ربما تدفعنا أرقام السعرات الحرارية المضللة على علب وأغلفة الطعام إلى الإكثار من تناول الأطعمة المعالجة الغنية بالطاقة. للمرة الأولى منذ عقدين، تقترح إدارة الأغذية والأدوية الأميركية تغييرات كبيرة في طريقة عرض المعلومات الغذائية على أغلفة الطعام. وإذا حظيت هذه التغييرات بالموافقة، سيُضطر المصنعون إلى تدوين عدد السعرات الحرارية في كل حصة بأرقام كبيرة يصعب تجاهلها. وقد رحّب خبراء التغذية بهذا التغيير، لأنهم يظنون أن إبراز عدد السعرات الحرارية سيساعد الناس في خسارة الوزن وعدم اكتسابه من جديد. ولكن هل كمية السعرات الحرارية المحددة دقيقة؟ ربما لا، حسبما يجيب ريتشارد رانغهام، عالم من جامعة هارفارد يعتقد أن الكثير من الأرقام الرسمية غير دقيق. يذكر: (عندما تكون الأطعمة معالجة كثيرًا، مثل الخبز الأبيض أو حلوى Twinkie، تبدو كمية السعرات الحرارية المحددة دقيقة عادةً. ولكن في الأطعمة الأقل معالجة، تحصل على الأرجح على سعرات حرارية أقل من القيمة المحددة رسميًا). ويعتقد رانغهام أن بعض الأرقام المحددة يخطئ بنسبة 30% أو أكثر. يعود ذلك إلى أن عملية تحديد كمية السعرات الحرارية على الأغلفة تتبع طريقة تتجاهل ما إذا كان الطعام معالجًا، مطهوًا، أو معدًا بطريقة تسهل الهضم. يذكر رانغهام أن بنية الطعام الفعلية تؤثر في الكمية التي يمتصها الجسم منه. لذلك تحتوي الأطعمة الصعبة الهضم، مثل الحبوب الكاملة أو الكالي النيء، على عدد أقل من السعرات الحرارية، مقارنة بالأطعمة المعالجة، مثل الخبز الأبيض أو مشروب الكالي المعد في الخلاط الكهربائي.ولكن بتضليل المستهلكين ودفعهم إلى التفكير أنهم يحصلون على القيمة عينها من السعرات الحرارية من وزن محدد من الأطعمة، بغض النظر عما إذا كانت معالجة أو لا، يظن رانغهام أن عدد السعرات الحرارية على الأغلفة تدفعنا على الأرجح إلى تناول أطعمة مليئة بالطاقة بدل الأطعمة الكاملة التي تشعرنا بالشبع من دون أن تزيد من وزننا. لكن طرح رانغهام هذا مثير للجدل، ويعود ذلك في جزء منه إلى أنه ليس خبير تغذية. فهو بروفسور متخصص في علم الإنسان الحيوي، علمًا أن هذا الحقل لا يؤدي عادةً دورًا كبيرًا في مجال التغذية. لكن الرحلة التي قادته من دراسة تطور الإنسان إلى انتقاد أغلفة الأطعمة بدأت في سبعينيات القرن الماضي، حين كان يدرس سلوك الشمبانزي الغذائي في البرية. فقد دفعه الفضول إلى محاولة اتباع نمط الغذاء نفسه مثل الشمبانزي ليوم (مهمة تبين أنها مستحيلة تقريبًا) لأن الأطعمة النيئة صعبة المضغ والهضم. دفعه هذا إلى التساؤل عما إذا كان الطهو، الذي يسهّل هضم الطعام، قد أدى دورًا كبيرًا في تطور الإنسان. وفي عام 2009، نشر رانغهام كتابًا بعنوان Catching Fire: How Cooking Made Us Human (كيف يجعلنا الطبخ بشرًا) ذكر فيه أن ابتكار الطهو (بتفكيكه المواد المغذية وجعل عملية تناول الطعام وحرقه أكثر سهولة) أتاح للبشر الأوائل الحصول على ما يكفي من السعرات الحرارية لتلبية حاجتهم المتزايدة إلى الطاقة لتعزيز نمو أدمغتهم. يدعم عدد من الاكتشافات الأخيرة فكرة رانغهام هذه. ففي الجامعة الفدرالية في ريو دي جانيرو في البرازيل، حللت عالمة الأعصاب سوزانا هيركولانو-هوزيل وزملاؤها عدد الخلايا العصبية في الرئيسيات مقارنة بدماغ الإنسان وكمية الطاقة الضرورية لتشغيلها. باتباع نظام غذائي يعتمد على الطعام النيء، يمضي الشمبانزي 7.3 ساعات من يومه في تناول الطعام. أما الغوريلا فتمضي 8.8 ساعات. وإذا اعتمد الإنسان بدماغه الذي يستهلك الكثير من الطاقة على نظام غذائي نيء، فعليه أن يخصص 9.3 ساعات لتناول الطعام.توضح هيركولانو-هوزيل: (عندما نتأمل استهلاك الطاقة، ندرك أن القردة العليا ما كانت تستطيع امتلاك أدمغة كبيرة، شأنها في ذلك شأن البشر. لكن وجه الاختلاف الوحيد يكمن في أنّ أسلافنا تعلّموا الطهو قبل 1.5 مليون سنة). تقدّم الدراسات التي تتناول مَن يحرصون على تناول المقدار الأكبر من طعامهم نيئًا وغير معالج أدلة إضافية. فيعاني مَن يقتصر طعامهم على أطعمة نيئة من نقص مزمن في الطاقة وخسارة في الوزن. يوضح رانغهام: (يجوّعون أنفسهم ويحرمون أجسامهم من السعرات الحرارية). فقد أظهرت دراسة شملت 513 شخصًا انتقلوا من تناول الأطعمة المطهوة إلى نظام يقوم بمعظمه على المأكولات النيئة أن المشاركين فيها خسروا كمية كبيرة من الوزن: النساء ما معدله 12 كيلوغرامًا والرجال 9.8 كيلوغرامات. إضافة إلى ذلك، عانت النساء بمرور الوقت من انقطاع دورتهن الدموية بسبب النقص في الطاقة. لطالما عرف العلماء أن الطهو يسهّل عملية استهلاك السعرات الحرارية من الأطعمة النشوية. ففي دراسة أُجريت عام 2011 على الفئران، أظهرت رايتشل كارمودي، باحثة في هارفارد وإحدى زميلات رانغهام، أن اللحم المطهو يزود الجسم أيضًا بكمية أكبر من السعرات الحرارية، مقارنة باللحم النيء. فقد ازدادت الفئران التي تناولت اللحم المطهو وزنًا، مقارنة بالفئران التي أكلت الكمية ذاتها من اللحم، إنما من دون طهوه. يذكر رانغهام أن هذا منطقي ذلك أن الطهو يسهل عملية هضم الطعام، لذلك يستهلك الجسم عددًا أقل من السعرات الحرارية لهضمه، ما يوفّر الطاقة لوظائف أخرى. تعود مشكلة رانغهام مع أغلفة الأطعمة إلى أن عدد السعرات الحرارة الرسمي لا يأخذ في الاعتبار الطاقة الضرورية لهضم هذه الأطعمة. تعود الطريقة المعتمدة لاحتساب السعرات الحرارية (والكثير من الأرقام الرسمية الأخرى) إلى أبحاث أجراها عالم الكيمياء ويلبر أولىن أتواتر في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. لكن الباحثين على مر السنين طوّروا أسلوب أتواتر وجعلوه أكثر دقة. رغم ذلك، يقر خبراء التغذية أن هذه الأرقام مجرد تقديرات في أفضل الأحوال. ويتبيّن أن بعض هذه التقديرات خاطئ. قبل بضع سنوات، أجرى العالم ديفيد باير وفريق باحثين من قسم الأبحاث الزراعية في وزارة الزراعة الأميركية دراسة حول الجوزيات. يوضح باير: (استخدمنا تصميمًا جديدًا في تجاربنا واكتشفنا أن حصة من الفستق الحلبي تمد الجسم بعدد أقل من السعرات الحرارية بنسبة 5%، مقارنة بما تشير إليه الأرقام المحددة على أغلفته. أما اللوز، فيحتوي سعرات حرارية أقل بنحو 20%). يظن باير أن ذلك يعود إلى أن الدهون في الجوزبات موجودة في جدران خلايا لا يستطيع جهاز الإنسان الهضمي تفكيكها بسهولة. لذلك يمر بعضها في الجسم من دون أن يخلّف أي تأثير. كذلك أطلق هذا الفريق دراسة جديدة للمقارنة بين اللوز النيء، اللوز المقطع، وزبدة اللوز. يشير باير: (نتوقع أن يكون هضم الدهون في زبدة اللوز أكثر سهولة لأنها مطحونة). يظن باير أن تحديد السعرات الحرارية في الجوزيات بدقة أكبر على الأغلفة يشجع عددًا أكبر من الناس على تناولها والتمتع بفوائدها الغذائية فقد أظهرت دراسات حديثة أن الجوزيات تحمي من أمراض القلب وبعض أنواع السرطان، وقد تساعد أيضًا الناس في الحفاظ على وزن صحي. لكن هذا العالِم يستدرك مضيفًا أن الجوزيات النيئة قد تشكّل حالة خاصة لأنها تحتوي كميات كبيرة جدًا من الدهون تفوق ما نراه في معظم الأطعمة النباتية الأخرى. لذلك يستبعد التوصل إلى اختلافات مرتفعة تصل إلى نسبة 20% في أطعمة أخرى.رغم ذلك، تضم معظم الأطعمة النباتية كمية كبيرة من الألياف. ولا يكتشف العلماء بعد ما تأثير هذه الألياف في عدد السعرات الحرارية المتوافرة.لذلك يأمل باير الحصول على تمويل لإجراء دراسات تتناول السعرات الحرارية في الفاصوليا وغيرها من البقول، ما سيساهم بالتأكيد في حسم هذه المسألة. يعتبر معظم خبراء التغذية راهنًا أن الفارق بين السعرات الحرارية المتوافرة في طعام والكمية التي يمتصها الجسم فعلًا يجب ألا يشكّل مسألة بالغة الأهمية بالنسبة إلى مَن يودون الحفاظ على وزن صحي.يذكر باير: (صحيح أن طهو الطعام يجعل بعض المواد المغذية أكثر توافرًا، لا يُعتبر الاختلاف بين الأطعمة النيئة والمطهوة بالغة الأهمية في مسألة الحفاظ على وزن صحي). توافق ماريون نستلي، بروفسورة متخصصة في علم التغذية والدراسات الغذائية في جامعة نيويورك شاركت في تأليف كتاب Why Calories Count: From Science to Politics (لمَ السعرات الحرارية مهمة: من العلم إلى سياسات)، باير رأيه. تقول: (يعتمد تحديد كمية السعرات الحرارية على التقديرات. لكن هذه الأرقام جيدة كفاية لأن تناول قضمة إضافية أو تقليل حصة الطعام مقدارًا بسيطًا يكون له تأثير أكبر في عدد السعرات الحرارية من خطأ بسيط في تقديرها).رغم كل الجدل الحاصل بشأن السعرات الحرارية، يجمع الخبراء على رأي واحد عند تقديم النصائح الغذائية. صحيح أن الأطعمة المطهوة والمعالجة هي ما جعلنا بشرًا، إلا أن كثرة المأكولات المعالجة اليوم تسبب السمنة وتلحق أضرارًا كبيرة بصحتنا. لذلك يأمل خبراء التغذية أن يساهم عدد السعرات الحرارية المدون بخط أكبر في دفع الناس إلى القيام بخياراتٍ غذائية ذكية. لكن رانغهام يطالب بتحديد السعرات الحرارية بدقة أكبر على علب المأكولات النيئة وغير المعالجة (الخضر، الحبوب الكاملة، الفاكهة، والجوزيات) لأنه يعتقد أن هذه الخطوة ستشجع الناس على تناول كميات أكبر منها. ولا شك في أن كل خبير تغذية يرحّب بأمر مماثل.