اكتسبت "ثقافة الابتكار"، في مصر دعمًا لافتًا في عام 2014، الذي يمضي حثيثًا في شطره الثاني والأخير بينما يتوج هذا العام بمبادرة قومية أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي تشجع ثقافة الابتكار وتتوالى إبداعات مبتكرين مصريين وخاصة من الشباب. وجاءت ردود أفعال المثقفين المصريين إيجابية ومرحبة بمبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي "لمجتمع يتعلم ويفكر ويبتكر"، وهي المبادرة القومية التي أطلقها في عيد العلم لتعبر عن إدراك عميق لأهمية ثقافة الابتكار وتستهدف توجيه أولويات الدولة نحو بناء الإنسان. وكان السفير علاء يوسف المتحدث باسم الرئاسة، قد أوضح أن هذه المبادرة سيتم تنفيذها على ثلاث مراحل قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى وسيجري في إطارها تنفيذ العديد من المشروعات وأعمال التطوير والتحديث لمنظومة البحث العلمي. وها هي هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، تلقى أضواء على المخترعين من الشباب المصري الذين يبتكرون حلولا لمشاكل الواقع في وطنهم وتستكشف جوانب مضيئة في المشهد المصري، لافتة إلى ما يحدث داخل "معهد تكنولوجيا المعلومات". وذكرت "بي بي سي"، في تقريرها أن سمعة المطورين والمخترعين الشبان في هذا المعهد تعدت حدود مصر إلى العالمية معيدة للأذهان فوز فريق منهم في شهر يوليو الماضي بجائزة دولية في مسابقة "مايكروسوفت للتخيل". وكان من الدال أن يقول وليد خيري أحد أعضاء هذا الفريق الشاب من المخترعين المصريين لهيئة الإذاعة البريطانية أن الهدف كان أبعد من الحصول على مكانة عالمية فالهدف هو "الاسهام في حل مشاكل مصر الصعبة". ويبدو أن هذا الشاب المصري المبتكر لم يغب عن ذهنه القول المأثور: "إذا أراد الله بقوم سوءا منحهم الجدل وحرمهم العمل" عندما قال للبي بي سي:"الانشغال بالعمل هو الحل دائما للمساهمة في حل مشاكل البلد" مضيفًا: أن "كثيرًا من الوقت نستهلكه في جدال بشأن أفكار مختلفة ومن الأفضل استغلال هذا الوقت للعمل على تحقيق هدف من أهدافك". وتابع وليد خيري البالغ من العمر 24 عاما: "على كل فرد أن يهتم بإصلاح نفسه أولا ثم اتقان عمله ثانيا فهذه بداية حل مشكلات بلادنا.. نجاح كل فرد في مجاله هو البداية الصحيحة"، فيما كان بعض المخترعين الشبان من زملائه قد اخترعوا طائرة صغيرة بدون طيار لرصد المشكلات الفنية التي تقلل من كفاءة أبراج نقل الكهرباء وجرى استعراض هذه الطائرة خلال زيارة قام بها رئيس الوزراء إبراهيم محلب لهذا المعهد. وقالت المهندسة هبة صالح القائم بأعمال رئيس معهد تكنولوجيا المعلومات لبي بي سي: "أحد أهدافنا الرئيسية تدعيم البعد التنموي للطلاب وتحفيزهم على توظيف مهاراتهم التقنية لايجاد طرق لحل مشاكل مجتمعية باستخدام تقنيات الاتصالات والمعلومات"، موضحة أن المعهد "جهة إبداع وابتكار حلول لمشكلات البلاد". وكان طلاب في هذا المعهد قد ابتكروا تطبيقًا يساعد الصيادين على تحديد الأماكن التي تتكاثر بها الأسماك وذلك بالتعاون مع هيئة الاستشعار عن بعد وهيئة الثروة السمكية كما تضمنت مخترعاتهم سيارة صغيرة مزودة بالكاميرات بمقدورها إرسال صور فورية من تحت انقاض المباني المنهارة أو مواقع الحرائق. وحسب ما قاله عاطف حلمي وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، إان وزارته تعول كثيرًا على طلاب هذا المعهد "في البحث عن حلول لمشكلات مصر"، غير أن المبدعين الشبان المتحمسين -على حد وصف هيئة الإذاعة البريطانية - يشكون من عدم الاستفادة من ابتكاراتهم. وفي المقابل قال الوزير عاطف حلمي: "ندرس بجدية الآن إنشاء كيان عملاق يستوعب الأفكار المبتكرة ودراسة سبل تطبيقها لأن هذا هو التطور الطبيعي لو أردنا تطبيق خطتنا لجعل تكنولوجيا المعلومات هي الحل لمشكلات التنمية". وأوضح أن هذا الكيان سيكون أول مجمع للابتكارات بالتعاون مع وزارة البحث العلمي، كما أشار إلى اتصالات تجريها وزارته مع وزارات الكهرباء والتعليم والطاقة للاتفاق على آلية للاستفادة من مبتكرات المبدعين الشبان. ورأت المهندسة هبة صالح أن "المشكلة الرئيسية هي أننا في مصر لانزال نفتقد الرؤية الشاملة لأهمية التكنولوجيا البالغة ولم تترسخ القناعة بعد بأنها عصب الحياة في كل المجالات" غير أنها أعربت عن اعتقادها بأن هذه الرؤية "تتشكل الآن"، فيما توقعت أن نرى قريبًا مظلة لاستيعاب إبداعات هذا المعهد. وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي، قد أكد في سياق الاحتفال بعيد العلم على "محورية دور العلم في الحياة المعاصرة"، وضرورة الاهتمام بشقه التطبيقي ليسهم في تحسين مستوى المعيشة وتوفير احتياجات المواطنين ودعا للاستفادة من نتائج الأبحاث العلمية المصرية لاسيما في قطاع الصناعة. ووجه السيسي في اجتماع مع أعضاء المجلس التخصصي للتعليم والبحث العلمي التابع لرئاسة الجمهورية بتشكيل فريق عمل من الوزارات المعنية ليكون بمثابة حلقة الوصل بين مختلف الجهات المسئولة عن منظومة البحث العلمي في مصر. وقال الدكتور السيد عبد الخالق وزير التعليم العالي أن المرحلة المقبلة سترتكز على ربط العملية التعليمية بالقطاعات الإنتاجية والخطط الاقتصادية والاجتماعية بما يشجع على الابتكار والابداع منوهًا بأن وزارته بصدد إنشاء مركز لتنمية وتطوير إبداعات الشباب. ومنذ عام 1950 قال مثقف وصناعي مصري كبير شغل منصب رئيس اتحاد الصناعات حينئذ وهو صبحي وحيدة في كتابه "في أصول المسألة المصرية" أن التعليم لن يغني عن المتعلمين شيئا ماداموا لايجدون في الحياة اليومية مايتصل به من ظواهر يستطيعون بمعالجتها "أن يطبقوا علمهم وينموا ملكاتهم ويرتفعوا إلى الابتكار". وفي سياق الحلول المبتكرة لبعض المشاكل التي تواجه الإنسان المصري، في حياته اليومية، اختارت وزارة التموين تطبيق اختراع للدكتور عصام عبد المولى مدير مركز الاستزراع المائي بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا تقوم فكرته على تحويل زيت الطعام بعد القلي عدة مرات إلى وقود. وفي تصريحات لوسائل الإعلام أكد هذا المخترع المصري على أن تطبيق الفكرة كفيل بتوفير مليارات الجنيهات موضحًا أن الجهاز الجديد يحول جميع انواع الزيوت النباتية إلى سولار في غضون 48 ساعة ويمكن استخدامه في أي منزل حيث لاتتجاوز مساحته متر في متر. وإذا صح ما نسب للعالم الشهير اينشتاين من أن "الغباء هو فعل الشيء ذاته مرتين بالأسلوب ذاته مع انتظار أو توقع نتائج مختلفة "فثمة حاجة لتحديث علاقات العمل وإطلاق الأنشطة الاقتصادية للنمو وتبني مقاربات تنطلق من منظور شامل وعادل بعيدًا عن المعالجات الجزئية أو التلفيقية في عالم يمضي بالفعل موغلا بعيدا بعيدا، في مدهشات الابتكار واستعارة المفاهيم وتفاعلها بين مجالات قد تبدو متباعدة للغاية لكنها في الواقع أمست قريبة بشدة من بعضها البعض في ظل العلاقات الشبكية ومنجزات شبكة الإنترنت. هذا عالم يندفع بإيقاع شبكة الإنترنت نحو مستقبل تتصارع القوى الكبرى الآن على تحديد ملامحه وقد تتفق على صيغة ما لتقاسم غنائمه رغم محاولات مثقفين كبار في الغرب للبحث عن معنى أكثر إنسانية لهذا المستقبل ومحاولة اضفاء طابع أخلاقي على الثورة الصناعية الجديدة والاقتصاد الرقمي. وإذا كان مثقف غربي مثل تشارلز كيني يتبنى نظرية متفائلة حول اتجاهات الاقتصاد العالمي وإمكانية فوز الجميع شريطة العمل والابتكار فإن كريس اندرسون تناول في كتابه "صانعون: الثورة الصناعية الجديدة"مفهوم "الإنسان المشروع"، أي ذلك الذي يحمل مشروعا هو في الحقيقة جزء من المشروع الكبير أو الحلم الجمعي لبلده و"يوتوبيا واقعية لا مكان فيها لعاطل". والثورة الصناعية الجديدة في تنظير كريس اندرسون تقوم على شبكة الإنترنت وتعتمد تمامًا على مفاهيم العصر الرقمي و"معامل الابتكار" و"جسارة الخيال"، مع توظيف التقنية الرقمية بما يتناسب مع مواهب كل فرد وميوله وقدراته. والمهم في هذا السياق أنها تتيح للفرد الواحد أو حسب تعبيره "الكائن المنتج"، أن يتحول بالفعل إلى مؤسسة بمفردها أو مشروع اقتصادي وبالتالي توسع من نطاق حريته ضمن علاقات شبكية مع بقية أفراد المجتمع المنتج. وهكذا تتولد مفاهيم وتطبيقات جديدة لثقافة العصر الرقمي مثل ما يسمى "بالتصنيع بالإضافة"، وتقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد التي تشكل ثورة في مجال التصميم الصناعي وهي تقنية ليست كما قد يوحي اسمها تتعلق بقضايا الطباعة المتعارف عليها أو التي ترد للذهن لأول وهلة.. ودون الدخول في تفاصيل فنية قد تبدو معقدة فإن هذه التقنية التي تعرف بالطباعة الثلاثية الأبعاد تدخل في مجالات إنتاجية عديدة بل وتشمل الطب والفضاء وتحسن جودة المنتج بالجمع بين التصميم والتصنيع كما تخفض من تكلفته وتشكل المدخل الجديد لعالم المستقبل. ومن قبل أصدر كريس اندرسون كتابه "الذيل الطويل"، الذي نحت فيه أيضًا مصطلحات جديدة مثل "أسواق المشكاة أو الكوة الجديدة للفرص التي تتيحها شبكة الإنترنت "فيما تستعيد الذاكرة الطازجة كتاب "من يملك المستقبل ؟" لمؤلفه جارون لانيير. وجارون لانيير عالم كمبيوتر وصاحب فتوحات في دنيا الحاسوب ومثقف مهموم باشكالية الافتقار للعدالة المعلوماتية في عصر الاقتصاد الرقمي وانعكاسات هذه الاشكالية بما تنطوي عليه من "استعمار أو إمبريالية معلوماتية جديدة "على المستقبل. وقد نحت جارون لانيير في هذا الكتاب الذي اثار جدلا ثقافيا كبيرا في الغرب مصطلح "نظام الاقطاع المعلوماتي" الذي يحقق مكاسب مالية كبيرة للفئة المالكة بجشعها المفترس للعبيد أو الأقنان في هذا النظام الجديد بظلاله المستقبلية القاتم. وتعرض جارون لانيير لقضايا مثل مآلات القيمة الاقتصادية ومساراتها في عصر المعلومات فيما المعلومات تتجاوز من حيث أهميتها للاقتصاد أهمية العمالة البشرية ويناقش كذلك أهمية المعلومات التي يولدها الإنسان المعاصر ذاتيًا والتغير في مفاهيم إنسان العصر الرقمي مثل مفهوم السعادة. ونحن!..أين نحن من هذه المتغيرات الخطرة في العالم والاقتصاد الرقمي؟!..هذا عام نلمح في نهايته البشارة لمصر لأن الحياة غلابة والأمل القائم على المعرفة وثقافة الابتكار وقود إلى مستقبل قادر على زمانه كما أن هناك تاريخًا لدى هذا الشعب يزكي ويرجح ويطمئن المتشوقين بلهفة لما ينتظرونه باستحقاق. لكن ثمة حاجة واضحة لمستويات جديدة من النضج والانضباط والمسئولية الجماعية لبناء مستقبل مصري ولا وقت نضيعه في المتاهة الخرساء رغم الضجيج الظاهر حتى لا نستجير في انتظار رحمة الإمبريالية الجديدة في العصر الرقمي. بالعقل الحر والفكر المبدع وبثقافة الابتكار والأمل والعمل تنفتح نوافذ النور وشرفات الأمل في نهاية هذا العام في مصر لتبدأ في جني ثمار ثورتها الشعبية بموجتيها في 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 وتتجسد خيارات العدل والحرية في أرض الكنانة.