محتجين على محاباته لأقاربه، رافضين جور عبد الله ابن أبي السرح عليهم، وكتبوه حين خرج البشموريون على المأمون، غير آبهين بجيوشه الجرارة، ومصرين على أن يكونوا أحراراً وليس عبيداً لولاته، كتبوه حين كانت المساجد في اليمن والحجاز والمدينة ومكة والشام تدعو لأحمد ابن طولون مع الخليفة العباسي، وحين وضع الليث بن سعد ثاني المذاهب الفقهية في الإسلام، وحين جاءها الشافعي قائلاً: والله لا أسامح أحد يأخذ بفتواي القديمة، وحين ردت المتنبي خالي الوفاض لأنه جاءها طالباً الإمارة بمعسول المديح لا بالجهد، وحين أرسل العزيز بالله جيوشه لييقض على القرمطة في البحرين، وينقل بني على من مرابعهم في شبه الجزيرة ليضعهم تحت أعينه في الفيوم وأجوارها، كتبوه حين ردوا الحملات الصليبية على أعقابهم، وحين خرج بببرس بجيوشه ليقضي على آخر معاقل الصليبيين والمغول في الشرق، فطاردهم حتى حدود فارس، كتبوه حين حفظوا ألف ليلة وليلة وسجلوها بأقلامهم، وحين سطروا من عدم حسبما ذكر ابن خلدون في مقدمته سيرة بني هلال، وحين قدموا للبشرية ملاعيب على الزيبق وانتصاراته على المماليك، كتبوه حين أخذ السلطان العثماني مهرة الصناع والمهنيين ليشيدوا له مدينة ملكه، وحين أجبروا الفرنسيين على إقامة أول برلمان في الشرق الأوسط، وكان العلماء هم أصحاب الكلمة فيه، وحين فرضوا محمد على كحاكم لهم على الأستانة، وحين ذهبت جيوشه لتدك الدرعية على رأس محمد بن عبد الوهاب، وحين كتبت أول دستور في الشرق الأوسط في عهد إسماعيل، وحين ألفت أول برلمان في عهده، وحين قال أحمد عرابي كلمته الأثيرة لتوفيق: " لقد خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا عبيداً، ووالله إنا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم"، وكتبته حين أنشأت أول جامعة أهلية، وحين حصلت على استقلالها باستحقاق بعد ثورة عارمة شاركت فيها المرأة مثلما شارك فيها الأقباط والمسلمون، كتبتها حين أخرجت الملك والانجليز وعاندت أمريكا وبنت السد العظيم وساعدت الثورات العربية وحركاتها التحررية، كتبتها مع دساتير 1882، 1923، 1954، 1971، كتبتها وهي تضع مئات المسودات من الدساتير، وهي ترسل أبناءها ليوقظوا البلدان العربية من سباتها، ويكتب لمن تحرر منها دساتيرها، كتبتها حين فتحت ذراعيها لكل مبدعي الشرق وفنانيه، حين استقبلت التونسي والبستاني والنقاش، واستمعت للأطرش وصباح ووردة وفايزة وأصالة، وحين ترنمت مع ليلي مراد " يا رايحين للنبي الغالي… عقبالكم وعقبالي"، وأنشدت مع أم كلثوم " هات إديك ترتاح في لمستهم إديا"، كتبتها حين خرج أكثر من عشرين مليون مصري في يوم واحد لمواجهة سلطة العسكر والداخلية وغيرها من آلات القمع في ميادين مصر، فكيف نعجز عن كتابة دستور يستطيع أي أستاذ قانون مصري أن يكتبه؟! لا أعرف متى أصبحت مصر إمارة إسلامية مختطفة، ولا أعرف متى أصبح المجتمع المصري تيارات دينية وقوى مدنية، لا أعرف من اين هبطت تلك النزعة الصحراوية في التقسيم والتفتيت، لا أعرف من أين جاءتنا اللجنة العليا للانتخابات، ولا السلطة المخولة للمجلس العسكري، ولا الطمع المتوالي في السلطة لدى أناس كانوا ضد الخروج على السلطة، وكانوا مع النظام القديم، وكيف يمكن أن يكتب الدستور أناس لا يعرفون معنى كلمة دستور، أعتقد أن مصر مقبلة إما على أن يوجد بها دستوران: دستورهم ودستورنا، وأن يكون بها نوعان من المحاكم، محاكمهم ومحاكمنا، وأن يكون بها نوعان من الداخلية والجيش والوزارات، والمؤسسات والمحليات والمساجد، كل منها مبني على دستورها الخاص، أعتقد أننا صرنا دولتين، الدولة السلفية والدولة المدنية، دولتهم ودولتنا، ديننا ودينهم، وأننا قريباً قد ندخل في مسلسل السودان، الجنوب والشمال، اليسار واليمين، والسلفيين والعلمانيين، لكنني لا أعرف كيف يمكن أن يستقل المصريون من الاحتلال الديني الصحراوي الذي هبط فجأة، ولا كيف نسقط دستورهم إذا ما استطاعوا أن يكتبوه، أعتقد أنهم يقاتلون بكل ما يملكون من أجل شيء ما، من أجل دولة ما، من أجل سلطة ما، لكنها دولة وسلطة ودستور لم يكن موجوداً طوال سبعة آلاف عام على ضفاف النيل.