الإسلاميون المصريون والمؤسسة العسكرية في الحسابات الأمريكية خلال تفقده لتدريب “,”رفع كفاءة تشكيلات المدرعات“,” أكد الفريق عبدالفتاح السيسي، القائد العام للقوات المسلحة المصرية ووزير الدفاع والإنتاج الحربي المصري، عدم تدخل الجيش في السياسة، وعدم نزول قوات الجيش إلى الشارع مرة أخرى، لكن لم تمر سوى أيام حتى وقعت جريمة اختطاف الجنود المصريين على يد إحدى فرق “,”السلفية الجهادية“,”، وهي واحدة من امتدادات تنظيم “,”القاعدة“,” التي تتبنى مجمل أفكارها، وتمارس ذات أساليبها، وتسعى منذ سنوات لاختطاف شبه جزيرة سيناء، لتكون أحد مراكز أنشطتها وملاذًا آمنًا لعناصرها الملاحَقين. هذه الواقعة لم ولن تكون الوحيدة من نوعها، ولا شك أن خلفها ملابسات تحمل تساؤلات مشروعة، فما معنى استعانة مؤسسة الرئاسة بقادة جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” للوساطة مع هؤلاء الإرهابيين لإطلاق سراح الجنود، في عملية مساومة رفضها الجيش المصري محقًا شكلاً وموضوعًا، لأنها تنتقص من مكانته وتمس هيبته. ولعل المصريون مازالوا يذكرون الأيام الأولى لحكم الرئيس محمد مرسي حينما اتصل بأحد قادة هذه المنظمات مستعطفًا إياه لتهدئة الأوضاع في سيناء، حتى لا تكون هذه البؤرة سببًا لمشكلات لبدايات عهده، لأنها تتسبب في استنزاف قدرات الجيش في مواجهات وحرب عصابات، فضلاً عن التحرش بإسرائيل التي تترقب أي انفلات أمني يتجاوز حدود الخطر، وفقًا لتقديراتها الاستراتيجية في هذا المضمار. وقائع أخرى كثيرة تؤكد في مجملها أن هذه التنظيمات “,”السلفية الجهادية“,” ليست خارج عباءة جماعة الإخوان، بل هي إحدى أذرعها التي تستخدمها بين الحين والآخر لسبب غير معلن بالضرورة، لكنه لا يبدو لغزًا للمراقب لما يدور في مصر علانية، أو من خلف الكواليس بين نظام الإخوان الحاكم والمؤسسات السيادية في الدولة. يمكن للمرء أن يزعم باطمئنان يستند لسلسلة من الوقائع والتصريحات والمواقف أن جماعة “,”الإخوان“,” تمارس ما يوصف ب“,”الاحتواء المزدوج“,” الذي سبق ومارسته واشنطن مع مجاهدي أفغانستان الذين كانوا نواة لتنظيم “,”القاعدة“,” بعد أن حطّت الحرب أوزارها عقب انسحاب القوات السوفيتية، الأمر ذاته الذي تكرر حين ساهم جهاز “,”موساد“,” لعبة لا تقل خطورة بتشجيع تأسيس جماعة “,”حماس“,” لشق وحدة الصف الفلسطيني وغيرها من الوقائع. الانحياز للثورة ومنذ الأيام الأولى لثورة 25 يناير التي أطاحت بالرئيس السابق حسني مبارك ونظامه، بدا المشهد السياسي المصري مرتبكًا وضبابيًا أمام الإدارة الأمريكية خاصة، والمجتمع الدولي عمومًا، غير أن القوات المسلحة حسمت خيارها بالانحياز الصريح للثورة والثوّار الذين اكتظت بهم ساحات التحرير سواء في العاصمة القاهرة، أو في عواصمالمحافظات المصرية، لكن برز حينها السؤال الأكثر إلحاحًا وخطورة وهو: ما البديل؟ تولى المجلس العسكري زمام الأمور خلال المرحلة الانتقالية، لكن هذا الوضع لم يكن ليستمر، خاصة في ظل الرفض الدولي لمسألة استمرار العسكر في السلطة من جهة، وتواضع خبرات أعضاء المجلس العسكري في المعترك السياسي، ناهيك عن عدم رغبتهم في الحكم، وهو ما أكدته الأيام على النحو الحاصل الآن، لكن كان كل ما يعني القادة العسكريين هو تأمين كل مصالح “,”جمهورية الضباط في مصر“,”، التي رسخت مصالحها منذ حركة الجيش عام 1952، واستقرت حتى أصبحت كأنها القضيب الآخر الذي يسير بالتوازي مع “,”الدولة العميقة“,” ممثلة في الجهاز الإداري والمؤسسات السيادية للحكم في مصر. ولعله لم يعد سرًا ذلك الدعم وتلك المباركة الأمريكية التي تلقتها جماعة “,”الإخوان المسلمين“,” باعتبارها الفصيل الأكثر تنظيمًا على الساحة، وبالتالي فهي القادرة على ضبط الأوضاع في البلاد، وضمان أمن إسرائيل بنفوذها الفكري والتنظيمي على حركة “,”حماس“,” التي تحكم قطاع غزة، وتعد الفرع الفلسطيني للتنظيم الدولي للإخوان. وبالفعل تمكنت الجماعة من إبرام اتفاق “,”هدنة“,” عقب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي أسفر عن مصرع نحو 160 فلسطينيًا، مقابل خمسة إسرائيليين، وتدمير البنية التحتية لحماس في القطاع، فضلاً عن اغتيال أحمد الجعبري أحد قادة الحركة العسكريين. من هنا برز دور الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان التي تربى في كنفها، الذي وصف حينها في نهاية 2012 كرجل يستطيع إقرار اتفاق “,”هدنة“,” يصمد أمام المناوشات اليومية بين “,”حماس“,” وإسرائيل، وساندته في ذلك المخابرات المصرية بما لديها من خبرة في هذا المضمار. العسكر والإخوان على الجانب الآخر كان القادة العسكريون يواجهون الفصل الأخير قبيل تفكيك المجلس العسكري في ظروف اكتنفها غموض لكنها أسفرت في النهاية عن تأمين أعضاء المجلس العسكري وتحصينهم من الملاحقات القضائية، وترضية القادة شخصيًا، فضلاً عن وضع منظومة تحمي كافة الأنشطة الاقتصادية العسكرية، التي لا تقتصر على صناعات المواد الغذائية والملابس وبناء الجسور، بل تشمل أيضًا قطاع السياحة، فالمناطق السياحية الواقعة على البحر الأحمر التي كانت قبل عام 1980 مناطق عسكرية مغلقة تخضع عمليًا لسيطرة المؤسسة العسكرية المصرية. في هذه الأثناء كان الانقسام السياسي قد بلغ ذروته بين الإخوان وحلفائهم الإسلاميين من جهة، وكافة أطياف المعارضة المدنية من جهة أخرى، ويقول الخبير الاستراتيجي اللواء “,”محمود خلف“,”: إن كافة القوى السياسية تورطت في لعبة ممجوجة، هي محاولة الزج بالمؤسسة العسكرية للاستقواء على الخصوم السياسيين، فضلاً عما وصفه ب“,”الممارسات الصبيانية“,” لاغتيالها معنويًا بشعارات مثل “,”يسقط حكم العسكر“,” أو الرهان على انقلاب عسكري، مؤكدًا أن كل هذا حسابات خاطئة، لأن زمن الانقلابات ولّى بغير رجعة، والمؤسسة العسكرية لو شاءت الاستيلاء على مقاليد السلطة لفعلت، وما كان لأحد أن يمنعها، لكنها فضلت أن تظل مؤسسة وطنية احترافية لا شأن لها بالسياسة. وبعد أن حُسمت مسألة انتقال السلطة للرئيس المنتخب محمد مرسي، انتقل الصراع خارج الحدود لخَطْب ود واشنطن والمجتمع الدولي، وفي هذا السياق كشف د. سعد الدين إبراهيم مهندس الاتصالات التي بدأت بين الجماعة وواشنطن منذ أعوام، أنه فتح قنوات الاتصال لأسباب شتى، أبرزها النكاية بنظام مبارك الذي لفق للأكاديمي والناشط المعروف تهمة مختلقة سُجن على أثرها وتعرض لمعاملة قاسية تسببت بانهيار حالته الصحية، لكنه ظل موضع تقدير الإدارات الأمريكية المتعاقبة، يستمعون لرؤيته وتحليله للأمور ليس في مصر فحسب، بل في منطقة الشرق الأوسط برمتها. واشنطن والإسلاميون أصدر مؤخرًا “,”معهد المجلس الأطلسي الأمريكي“,” بواشنطن، تقريرًا كشف فيه عن وساطة جديدة بين الإدارة الأمريكية وأحزاب سلفية مصرية، وهو ما أكده إبراهيم بقوله: إنه لعب دورًا أيضًا لكن هذه المرة بناء على طلب السلفيين، مشيرًا إلى أن واشنطن استقبلت وفدًا في أبريل الماضي رغم العداء التقليدي للسلفيين مع واشنطن التي كالوا لها الاتهامات، لكن ربما كانت الأجواء السياسية المضطربة بمصر وراء تغيير رؤيتهم وكان هدف زيارة وفد قادة “,”حزب النور“,” هو “,”إطلاع المسئولين الأمريكيين على رؤية الحزب، وتغيير الصورة النمطية لدى الغرب عن أفكار الدعوة السلفية“,”، بحسب إبراهيم. وفي سياق متصل التقى القيادي الإخواني المنشق، والمرشح الرئاسي عبدالمنعم أبوالفتوح، السفيرة الأمريكية في مكتبه بمقر حزب “,”مصر القوية“,”، الذي أسسه مؤخرًا، وعقب اللقاء اكتفى ديفيد لينفيلد المتحدث الإعلامي باسم السفارة الأمريكيةبالقاهرة، بالقول إن السفيرة استمعت خلاله لرؤية أبوالفتوح السياسية للأوضاع الراهنة في مصر. لكنه لم يشأ الخوض في تفاصيل اللقاء وملابساته وما انتهى إليه من نتائج . هذا السباق لتيارات الإسلام السياسي في مصر، سعيًا للحصول على خطب ود واشنطن، تزامن مع تسريبات منسوبة للسفيرة الأمريكية، ألمحت خلالها في اجتماع مع كبار رجال الأعمال المصريين بواشنطن إلى أن بلادها تضع ضمن حساباتها دورًا لن يستطيع التصدي له إلا الجيش لإطاحة حكم مرسي والإخوان، وحلفاؤه من “,”السلفيين“,” لانتشال البلاد من احتمالات الاقتتال الأهلي وانهيار الاقتصاد وتعاظم انفلات الأمن لدرجة الفوضى. دور الجيش ويربط دبلوماسي غربي بالقاهرة بين هذه الخيوط قائلاً: “,”إن سياسيين وإعلاميين مصريين روجوا مؤخرًا لصورة إيجابية للمؤسسة العسكرية، مفادها أنها كانت محور السلطة في البلاد وأن كل رؤساء مصر منذ “,”حركة الضباط الأحرار“,” عام 1952 ينتمون للجيش، معتبرًا أن تشابك العلاقات بين المؤسسة العسكرية والسياسية يمثل أهم “,”عمود“,” في الدولة المصرية. ويبرر الدبلوماسي الأوروبي رؤيته بالإشارة إلى أن ترحيب واشنطن باستقبال قادة السلفيين يأتي في إطار سياسة “,”الاحتواء المزدوج“,”، و“,”تجهيز البدائل“,”، خاصة بعد التقارب بين نظام الحكم الإخواني وإيران، للضغط على واشنطن، التي رفضت هذا السلوك صراحة، بينما يبدو موقف السلفيين حيال طهران محسومًا لأسباب عقائدية معلومة ضد ما يصفونه بمحاولة نشر التشيع في مصر. ويؤكد ساسة مصريون حرص واشنطن الإبقاء على “,”صلةٍ ما“,” مع مختلف القوى الفاعلة على الساحة المصرية، لأنها كقوة عظمى لن تدعم سوى الفصيل القادر على ضبط الأوضاع في البلاد باعتباره أمرًا يتصدر مصالحها في دولة محورية إقليميًا في وزن مصر، وما يترتب على انزلاقها للفوضى من كوارث في المنطقة الملتهبة. وأخيرًا.. من المعلوم أن الجيش المصري مؤسسة تمثل كافة أطياف المجتمع، وتحملت خلال الفترة الانتقالية ما يعرفه الجميع من مواقف صعبة، وأيضًا ما لا يعرفه الكثيرون وربما يزاح عنه الستار يومًا، كانت كلها تصب في اتجاه “,”شيطنة المؤسسة“,”، لأن الإخوان يدركون ما قد يجهله “,”الثوار الرومانسيون“,”، وهو أن المؤسسة العسكرية لا يمكن اختزالها في شخص وزير أو رئيس، لهذا انطلقت عملية ممنهجة تستهدف الاغتيال المعنوي تارة، أو توريطها في صراعات سياسية، مثل معركة الإطاحة بالنائب العام السابق، لكن المؤسسة التزمت الحياد في هذه المعركة السياسية وما أعقبها، لكنها لن تبقى متفرجة لو تدهورت الأمور للأسوأ، كما يتفق على ذلك عدد من الخبراء العسكريين الذين تحدثنا معهم في هذا المضمار .