لو تأملت في نفسك، لوجدت أن المنظور فيك والمستور، يطلبان بين الفينة والفينة سقاءً وغذاءً، وإن اختلف نوع السقاء والغذاء، ولا تنفك عن ذاك الطلب روح ولا مادة!. فأما المنظور، وهو ذاك الصندوق المادي المُبهر والذي يُسمي بالبدن، فيتزود مما تخرجه الأرض التي أخرجته، بقدرة الخلاق العليم، وكأن البدن يُعلن التصاقه بالأرض وركونه إليها، وأما المستور وهي الروح، فتتزود من لدن خالقها وعالم سرها، وذلك بالتقرب إلى أنوار جلاله وكماله وجماله، وكأن الروح تعلن رغبتها في السمو والارتقاء نحو السماء.
والروحُ تسكن البدن ما دام صالحاً لإقامتها، فإذا فسد تغادره إلى مستقر لا يعلمه إلا الله، كأن يموت الإنسان موتاً مادياً، فيتحلل جسده ويعود إلى أصله، إلى التراب، على أن هنالك نوع آخر من الموت، يحدث حين تضمر الروح وتفتر في بدن صاحبها، فيبدو وكأنه ميتاً رغم تمتعه بالحياة!، ذلك يحدث حين تفقد الروح حبال اتصالها بصاحب أمرها.. بالله.. قال الله تعالى: { أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }.
من أجل ذلك كانت الحياة في ظلال طاعة الله هي الزاد الذي يَبْعَثُ في الروح إشراقها وتألقها، ولذا جُعِلَتْ التقوى خير الزاد، قال سبحانه: { .. وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}، ولأن الطاعة تحتاج إلى نفس أبية وروح نقية وإرادة فتية، ولأن طريق الوصول إلى الحياة الباقية شاقٌ وطويل، كانت دعوة المعصوم «صلي الله عليه وسلم» إلى عموم الموحدين في شخص أبي ذر «يا أبا ذر: أحكم السفينة فإن البحر عميق، واستكثر الزاد فإن السفر طويل، وخفف ظهرك فإن العقبة كؤود، وأخلص العمل فإن الناقد بصير».
إن النفس قد تتمزق في متاهات الهوى، فلا تعرف في أي درب تسير، ولا لأي وجهة تقصد، فتحيا في اضطراب وقلق، فتأتي رحمة الله لتنشلها من هوة الضياع، فتهب لها أياماً ذات طبيعة خاصة لتتزود من معينها بزاد الإيمان، لتنتفض الروح من جديد وتتألق، على حساب بدن مُنِعَ الطعام والشراب و الشهوة، لتحلق الروح بالمادة في جو ملائكي رائع.