الكتابة الساخرة فن لا يملكه إلا قلة في العالم، فتعد من اصعب انواع الكتابات، قد يكتب الباحثون مقالات وتحقيقات مطولة عن الفساد لن يقرأها أو يفهمها إلا بضعة اشخاص، اما الكتابة الساخرة باللهجة الشعبية واللغة الدارجة فيقرأها الملايين من البشر، ويفهمونها بسرعة، ويكون لها بالغ الاثر في نفوسهم ويتناقلونها في حياتهم وتكون محور أحاديثهم. كان الكاتب الراحل أحمد رجب من القلائل الذين حباهم الله بتلك الملَكة، فهو ساخر مثالى يهدف في كتابته إلى إصلاح السياسات الخاطئة، وتغييرها، لكنه لم يكن وحده فهناك ساخرون آخرون ساروا على نفس الدرب فلم يتجاوز عددهم يوما أصابع اليد الواحدة فالكتاب الساخرون عملة نادرة فإذا بحثت ونقبت عن رموز الكتابة الساخرة في مصر فلن تتذكر من الساخرين العظماء سوى أحمد بهجت، محمود السعدني، محمد عفيفي وجلال عامر. ملك الإيجاز بلا منازع فالراحل أحمد رجب كان يرى "أن الساخر ليس مضحكا، والكتابة الساخرة ليست تنكيتا، بل هي كتابة جادة، أما النكتة، فلا تزدهر إلا في أكثر العصور قمعًا " فأحمد رجب هو ملك الإيجاز بلا منازع وسخريته كانت أشبه بلسعة الكرباج لا يعرف اللف والدوران وانما التركيز على الهدف واصابته في مقتل فقال عنه رفيق دربه الراحل الفنان مصطفى حسين "لا يمكن لأحد أن يزعم أنه يعرف أحمد رجب، قليلون هم الذين اقتربوا منه، فقد عرف أحمد رجب كيف يحترم وقت القارئ وترجم ذلك في الكتابة باختصار وتركيز شديدين، حيث لا وقت عند القارئ إلى اللت والعجن". كانت البداية في صيف 1951 عندما ذهب موسى صبري إلى مكتب أخبار اليوم بالإسكندرية ولفت انتباهه وهو يراجع الأخبار، أخبارًا مكتوبة بخط جميل بالحبر البنفسجي، فسأل عن كاتبها فقدموا له شابًا قدم له مجلة كان يصدرها في الجامعة، وانبهر صبري بأسلوب أحمد رجب الساخر.. وعندما عاد إلى القاهرة استدعاه إلى القاهرة ليعمل في مجلة "الجيل".. نزل رجب إلى القاهرة وحينها كتب أول مقال عن القارئ الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، وحمل المقال عنوان " عبدالباسط براندو"، تشبيها له بالممثل الوسيم مارلون براندو تحدث في مقاله عن براعته بين زملائه في عالم التلاوة، وحقق المقال شهرة واسعة دفعت مجلة «نيوزويك» الأمريكية إلى نقله، كما ارتفع بسببه أجر الشيخ عبد الباسط من 20 إلى 100 جنيه. ويرى رجب أنه تعلم أصول مهنة الصحافة في «أخبار اليوم» على يد مصطفى أمين، بينما أجاد فن الاختصار مما تعلمه على يد على أمين، الذي طلب منه أن يختصر موضوعًا كان مكتوبًا في 10 صفحات ليجعله في 5 فقط. وأعد رجب الموضوع مختصرًا، ليفاجئه على أمين، بأن المطلوب هو الاختصار في 3 ورقات، فكان له ما طلب، ليقرر أن يكون الاختصار في صفحة واحدة إلى أن وصل الاختصار لنصف صفحة. فتعلم " رجب " الإيجاز من كلمات حفظها عن ظهر قلب من على أمين: «احترم وقت القارئ، اكتب باختصار وتركيز هناك أدوات حضارية تنافسك كالراديو مثلًا، فكن على مستوى المنافسة، عندما تكتب اكتب باختصار وكأنك تكتب برقية ستدفع عن كل كلمة فيها قرشًا ". والمعروف عن أحمد رجب، أنه رجل جاد، حاد، لا تخرج سخريته وفكاهته بطلاقة إلا على الورق، فهو رجل يجيد التحكم في عضلات وجهه بشكل كبير لا تراه ضاحكا الا بصحبة من يحب من أصدقاؤه المقربين،ولا يقابل في مكتبه إلا من يراه صادقا فقد يرفض لقاء مسئول ويجلس لمقابلة فشخصيته عبارة عن مزيج يجمع بين شهامة إبن البلد وحكمة الفيلسوف، وخفة دم المهرج، وتواضع العالم. " أنا جوز شادية " في الستينيات انطلقت شائعة تقول إن أحمد رجب، هو الزوج الثالث لشادية، وصارت هذه الشائعة حديث الساعة، وتحرص الصحف على نشر تطوراتها، بطلى الشائعة اثنان من المشاهير قد بلغا قمة مجدهما في هذه الفترة، وكان يجمع بينهما لقاء ثابت في منزل مصطفى أمين. دارت ماكينة الشائعات بقوة لتصدر أخبارا حول نوع العلاقة بين الفنانة المعروفة والكاتب الساخر وحينها قام أحمد رجب بكتابة مقالا في مجلة «الجيل» تحت عنوان «أنا جوز شادية» ليرد به على الشائعات بطريقته الساخرة قائلا: فجأة كدت أصبح جوز شادية، وفجأة أيضا كدت أتحول إلى طبق فتة لزملائى الصحفيين، وخصوصا زميلى المهذب المتربى المؤدب ابن الناس «جليل البندارى» الشهير ب«جليل الأدب»، فإذا شاهدنى زملائى أراقص شادية في أيام الخطوبة والغرام الحامى، وضعوا اسمى " ملفوفا" في باب " أخبار الناس " قائلين مطربة سينمائية معروفة كانت ترقص مع صحفى شاب في "بلفدير هيلتون" طوال الليل، واليد باليد، والخد على الخد والزواج في الغد. فإذا تزوجتها نقلوا اسمى من باب أخبار الناس إلى الصفحة الأولى مع صورتى طبعا.. فإذا قضينا شهر العسل نقلوا اسمى بعد تسعة أشهر من الصفحة الأولى إلى باب "مواليد الأمس" مسبوقا باسم النبى حارسه أنبته الله نباتا حسنا.. فإذا أثارت شادية غيرتى وضربتها قلمين نقلوا اسمى من "مواليد الأمس" إلى حوادث أمس، فإذا أصرت شادية على الطلاق وطلبت أنا ألف جنيه لأطلقها نقلوا اسمى إلى صفحة الجرائم! وهكذا ظل اسمى يتجول ويتنزه في طول الجريدة وعرضها لأننى جوز شادية وقد كدت هذا الأسبوع أصبح ذلك الجوز، والحكاية في منتهى البساطة يمكن أن تحدث لك فجأة كما حدثت لى! وكان هذا المقال نفيا من أحمد رجب أنه تزوج شادية ولخص فيه أيضا ما تعرضت له في زواجها الثانى بالمهندس عزيز فتحى الذي طلب منها ألف جنيه حتى يوافق على طلاقها. لكن الشائعات لم تهدأ، وتوجه أحد الصحافيين بسؤال إلى شادية عن علاقتها بأحمد رجب فقالت: شرف لىّ إنى أرتبط بصحافى لامع زى الأستاذ أحمد رجب، لكن «ده ماحصلش».. كل الحكاية إنه صديق مقرب أعتز بصداقته مثله مثل كل القريبين منّى الذين تجمعنى بهم صداقة بريئة وجميلة. مريض بالملل العاطفي لكن قصة الحب الحقيقي التي عاشها أحمد رجب ولم يعرفها أحد كانت مع فنانة استعراضية عظيمة لا تقل شهرة عن شادية، كان يطلق عليها في كتابته لقب " الليدى"، وكان يحبها بدرجة غير عادية، جعلته يقرر الارتباط بها، لكن مصطفى وعلى أمين تدخلا ورفضا زواجهما، فغضب أحمد رجب لكن التوأمين أصرا، وقام مصطفى أمين بإعطائه تذاكر سفر إلى روما ولندن وبيروت حتى يبتعد عنها، وقال له "مش عايز منك شغل.. سافر ولما تنساها ارجع "، وبالفعل سافر أحمد رجب إلى الخارج، وعندما عاد تزوج. وطوال فترة زواجه منذ عام 61 حتى وفاة زوجته في يناير 1992 لم يرَ زوجتَه سوى أقرب الناس إليه، وقد انعكس حبه لها وارتباطه بها على عمله فكتب عددا كبيرا من الكتب عن المرأة، لكن في الوقت نفسه لم يقف الحب حائلا أمام قدراته كساخر فقد كتب يقول: الزواج كورقة اليانصيب، مع فارق صغير هو أن ورقة اليانصيب تكسب أحيانا. وكذلك قال أنا مريض بالملل العاطفي، لا أستطيع أن أحب امرأة أكثر من شهر حتى ولو كانت ملكة جمال الكرة الأرضية !! واليوم كان اللقاء الأخير مع دولِّي التي عرفتها منذ واحد وعشرين يومًا، سألتني دولِّي: من اللاتي عرفتهن قبلي؟ قلت لها وأنا أحصي عدد اللواتي عرفتهن في الشهور الأخيرة: سونيا ونانو ودورا وماجي وطامو وفيفيت وتوتي ولولا وميمي وروكي وريري، ثم أنت، ثم فافي. قالت في دهشة واستنكار: أتقول فافي بعدي؟ قلت لها في هدوء: بعدك يا روحي. انتفضت دولِّي واقفة والتقطت حقيبة يدها من فوق المائدة وانصرفت غاضبة. الحمد لله.. مع السلامة. مسكينة زوجتي كريمة !! الكاتب أراد من هذا الكلمات التي جاءت في كتابه الحب وسنينه لتوصيل فكرة معينة الا وهي أن المرأة كائن اسطوري هدفه الاوحد في الحياة هو اصطياد الرجل الضحية البريء الذي لم يصل حتى الآن إلى وسيلة كي يتفاهم مع المرأة تلك الكائن المعقد في مشاعره وأفكاره. وعادة كانت تحقق كتب الراحل أحمد رجب أرقام مبيعات ليس لها مثيل وكتبت عنه الصحف الأجنبية أنه الكاتب الأكثر تأثيرًا وظلت كتبه الأكثر مبيعًا لدرجة أن وكالة رويترز قالت إنها " تُباع كقطع الحلوى في الأسواق"، وذلك عندما وصلت مبيعات كتاب " أي كلام " إلى 90 ألف نسخة في عام 1990.. لم يهوى أحمد رجب الظهور على شاشات التليفزيون فلم يظهر على شاشاته منذ نشأته في 21 يوليو 1960 حتى الآن سوى مرة واحدة فقط مع الإعلامي طارق حبيب، ولم تستطع الفضائيات -على كثرتها- إغراءه بالظهور فيها لدرجة أن إحدى الفضائيات عرضت عليه مبلغا ماليا ضخما للظهور على شاشتها لمدة ساعة واحدة فقط لكنه رفض، وعندما سألته عن سر امتناعه عن الظهور في التليفزيون قال: لا أحب الظهور في التليفزيون لأنه يصنع للناس شهرة زائفة، فهناك شخصيات صنعت مجدها من الظهور في التليفزيون دون أن تنتج شيئا مفيدا. ويعتبر أحمد رجب كان من أشد المتابعين لما يقدمه التليفزيون البريطانى من برامج ومسلسلات تُسهِم في الارتقاء بمستوى المشاهد، لذلك فهو يقارن بينه وبين التليفزيون في بلادنا قائلا: عندما تجلس أمام التليفزيون البريطانى تجد إنتاجا فكريا متميزا تقدمه مجموعة تليفزيونيين على درجة عالية من الثقافة والقدرة على الاستمالة والوصول إلى عقلك وقلبك، الأمر الذي يدفعك إلى المقارنة بالتليفزيون المصرى بما فيه من فكر متواضع وساذج، لكنك لن تلبث أن تكتشف أن المقارنة غير عادلة من جوانب متعددة، خذ على سبيل المثال أصل الفكرة من وجود التليفزيون: ففى بريطانيا نجحت جمعية رعاية المسجونين في مساعيها فأدخلت التليفزيون إلى السجون للترفيه والتثقيف، بينما اعترضت جمعيات رعاية المساجين في بلادنا على إدخال التليفزيون في السجون لاعتباره عقوبة إضافية لم ينصّ عليها حكم المحكمة. فساهم التليفزيون في تقديم مادة خصبة لأحمد رجب، فكتب قائلا: نحن لا نريد أن نظلم التليفزيون فنكتفى بما يشكو منه الناس من ملل وكآبة، بل يجب أن نقول ما للتليفزيون وما عليه، وقد سمعت من مصدر ثقة أن خبيرا أجنبيا درس برامج التليفزيون عندنا وانتهى إلى أنها تحمل كل المواصفات الناجحة للبرامج التي تبث للمتخلفين عقليا! عاش أحمد رجب سنوات عمره في أخبار اليوم فكانت له مثل الماء للسمك لم يغادرها لينتشر، أو يعيد إنتاج نفسه فمكانه محجوز يوميا في جريدة الأخبار " نصف كلمة " وله آراء سياسية وابتكر العديد من الشخصيات الساخرة ورسمها مصطفى حسين بريشته المميزة، ليخرجا لنا "عزيز بك الأليت"، "الكحيت"، "كمبورة"، "عبده مشتاق"، وغيرهم من الشخصيات، التي ابتكروها على صفحات الجريدة بالإضافة لمسلسلهما الذي كان يذاع في رمضان في الثمانينات "ناس وناس". لم يتحمل أحمد رجب فراق رفيق دربه رسام الكاريكاتير الكبير مصطفى حسين الذي وافته المنية في 16 أغسطس الماضي عن عمر 79 عاما، وبعد رحيل مصطفى حسين كان يفتتح أحمد رجب عموده اليومي "نصف كلمة" بالدعاء لصديقه بقوله: "يا رب حياة مصطفى حسين بين يديك، إنا نتوسل ونستجدي، ونطمع في قدرتك يا من تعطي بلا حساب، يا أرحم الراحمين". وبعد أن توفى الفنان الكبير مصطفى حسين، لم يمسك أحمد رجب القلم مرة أخرى، وكأنه ودع الحياة بوفاة صديقه، حتى لحقه، وفي نفس الشهر عن عمر يناهز 86 عام لتنتهي حكاية دويتو الكوميديا المصرية أحمد رجب ومصطفى حسين ".