في ظل المشهد السياسي المصري الراهن وأسئلة الانتخابات البرلمانية المقبلة، تواجه ثقافة الديمقراطية تحديات تبحث عن حلول وإجابات تخدم الوطن ولا تتنكر في الوقت ذاته لهموم الأغلبية الشعبية وأهداف الثورة أو تتجاهل تعقيدات الواقع. وفيما تتردد عبارة "ثقافة الديمقراطية" فى خضم المشهد المصري الحالي وباعتبارها الحل لأي خلافات أو نزاعات سياسية، فإن هذه التحديات ومعالجة تعقيدات الواقع والمطاعن فى النماذج الديمقراطية مهمة المثقفين بالدرجة الأولى بقدر ما تبدو الثقافة المصرية مدعوة لإسهامات جديدة على هذا المضمار. وإذا كان البعض قد اختطف فكرة مقاومة إسرائيل لأغراض قد تكون بعيدة عن المقاومة بقدر ما هى قريبة من السيطرة على شعوب المنطقة وتعريض بلدانها للخراب فإن فكرة الديمقراطية ليست بعيدة عن ممارسات الخطف والاستغلال لأغراض لا علاقة لها بالحرية واحترام إرادة الشعب. إنها لعبة تحريف المفاهيم عن مواضعها وتعميق الانقسامات المخيفة، بينما يرى مفكر ومثقف مصري كبير بحجم السيد ياسين إن "أول ملمح من ملامح المشهد السياسي الراهن هو التشرذم الشديد بين صفوف النخبة الليبرالية واليسارية"، مستشهدا على ذلك ب"لعبة التحالفات السياسية المعقدة". وفي كلمة وجهها للأمة مؤخرا، قال الرئيس عبد الفتاح السيسي "إن مصر تخوض معركة وجود منذ سنين ضد من يسعون لهدم الدولة وأن العمل جار حاليا لتقف البلاد على قدميها مرة أخرى وهو جهد يحتاج إلى وقت ولكننا قادرون عليه وسننتصر". وفي وضع وصفه رئيس الدولة بأنه "معركة وجود" ينبغي التحذير في الانتخابات البرلمانية المقبلة من الباحثين عن مكاسب شخصية أو وجاهة سياسية، ناهيك عن الذين اقترنوا في العقل العام للمجتمع بممارسات الفساد او الجماعات الظلامية والتي تتفاخر بمناوئتها لمفاهيم الوطنية. ووصف المفكر المصري السيد ياسين في صحيفة "الأهرام" الانتخابات البرلمانية المقبلة بأنها الخطوة الحاسمة الثالثة في "خريطة الطريق" بعد إنجاز الدستور الجديد وانتخابات الرئاسة، موضحا أن الانتخابات البرلمانية السابقة جرت فيها عملية "سرقة الثورة جهارا نهارا". أما عن المشهد الراهن فيقول السيد ياسين: "تجرى لعبة التحالفات السياسية في حين أن أكثر من 300 ائتلاف ثوري خارج الميدان لأن أغلب هذه الائتلافات وهمية"، ومن ثم يمكن القول إنه لن يكون لها تمثيل حقيقي في البرلمان يعبر عن روح الثورة التي أشعلها الشباب. وفي ضوء معطيات "البنية الاجتماعية التقليدية والبنية الثقافية المتخلفة"، لا يبدي المفكر السيد ياسين تفاؤلا إزاء نتائج الانتخابات المقبلة، ومعنى ذلك على حد قوله إن "مصر معرضة لمخاطر جسيمة تتمثل في احتمال أن يأتي برلمان تقليدي في الزمن الثوري الذي نعيشه ويحتاج إلى برلمان شاب عفي يعبر حقيقة عن روح 25 يناير و30 يونيو". وفيما خلص إلى أن "نتيجة الانتخابات البرلمانية القادمة ستؤثر تأثيرا بالغا على مستقبل مصر في العقود القادمة"، اعتبر هذا المفكر أن المسئولية على عاتق المجتمع السياسي بكل فصائله جسيمة، داعيا التيارات السياسية الليبرالية واليسارية والثورية، ليس فقط للتوحد وإنما أيضا لإحكام صلتها بالشارع السياسي حتى تضمن تمثيلا مشرفا في البرلمان القادم. ومع اختلاف التفسيرات وتعدد الرؤى يكاد أغلب المحللين والمعلقين والمعنيين بالشأن العام في مصر يتفقون على ضعف الأحزاب السياسية وافتقارها للتأثير المفترض في الشارع المصري وهى ظاهرة واضحة لكل ذي عينين. وتبدو هذه الظاهرة وراء ما يتردد من تكهنات حول إمكانية تأجيل إجراء الانتخابات البرلمانية، فيما بدت فكرة التأجيل بدورها موضع خلافات عميقة بين مؤيدين ومعارضين كما يتجلى في عديد الطروحات والآراء بالصحف ووسائل الإعلام. وفي الوقت ذاته، فإن أي مصري يعتز بالانتماء لهذا الوطن لا يمكنه قبول فكرة عدم جدارة المصريين بالديمقراطية أو تأجيلها لأجل غير مسمى لأن هذا المفهوم بقدر ما ينطوي على إهانة لشعب مصر يحمل أضرارا جسيمة حتى لعملية التنمية الشاملة المنشودة ويعيد إنتاج خطأ تاريخي لثورة 23 يوليو بلغ حد الخطيئة بعد أن تسبب في تقويض التجربة ككل وإهدار أغلب إنجازاتها. بل إن غياب الديمقراطية أو تغييبها كان أحد أهم أسباب فشل الأنظمة العربية التي رفعت شعارات القومية العربية وتبنت مباديء الوحدة، فيما باتت هذه الأنظمة عمليا في ذمة التاريخ وأسدل عليها الستار بصورة مأساوية رغم أنه لا يمكن تجريد بعضها من النوايا الحسنة والأماني الصادقة في صنع التقدم وتحقيق العدالة. وإذا جازت الاستعارة من سياقات ديمقراطية في دول أخرى فإن للعقل الثقافي المصري أن يبحث في أفضل السبل "لبناء مصر الديمقراطية الأفضل"، كما تحدث فيلسوف السياسة الأمريكي جون راولز وصاحب "نظرية العدالة" وأحد أهم مفكري الغرب في القرن العشرين عن "بناء أمريكا أفضل". فقد طور جون راولز نظرية عن العدالة والنزاهة بدأت بمقالة في مجلة فلسفية وترتكز على مبدأين أساسيين: ضمان الحريات الأساسية للجميع وألا تؤدي التمايزات أو حالة عدم المساواة الواقعية في الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية للمواطنين إلى الإخلال الجوهري بالمساواة الفعلية في الفرص أمام الجميع. وهنا بالتحديد، أي في ضمان تكافؤ الفرص رغم اختلاف الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية للمواطنين في واقع المجتمع الأمريكي يكمن إسهامه الكبير في ثقافة الديمقراطية، فيما يؤكد جون راولز على أن فكرة "المشروع المشترك" في الرأسمالية الجيدة تعني "قواعد عادلة لكل الأطراف ومراعاة المصالح الأساسية لكل مكونات الشراكة "، وهو ما ينبغي أن يكون على مستوى المجتمع ضمن سياق عام يجيب على أسئلة الثقافة والتاريخ والملاءمات السياسية. فجون راولز؛ أحد المهمومين ببناء نظرية أفضل للديمقراطية في الولاياتالمتحدة تقلل قدر الإمكان من نتائج عدم المساواة في الأوضاع الواقعية من الناحية الاقتصادية - الاجتماعية بالمجتمع الرأسمالي على مبدأ المساواة المنصوص عليه دستوريا وعلى فكرة الديمقراطية ذاتها والحرية كقيمة. وإذا كان جون راولز الذي أصدر في عام 1971 كتابه الشهير:"نظرية العدالة" وهو ابن المجتمع الأمريكي بثقافته وأفكاره وقيمه، قد وضع فكره في خدمة قضية تقدم شعبه، فهل يمكن أن ينتج المجتمع المصري وثقافة الثورة الشعبية مفكرين يسهمون بنظريات مؤثرة في ثقافة الديمقراطية تدفع بلادهم إلى الأمام كما في حالة راولز أم يكتفي المثقفون المصريون بحالة الاستقطاب؟ يرى السياسي والمثقف المصري عبد الغفار شكر أن إجراء الانتخابات البرلمانية واختيار الشعب نوابه بحرية قبل نهاية العام الحالي أمر من شأنه استكمال أركان البنيان الديمقراطي للنظام السياسي الجديد وترجمة مباديء وأحكام الدستور في القوانين المصرية فيما رد على مقولة إن "الأحزاب في حاجة للاستعداد للانتخابات" قائلا: "إن الأحزاب تقوى بالمشاركة في الانتخابات". وها هو مثقف مصري كبير اخر هو الدكتور جلال أمين قد رأى أن "أزمة الحرية في بلادنا هى نتيجة لأزمة الحكم التي كانت وليدة أزمة المجتمع"، معتبرا أن الخطر الأساسي هو "خطر الغيبوبة الفكرية والبعد عن العقلانية"، فيما وصف "الاستقطاب" ب"الظاهرة السيئة للغاية". ويقول الباحث والكاتب نبيل عبد الفتاح في طرح بجريدة "الأهرام": "لم يعد القانون خلال أكثر من أربعين عاما مضت تعبيرا عن الإرادة العامة للأمة أو الشعب وذلك لأن المشرع لم يكن يعبر في تشكيلات البرلمانات عن المجموع الاجتماعي من خلال انتخابات حرة ونزيهة وذات ضمانات وإنما كانت تعبيرا عن إرادة ومصالح نخبة الحكم العليا وبعض مراكز القوى حولها". وأضاف "ومن ثم لم نكن إزاء نظام يؤمن بالديمقراطية وقواعدها وآلياتها والأهم القوانين المعبرة عن الإرادة العامة للأمة ومصالح الأغلبية وإنما هيمن قانون القوة الغشوم والنخبة العليا المسيطرة على الدولة والسلطة والقانون". ومن هنا - كما يقول نبيل عبد الفتاح - تآكلت هيبة وفعالية قانون الدولة ومن ثم احترامه لدى المخاطبين بأحكامه وشاعت ظاهرة فرض القانون الخاص للبعض بقوة الأمر الواقع، فيما جاءت العملية الثورية في 25 يناير 2011 تعبيرا عن أزمة الدولة والقانون والنظام والنخبة والحريات. وأعاد للأذهان أن بعض تشريعات البرلمان المنتخب في ظل النظام السابق كانت تعبيرا صريحا وسافرا عن مصالح القوى المسيطرة على البرلمان ولم تعكس التوافق الوطني أو التوازن بين المصالح المختلفة، ومن ثم تم تسييس الإنتاج التشريعي ووصلت ذروة ذلك في الانقلاب الدستوري بإصدار رئيس هذا النظام إعلان 22 نوفمبر 2012. كما لفت الباحث والكاتب نبيل عبد الفتاح إلى ضعف الخبرة التشريعية للتركيبة البرلمانية لأعضاء مجلسي الشعب والشورى في ظل النظام السابق، وهو ما أثر سلبا على الإنتاج التشريعي، والأخطر عدم استيعاب بعض أعضاء البرلمان وظائفه وتحوله إلى منبر للصراع مع أجهزة الدولة الأخرى في السلطة التنفيذية وكذلك القضاء. وضمن تصوراته لتكوين وصياغة سياسة تشريعية إصلاحية جديدة قادرة على بلورة القيم السياسية والاجتماعية الجديدة، يدعو نبيل عبد الفتاح لرعاية مصالح الأغلبية الشعبية وإجراء دراسات سوسيو - قانونية واقتصادية وثقافية حول طبيعة المصالح التي يتعين على المشرع الانحياز لها ومساعدة أعضاء البرلمان من خلال تعيين مستشارين قانونيين وعلماء اجتماع للمجموعات الحزبية واللجان المختلفة لتطوير أدائهم في إعداد مشروعات القوانين. وإذا كان لا يمكن الآن في زماننا الذي نعيش مكوناته أن نفصل بين ما هو سياسي واجتماعي وما هو سياسي وثقافي، فإن أدبيات ثقافة الديمقراطية في مصر والعالم العربي لا يزال ينقصها الكثير للحاق بركب الأدبيات العالمية. إن مصالح شعب مصر تتطلب إعلاء ثقافة الديمقراطية ولتخفف بعض النخب ولو قليلا من رطانة الاستعلاء ومحاولات السباحة في الرمال ولتبحث عن لغة جديدة تصاهر بها رجل الشارع وأفعال تلتحم بها مع الشعب!.