رسم قُبلة جميلة على خدها قبل خروجه من باب الشقة حاملًا حقيبته في السابعة صباحًا، كعادته كل يوم، شعرت أن طعم القبلة اليوم مختلف عن كل القبلات التي كان يمنحها إياها يوميا فشعرت بقشعريرة في جسدها عندما لامست شفتاه خديها ونظرت في عينيه فودعته بحضن أفرغت فيه كل حنانها واشتياقها إليه، ليطوق بيديه خاصرتها ويبادلها حضنا بحضن أشد. طرق على جيرانه الباب المجاور لشقته لتصاحبه زميلته أسماء في رحلتهما اليومية لتخرج زميلته في المدرسة أسماء لتستقبله والدتها بترحاب شديد، فدعته ليدخل قليلا لكنه رفض، فالموعد على الرحيل قد اقترب ولا يريد أن يتأخر أكثر من ذلك، فودعتهما والدة أسماء بسلام حار شعرت بحرارته عندما لامست يد أحمد كفيها. خرج الطفلان أحمد الطيار وأسماء إلى الشارع في انتظار الحافلة التي تقلهما يوميا إلى المدرسة وبينما هما في انتظار قدومها بدأ معها الحديث عن المدرسة، وأنه اليوم سيقدم الإذاعة المدرسية وأعد برنامجا حافلا بالأخبار والمعلومات سيكون مختلفا عن كل البرامج التي قدمها من قبل، وأثناء حديثه معها لمح ظلها الخافت يتحرك قليلا رغم ثباتها أمامه بعد سماعه صوت اصطدام عنيف ليرى عمود الإنارة المجاور لهما يريد أن ينقض على زميلته بعدما صدمته سيارة تابعة لهيئة النظافة، جذبها إليه بشدة وأبعدها عن موضع سقوط العمود لتنجو أسماء ويسقط فوق رأسه لتنفجر الدماء في الحال من الرأس الذكية والفتاة الصغيرة أصابتها الصدمة بعقدة في اللسان ورعب في القلب لم تستطع أبدا أن تتحرك من موقفها.. تتهتك الجمجمة، والنزيف الحاد يتواصل من الجسد النحيل، فيسارع المارة بنقل أحمد إلى المستشفى، لكن الروح البريئة تصعد إلى بارئها قبل أن يصل، ويهرب عامل الونش وسائق سيارة رفع القمامة. يجلس الأب بجوار ثلاجة الموتى في مستشفى الهرم، لا يتوقف لسانه عن ترديد قول «حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيرًا منها»، ثم يتوقف للحظات ويخاطب شقيقته الكبرى قائلا: «أخوك مات.. أخوك خلاص لن نراه مرة أخرى.. ابني ضاع وضاع معه كل شيء، من سيعوضني عن فلذة كبدي، هو ابني الوحيد.. رزقني الله به وانتظرته أكثر من 30 عاما، يذهب فجأة ولن أراه». تتحول كلماته إلى بكاء ونحيب ممن يقفون إلى جواره. الصدمة أصابت الأم على وليدها الصغير الذي أنجبته على سبع بنات.. تمسك دفاتره بين يديها، والدموع تبللها وتغرق خديها وتهزي بكلمات تنتظر بها دخول ابنها عليها.. تحدق كثيرا إلى باب الشقة لعله يفتحه ويدخل، وأخواته البنات يحطن بالأم في حالة من الفزع على فراق الأخ الوحيد وكلمات الأم تجعلهن في حالة من البكاء الدائم.. وتشاركهن والدة أسماء التي تركت منزلها وجلست معهم طوال يومها تحاول أن تخفف عنهم جميعا أو لتشكر روح أحمد الذي أنقذ ابنتها وضحَّى بنفسه من أجلها. والأم آخذة في النحيب تقول: «أحمد كان شهما ونور عيني وعين كل الجيران.. كان عقله أكبر من سنه.. ابنى الوحيد فوق سبع بنات.. دائما يرفض الذهاب للمدرسة إلا مع أسماء التي أوصاه أبوها عليها، فعمل بالوصية وراح مني بسبب إهمال عمال النظافة.. منهم لله.. قتلوا ابني.. قتلوه». كانت تلك بعض من كلمات الأم أغرقت المكان بدموع كل الجالسات إلى جوارها ولم يبقَ مجال لسماع المزيد فقد اهتزت القلوب بالنشيج واختلطت العَبَرات بالكلمات وارتجت الصالة بالأصوات التي تدعو لها بالصبر والثبات في مصابها الأليم. أسماء التي كانت ترافقه في الواقعة قالت: أنا غير مصدقة.. أنا لن أذهب للمدرسة مرة أخرى.. أحمد كان يخبط علينا كل يوم ويصحبني معه، كان يعاملنى أحسن من أشقائى ويخاف علىَّ، وعندما كانت تحدث مشكلة معى يقوم بحلها، كان إنسانا طيبا وصادقا أنقذ حياتى وفقد حياته، والله كرهت الحياة، وتمنيت أن العمود سقط عليّ أنا. تلقى اللواء محمود فاروق، مدير مباحث الجيزة، إخطارا من قسم شرطة الهرم، بمقتل تلميذ بعد سقوط عمود إنارة عليه، وانتقل مروان مشرف رئيس مباحث قسم الهرم، ومعاوناه الرائد محمد نوفل والرائد محمد مختار إلى محل البلاغ، وتحرر محضر بالواقعة. واستمع اللواء مجدي عبدالعال، نائب مدير مباحث الجيزة، لأسرة الطالب، وأمر بسرعة إجراء تحريات المباحث حول الواقعة، واستدعاء رئيس حي الهرم، للاستماع لأقواله في المحضر، الذي تم تحريره ضد سائقي الونش وسيارة رفع القمامة، حول الواقعة. من النسخة الورقية